نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 15-12-2013
السنة السابعة
العدد: 2298
الكتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (88)
نحو: احتواء تنشيط مراحل النمو فى العلاج الجمعى
مقدمة:
مازلنا فى صدد تعرية موقع النمو المسمى الموقع البارانوى والذى أفضل تسميته منذ الآن الموقع التوجسى، أو الكرفرّى، وهى حالة متقمصة مع التضخيم والمقصود من إعادة نشرها – فى نطاق العلاج الجمعى – هى الإحاطة بأبعاد الحركية الداخلية بعد تنشيط هذا الموقف النمائى التوجسى فى العلاج بحسابات مسئولة، وحرصٍ كافٍ يسمح باستيعابه، لكن تظل جرعة التعرية (فى الشرح هنا) أكبر من جرعة العلاج حتى نعود تفصيلا إلى تقنيات العلاج.
مزيد عن تعرية الموقف التوجسى وصعوبة الاقتراب
شرحنا فى النشرة السابقة (نشرة 9-12-2013 العلاج الجمعى ينشط مواقف (مواقع) النمو الكامنة) كيف أن هذا التشكيل، يغلب عليه محاولة حقيقية للاقتراب الحذر، ونحن نبدأ هذا الجزء الثانى من تقمصى لاحدى حالات “مجموعة المواجهة” من مفاجأة أن هذا الشخص هو الذى بدأ يتحسس سبيله إلى “علاقة” ما، لكنه كان قد اتخذ موقف “الانتظار”، أكثر من استعداده لمواصلة برنامج “الدخول والخروج”، الذى أشرنا إليه بتاريخ: (15/7/2013 (3) السويقة: حوار العيون المزدحمة بِمَا بِهَا) وأيضا هو يختبر هذه الخطوة الجديدة تجنبا للانسحاب الذى يغرى بأن يعفيه من مواصلة استجداء الرؤية تبادلا مع أشواك التحفز.
موقف الانتظار عموما ليس نادرا فى العلاج الجمعى خاصة فى الأسابيع أو الشهور الأولى، حتى لو شارك أحدهم مشاركة حماسية فى البداية، فعلى المعالج أن ينتبه إلى احتمال أن تكون هذه المشاركة هى مجرد اختبارات مبدئية انتظارا لما لا يعرف، هذا التشكيل يمثل نوعا من “الرضا النِزق بالبقاء على مسافة”، حتى لو ظل الخوف يلازمه. تجسيده للخوف هنا ككيان مستقل يشير إلى رفض داخلى لموقف الانتظار هذا. فقد وصف الخوف هنا وكأنه تجسَد شخصا تملكه الضجر حتى أصبح حالة لا يطيقها مهما كانت مبررات تطويل موقف الانتظار (راضى بخوفى المشْ راضى).
هذا المقطع يظهر أنه مهما أعلن صاحب هذا الموقف رغبته فى الاقتراب، ومهما حاول بداية مشواره نحو تقليل المسافة بينه وبين الآخر، ومهما رضى بالقليل من الاعتراف به، أو سرقة بعض الدفء العاطفى حتى من وراء صاحبه أو صاحبته، فإنه يبدو كما لو كان لا يرحب بالتمادى فى هذا الموقف. إنه يتبين –حقيقة أم توجسا- أن ما يصله غير كاف، بل غير خالص، وسواء كان ما يصله أصيلا أو تفضلا زائدا، فإنه سرعان ما يفترض أنه عطاء مشكوك فيه، مغلف بضجر يبطل احتمال أية علاقة حقيقية (وأسَهّيها، واتمَسّح فِ كْـعوب رجليها. تـتـْمـَلـْمـِلْ)،
تبدو كل هذه المشاعر باعتبارها استقباله هو، أكثر منها حقيقة الحادث خارجه، إنه هو الذى يتصور أنه غير مرغوب فيه لهذه الدرجة، وذلك استكمالا لموقفه التوجسى الذى شرحناه النشرة السابقة، وهو أيضا امتدادا لموقف خطف العواطف، وسرقة بعض الدفء. إن كل ذلك إنما يؤكد أن الثابت فى قاع وعيه هو أنه “مستحيل أن يُرى، أن يُقبل، أن يـُعترف به، وكل هذا، لو التقطه المعالج لا ينبغى أن يثنيه عن مواصلة الاقتراب، وعليه ألا يرد على الانتظار بانتظارٍ مقابل، بألا ينتظر أن تأتى الخطوة التالية من المريض باستمرار.
يحتاج اضطراد النمو، إلى المغامرة – ولو فرضا – بقبول الاعتراف بأن ثَـمَّ مصدرا للحب موجود كموضوع حقيقى يشجع حفز التقدم، ولعل هذا هو ما دعى صاحبنا الجائع إلى الحب والاعتراف أن يغامر هو بالاقتراب فهو الذى يتحسس طريقه، وهو الذى يخطف أية بارقة حنان، هو المستعد أن يرضى بأقل القليل حتى توهما، لكنه لا يكاد يقر أن ثمََّ آخر، يعطى دفءًا ما، حتى يرتد على عقبيه فيدور مائة وثمانين درجة وهات يا توجس، وهات يا شك، وهات يا استخوان، وهات يا دفع بعيدا، ومن ثم الهجوم، والتهديد، والعدوان، بلا تردد، ولا هوادة. لم يمس أحدٌ له طرفا، لكنه ما كاد يصدق أن احتمال الحب والرؤيه والاعتراف وارد، حتى فزع ورفض ودفع وتنمر.
….. الخوف من الاقتراب هو خوف من الحب، مع أن الموقف فى مجمله يعلن، ومنذ البداية، أن السعى كل السعى بدا أنه محاولة لطرق احتمال قبول جرعة ما من الاعتراف، والرؤية، والقبول.
كيف يمكن فهم هذا التناقض الظاهر؟
فى الموقف العلاجى (والنمائى) يبدو أن هذا هو الذى يجرى بدرجات مختلفة من عمق معين: بمجرد أن تلوح علاقة حقيقية، يقفز دفاع التوجسن فالعدوان، والتهديد، والتربص، والدفع.
هذا الموقف “الكر- فر” البارنوى لا يتميز فقط بالشك والتوجس، ثم الهجوم والهرب، لكنه يتميز أيضا باللجوء إلى طرق أخطر لإلغاء الآخر دون محوه، ليس بالرجوع إلى الموقف الشيزيدى (العودة إلى الرحم)، وإنما بإلغاء الآخر باحتوائه بداخله، إن جوع البارانوى إلى الحب، وفى نفس الوقت خوفه الشديد من الحب، أو بألفاظ أخرى: إن مغامرة البارنوى، وهو حريص كل الحرص على الاحتفاظ بالآخر (الموضوع) حتى لا يرتد هو إلى قوقعته وحيدا، تجعله يلجأ إلى آلية الاحتواء، التى تظهر غالبا فى الاندفاع نحو التملك المطلق حتى الالتهام. هذا ما يشير إليه هذا المقطع من هذا التشكيل: (لكنى لمّا بقيت إنسانْ، باكل الأطفالْ، والنسوانْ المِـلْـــكْ).
الموقف الالتهامى هنا، وهو أحد تجليات هذا الموقف البارنوى، ويمكن ربطه بما ذكرناه فى الحالة السابقة “السويقة” نشرة 8-9-2009 حركية استحالة العلاقة الممكنة بين البشر (1 من 2) ، (نشرة 15/7/2013 (3) السويقة: حوار العيون المزدحمة بِمَا بِهَا)، من أن الإنسان المعاصر عامة، مازال يمارس معظم أشكال سلوكه من خلال هذا الموقف البارنوى، ولعل هذا الموقف هو الذى يفسر الحروب والتنافس وسياسة السوق، ونضيف هنا: إنه يفسر أيضا التهام الكبير للصغير، ومعظم صنوف الاستغلال والاستعمال الظالم، والإبادة للمختلف، عرقيا أو دينيا أو مذهبيا (أيديولوجيا).
العلاج الجمعى يتيح للمشارك قبول الموقف البارنوى برعب أقل، لأنه يتيح تعدد العلاقات والتنقل بين مصادر مختلفة متكافلة، وهو يهيئ رحم الجماعة باعتباره الوعى الجمعى المتخلق إليه للسماح للفرد بالدخول والخروج منه مكررا، فلا يصبح تحت رحمة التهام الآخر، أو الفناء فيه بهذه الحدة القصوى.
وهكذا يتأكد موقف المعالج الذى عليه أن يكون حريصا على تحريك العلاقات والسماح بالتنقل بين أفراد المجموعة وإلاقلال من الاعتماد على فرد بذاته خصوصا قائد المجموعة.
يلاحظ أنه قد حدث تكبير ضخم لخطورة التخلى عن الدفاعات الضرورية بالتعجل فى الوثوق فى مصدر الحب المحتمل، (راح اسيبْ) وهذا لا يحدث عادة، لكن فائدة التكبير هى أنه يوصل للمعالج مدى خطورة مثل هذه الخطوة وتهديدها، وحتى لو كان التخلى عن الدفاعات يحدث لفترة قصيرة جدا، قد تصل إلى بعض ثانية.
فإذا لمح المعالج مثل هذا الاحتمال فإنه ينبغى أن يسارع بالتواجد المحيط الواثق بجوار المريض، فى متناوله، ولكن من على مسافة مناسبة، حتى لا يتمادى المريض فى الأمل فى الركون إلى أمان مطلق (حسب تصوره)، أمان يسحبه إلى احتمال الامحاء فى الرعاية الحاوية، ومن ثَمَّ يجد نفسه فى موقف الاحتواء، المغرى بالانسحاب للموقف الشيزيدى ربما بغير رجعة، فالمسألة هنا تتعلق بضرورة ضبط المسافة المتحركة بين المشارك والمعالج التى تشمل ضبط حركية ذراعىْ “الدخول والخروج” إلى رحم الجماعة “الوعى الجمعى”.
يبدو أن صاحب هذه الخبرة هنا هو الذى أقدم على التنازل عن دفاعاته البارانوية، – أو هكذا صوّر لى تقمصى- بمجرد أن اطمأن إلى أنهم – الآخرين – لم يتركوه ولم يكذبوه (لسّه حوالىّ ماحدّش خاف، ولاَ كدّبنى!! طب هِهْْ: راح اسيبْ”)
أن صاحبنا هنا لم يكن مريضا، وبالتالى بدت تلقائيته فى التنازل عن الدفاعات أقوى وأكثر مبادرة ودافعة إلى مواصلة السعى إلى الآخر (“رايح نواحيكم”)، كما أن القوة الضامة المركزية التى أشرت إليها فى مواقع كثيرة من قبل، وهى التى تستلهم قوتها ومشروعيتها من انجذاب الوعى الشخصى إلى من يجمع الناس بعضهم ببعض، (اجتمعا عليه وافترقا عليه)، بل إلى من يجمع الأكوان إلى بعضها دون أن ينفصل عن الوعى الشخصى (اقرب إلى حبل الوريد) ربما هذا هو ما عبر عنه الحدس الشعرى، “يا حلاوة نَفَسىِ الطـَّاِلعْْ داخلْ وسْطــيكُمْ. طايرْ نواحيكمْ. ناحيةْ ربنا فيكُـمْ”، (هذا ضمان موضوعى أتعامل معه فى العلاج الجمعى عمليا، وفى علاج الوسط، وإلى درجة أقل فى العلاج الفردى، بشكل واقعىّ شديد الإفادة).
إن حضور هذا الوعى الجمعى بهذا الشكل المجسد مع احتمال تواصله تناغما مع الوعى المطلق ربما يكون ميزة خاصة بثقافتنا الإيمانية الشعبية الفطرية، وفى كل العلاج الجمعى الذى أمارسه لا نحبذ استعمال اللغة الدينية بطريقة مباشرة ، لكننا نراعى حركية السماح بالدخول والخروج إلى الوعى الجمعى دون إحالة دينية أو روحية كما تم فى هذه الحالة.
ثم يتواصل الدخول والخروج:
التراجع هنا بدأ من صاحب الخبرة نفسه حين لم يصدق أن هذا الحال يمكن أن يدوم، وأنه لا يمكن أن يُصبر عليه: “ولإمتى كده؟؟ لأ مش قادِرْ”. لم يكن نتيجة أن الآخر انتهز الفرصة فانقض عليه، صاحبنا يتملكه الخوف، وهو لا يسارع بلوم الآخرين واتهامهم بالتخلى أو الخيانة، بل إنه يتبين فى نفسه التنشيط الذى حدث للموقف البارنوى داعيا للتراجع، بدءا بالخوف من الاقتراب، ومن الثقة، ومن الحب، ثم من الآخر، وهو هنا يدرك مسئوليته فى الدفع والرفض، حتى أنه هو الذى يجهض التجربة، ويسارع بالعودة إلى ميكانزماته البارانوية بكل زخمها: (أصـْل انـَا خايفْ، أنا خايفْ موتْ، إخص عَــلىَّ، خايف من إيه؟ من لمس أْيدين أيها صَاحــىِ. أهى كِـدا باظتْ، باظت منّى، رِجعتْ “لكـنْ”: خايف تِـفْـعـَصـْنـِى انـْتَ وهـُوَّهْْ، وتقولوا بـِنـْحـِبْْ.) وهو يبرر ذلك ليس بانقضاضهم عليه، وإنما بعجزهم عن رؤيته، عن الاعتراف به، عن حبه. (“إيش عرّفكمْ باللِّى ما كانشِى، باللِّى ما لُوهشِى، باللِّى ما بانْــشىِ.) وبعودته إلى دفاعاته البارنوية، يرجع التوجس، واليقظة البشعة المتلفتة، (عمّال باحـْسبْْ هـَمـْس حـَفِيفـْكـُمْ.باحـْسـِبْ خوْفكُـمْ.خوفـِى مـِنْـكُـمْْ. مخّى مصـَهـْللِ، وبـْيـِتـفرّج، ولا فيش فايدة.)
مع هذا التراجع والتمادى، يقفز تهديد جديد يلوح بالعودة إإلى الخلف أكثر، إلى الموقف الشيزيدى، رجّعنى للوِحدة النيلة! بلا طائل: لمَّيـتْـنِى، وياريتْنِى لقيتْنى…
ثم مزيد من التراجع:
من الصعب تماما أن يواصل مثل هذا الشخص (أو أى شخص) معايشة هذا الموقف طول الوقت، وهو إذ يحبط بكل هذا القدر، يجد نفسه فى مواجهة واقع قاس متربص بعيد مستعد للانقضاض، فيحاول أن يلملم نفسه وكأنه بذلك يحميها من استجداء آخر بلا أمل،
ولكن هذا اللم لا يحقق له وجودا بشريا حقيقيا “يأخذ ويعطى”،
فهو موجود فردا منفصلا،
فهو غير موجود (لمَّيـْتـنِى، وياريتْنِى لقيتْنى)
ومع استمرار هذا الوضع يكون المعروض هو نكوص كامل إلى الرحم، أى إلى مكافئاته الممكنة، (الانسحاب- التقوقع- اليأس من الحب…إلخ) لكن المتن هنا يعرى هذا الانسحاب باعتبار أن العودة إلى الرحم هى نكسة وهزيمة، لكنها الحل المطروح الجاهز ظاهرا
(فينك يا مّه؟ نفسى اتكوّم جوّاكى تانى، بطنك يامّه أَأْمـَنْ واشرف من حركاتـْـهم) ولكن هل هو حل فعلا؟؟!!
التراجع المتمادى يقدم هذه الخطوة كأنها حل ممكن، يعفى صاحبنا (يعفينا) من شوك الشك، وإهانة الصد، وقسوة الترك، ليكن، لكن لا بد أن نعلم أنه مهما بدت رغبة المريض (أو السليم) فى تجنب كل ذلك بالانسحاب الأقصى، فإن طبيعة دفع الحياة فى داخله، وفى خارجه أيضا، ترفض هذا الحل،
هنا ينبغى أن ننتبه إلى صعوبة هذا التراجع مهما لوح بأنه الحل، فيُجرى حوارا بين الرحم (الأم) الملجأ الذى ينبه أنه ليس سهلا هذا القرار، وبين المتراجع، تحذر الأم:
وانْ ما قدرتشْْ!!؟
نرى من خلال هذا الحوار كيف أن الموقف البارنوى المحبط بعد إلقاء سلاح دفاعاته هو أصعب من الموت نفسه، حتى الموت يبدو بعيد المنال:
(= “إلموت أهون”.
– وان ما حصلشِى؟
– = تبقى الفُرجَة، وْشـَكّ الغُــرْبـَة، وشـُوكِ الوحـْدهْ.)
إذا انكشفت للبصيرة حقيقة قنوات النكوص إلى الرحم هكذا، وظهر مدى صعوبتها، وأيضا إذا امتنع العدم (الموت) لم يتبق للشخص إلا العودة إلى الموقف البارنوى الذى قد يكون قد فقد زخم حدته تماما بعد أن ألقى سلاحه، فيغلب الجانب السلبى فيه: فهو لم يعد موقف كر وفر، بل أصبح موقف شلل، وغربة، وألم، وانتظار، وهذا هو أقسى وأذل أوجه الموقف البارنوى: حين يعجز عن الخطو نحو الموقف العلاقاتى (الاكتئابى)،
وفى نفس الوقت يعجز عن النكوص إلى الرحم، وأيضا عن الاختفاء العدمى (الموت)، وأيضا وفى نفس الوقت يعجز عن أن يواصل شحذ آليات دفاعه كرا وفرا.
حين تسد الطرق هكذا يعلن المتن شكل المآل المهين (تبقى الفُرجَة، وْشـَكّ الغُــرْبـَة، وشـُوكِ الوحـْدهْ.) وكأن هذا هو غاية الممكن بعد ذلك الإحباط القاسى.
فى العلاج النفسى، ويكون أظهر فى العلاج الجمعى، نحاول أن نتجنب هذا المآل الاستسلامى العاجز، حتى لو صاحبه اختفاء الأعراض المزعجة مثل الضلالات والهلاوس، خاصة ضلالات الاضطهاد، ليحل محله ضلالات الإشارة (مثلا)، ولعل هذا هو المقصود بـ “تبقى الفرجة“، وشك الغربة، وشوك الوحدة”.
تنتهى الفقرة بأن هذا المصير هو الأمر الواقع الجديد (أهو دا اللى حصل!!).
هل يمكن أن يكون ذلك، أو بعض ذلك، هو مآل (أو مضاعفات) بعض العلاج النفسى غير الموفق؟ الإجابة هى بالإيجاب للأسف،
إن تعريض المريض للتخلى عن دفاعاته، دون جاهزية الإحاطة العلاجية، والدعم، والحوار الممتد، يمكن أن يؤدى إلى تأكيد الإمراضية (السيكوباثولوجى) برغم احتمال تخفيف الأعراض الظاهرة.
لا توجد فائدة، والموقف كذلك، من التركيز على بحث الأسباب، أو لوم المحيطين، ذلك أن الشخص (أو المريض) فى هذا الموقف يكون مشاركا فاعلا فى تفاقم أحواله، الذى انتهى إلى هذا الاستسلام الذى يبدو أبعد ما يكون عن احتمال إعادة التحريك، فماذا يفيد التساؤل أو البحث عن الأسباب، ونحن أمام واقع جسيم حصل ورسخ
( – طب ليه يا بنى؟
= ” أهو دا اللى حصلْ”.)
فى كثير من الأحيان، يتجمد الموقف عند هذا الاستسلام، شعوريا أو لا شعوريا، فهى لم تعد معركة كر، ولا هى تجاوزت ذلك إلى مخاطرة علاقة حقيقية بالموضوع مهما كانت مؤلمة، ولا هى سمحت بعودة إلى الرحم تراجعا طلبا لراحة سلبية وكرامة تجـّنبية، فلا يتبقى أمامه من فرصة تلامس مع آخر إلا “بخطف لمحة عاطفية من هنا“، أو “توهم رؤية محتملة لوجوده من هناك“، ثم عودة سريعة إلى الحوصلة الشيزيدية، وهكذا طول الوقت.
(راجع “كما كُـنْـتْ”، قاعدْ ساكتْ تحتِ سرير الستْ،
حاخطــفْ حتة نظرة، أو فتفـُوتـِةْ حُـبْ،
واجرى آكلها لْوَحْدى، تحت الكرسى الـ”مِش باين”)
من هنا وجبت إعادة التحذير من جديد على ضرورة إتقان حسابات التعرض لمثل هذه الخبرة، لأنها ما لم تكن محسوبة ومدروسة وتجرى فى مجتمع علاجى سليم، ووسط خاص وداعم وممتد للفترة الكافية، .. مالم تكن هذه الشروط متوافرة فإن التعريض لهذه الخبرة يصبح تخبطا عشوائيا خطرا.
أنا لا أنكر أننى فى أول حماسى لهذه الطرق العميقة الرائعة فى العلاج النفسى المكثف، لم أكن كثير الحسابات ولا دقيقها مثل الآن (1)ولذلك فقدت كثيرا من أصدقائى ومازلت متألما ليس فقط لفقدهم، ولكن لما يمكن أن يكون قد أصابهم من جراء حماسى، وبرغم هذا الإحباط المبدئى فإن المتابعة بعد ذلك بسنوات أثبتت لى أن هذه الخبرة مهما ألغيت وحاول صاحبها أن يتناساها أو يطمسها يمكن أن تعود لتثرى وجوده باختياره ولو بعد حين، الأمر الذى بدأ يخفف من ألمى، ويؤكد لى دائما قدرة الإنسان على استيعاب خبراته الإيجابية ولو طال الزمن.
وبعد
كنت أنوى أن أنشر المتن كله ملحقا لهذه النشرة كالعادة إلا اننى، لكثافة النشرة، فضلت أن أنشره مستقلا غدًا، أملا أن يبذل الأصدقاء جهدًا فى إعادة قراءة هذه النشرة والنشرة السابقة (الأثنين الماضى) قبل قراءة المتن الشعر.
ياليت!
[1] – (وقت كتابة المتن الأصلى كان 1976، فالشرح المبدئى 1978، وقد اضطرد حرصى الذى أثبته عاليه عبر الثلث قرن التالى حتى الآن 2009)