نشرة “الإنسان والتطور”
الخميس: 19-12-2013
السنة السابعة
العدد: 2302
ص 135 من الكراسة الأولى (مازلنا فى صفحة ص 135 !!!)
لا إله إلا الله
من عمل صالحا
الهدى لمن اهتدى
نجيب محفوظ
أم كلثوم نجيب محفوظ
فاطمة نجيب محفوظ
اهل الهوى يا ليل
انا فى انتظارك حطيت
نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
21/6
القراءة:
ما زلنا فى صفحة 135 (ثالث مرة!!)
كنت قد أجلت الحديث عن علاقة الإيمان بالعمل الصالح من أول ما تناولنا هذه الصفحة بتاريخ 28/11/2013 حين أنهيت النشرة بما يلى : “جمعتُ تشكيلات ومواكبات جملة “من عمل صالحا”، فوجدتها تحتاج إلى تقسيم وتشكيل يطول شرحهما، فأستأذنك يا شيخى الجليل أن أؤجلهما للأسبوع القادم”
لكن يبدو أننى تماديت فى استعمال الإذن، فاختصرت نشرة 5/12/2013 بالاكتشاف الرائع الذى هزنى فملأ وعيى وأنا أناقش مسألة “الصابئين”، ورحمة ربنا بهم وفضله عليهم، حتى أنهيت هذه النشرة أيضا بقولى: “من فرْط هول الكشف يا شيخى أتوقف اليوم بعد إذنك لأكمل الأسبوع القادم عن علاقة الإيمان بالعمل الصالح”، لكن يأتى الأسبوع التالى فأكتشف أنه اليوم التالى لعيد ميلاد شيخى، فأفضل تحيته بإعادة نشر قصيدتى له فى عيد ميلاده الـ 92 ، فيتأجل الحديث مرة أخرى، وها نحن نواجه بأن هذه العبارة “من عمل صالحا” التى وردت فى صفحة 135، مازالت تنتظر التناول وخاصة فى علاقتها بالإيمان.
ابتداء ، لاحظت أن العمل الصالح، مهما كان صالحا، يكاد – فى الغالبية العظمى لا يُقَرّ أنه كذلك إلا إذا ارتبط بالإيمان بالذات، فحضرنى سؤال مباشر منطقى يقول : هل معنى ذلك أن الشخص غير المؤمن لا يعمل عملا صالحا، أو لا يقبل منه عمله مهما كان صالحا إلا إذا آمن؟ ففزعت لأول وهلة، ليقينى من عدل الله ورحمته، ثم وجدت مخرجا ألهمنى بفرض وضعته لنفسى يقول: إنه حتى لو لم يؤمن صاحب العمل الصالح بقشرة مخه، فإنه لا يخرج منه عمل يمكن أن يسمى صالحا إلا أن يكون نتاج جماع وعيه كله، فهو يخرج من خلاياه المؤمنة رغما عنه، فالعمل لا يكون صالحا من وجهة نظرى (حسب هذا الفرض) إلا إذا كان خارجا من مستويات الوعى التى أفرزته متكافلة، وهى المستويات التى إذا ما تناغمت معا، لا يمكن إلا أن تكون مؤمنة ثم تلحقها قشرة المخ أو لا تلحقها، وحساب صاحبها على الله.
لكن هذا التعريف قد يقصر العمل الصالح على ما يمكن أن يسمى الإبداع: فحاولت أن أتصور المواصفات التى يمكن أن يتصف بها عمل ما ليكون صالحا.
استثنيت ابتداء العبادات، فهى كلها أعمال صالحة، إلا أنها واجبات لازمة، يبنى عليها معمار دين فإيمان صاحبها، بما فى ذلك العمل الصالح، إذن ما هو المقصود بما كتبه شيخنا هنا “مَنْ عمِلَ صالحا”، خطر لى قبل الرجوع إلى كتابى الكريم الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه عدة مواصفات تقريبية: ليست “جامعة” ولا “مانعة” طبعا، ومن ذلك:
1) أن يكون العمل ذا معنى، وكلمة “معنى” هنا لها مغزى أكبر من المضمون الموجود لشرح الكلمة فى المعاجم، فكثير من الأعمال قد تكون خالية مما أقصده هنا بكلمة “المعنى”، العمل يكون بلا معنى حين يفتقر إلى الهدف، أو يبتعد عن خدمة واقع “الآن”، أو يستسلم للتكرار بالقصور الذاتى (كأمثلة)، وبديهى أن عملا بلا معنى لا يكون صالحا!.
2) أن تكون الأعمال خالصة، وأعنى بذلك خالصة لوجه الله، أى خالية من الزهو، والأهداف البديلة، والفوائد العاجلة المنغلقة، أى خالية من الشرك، مع تذكّر أن “الشرك أخفى على النفس من دبيب النملة”، “فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله”…الخ.
3) أن تنفع هذه الأعمال الناس، وما أعنيه بتعبير “نفع الناس” هو أن تعم فائدتها كل من هم “ناس”، دون تمييز، اللهم إلا البدء بالأقرب فمن يليه، فتتسع الدوائر تلقائيا ويعم النفع ولا يستثنى من نفع الناس نفع صاحبها …. طبعا.
4) أن تمتد فائدتها عبر الزمن (وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) سورة الرعد 13 .
اكتفى بهذه المواصفات كعينة لأن ما خطر ببالى بعد ذلك ليس مألوفا – يا شيخى العزيز- للشخص العادى، مع أنه وثيق الارتباط بقضية ربط العمل الصالح بالإيمان،
فإليك يا شيخى الجميل هذه الاضافة التى أعرف أنها يمكن أن تصلك أنت بالذات بنبضها:
أنت تعلم يا سيدى أننى اقرأ الإيمان من منطلق بيولوجى يشير إلى تآلف مستويات الوعى الشخصى (كلها تقريبا)، أو السعى فى طريق تآلفها، مع مستويات الوعى الكونى (أو الكدح على صراطها كدحا) وهو منطلق له بعد تطورى وبيولوجى إلى وجه الله، فأنا لا أستطيع بالتالى أن أشترط لكل الناس أنه لكى يكون العمل صالحا أن يتحققوا من هذا التناغم على أى مستوى من الوعى، لكننى حين لاحظت فى كتابى الكريم هذا الربط الذى كاد يصل إلى درجة التلازم بين العمل الصالح والإيمان حضرنى هذا العمق الذى قد يمثل البنية التحتية الأساسية التى تتحقق بها المواصفات الظاهرة التى ذكرتها سالفا، لأنها – برغم ظاهر مثاليتها، لا تنبع إلا من مثل هذا التناغم بين مستويات الوعى الشخصى والكونى إلى وجه الحق تعالى.
ولا اطيل فى هذا الفرض الغريب على الناس برغم قربه من الموضوعية ومما أعايشه إيمانا واحتسابا أثناء تخليق الوعى الجماعى فى العلاج الجمعى، وانتقل حالا إلى عينات انتقائية من القرآن الكريم:
جزاء العمل الصالح، هو العمل الصالح نفسه “مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ” الجاثية 15، وصلتنى “لنفسه” هنا ليس بمعنى أنها إشارة إلى عائد العمل وإنما بمعنى أن جزاء العمل الصالح هو مجرد أداء هذا العمل فى ذاته (لوجه الله)، هذه الفكرة كانت تشغلنى تماما وأنا أنبه إلى فكرة الحذر من انتظار مقابل العطاء من المُعْطَى له باستمرار، حتى عطاء الأبوين لأبنائهما، فالعمل الصالح إن كان كذلك لا ينتظر جزاء إلا من كونه عملا صالحا فى ذاته يعود على عامله بتأكيد انسانيته، وتنقية فطرته، وتقريبه إلى خالقه، ولعل هذا بعض ما ينبهنا إليه المثل الشعبى: “إعمل الطيب وارميه فى البحر”، فالمعنى الذى يصلنى من هذا الوعى الفطرى كما يتجلى فى هذا المثل البسيط التلقائى الذى ينبه من “يعمل الطيب” (يعمل صالحا) ألا ينتظر مقابل ما عمل أى جزاء محدد، لا من المستفيد منه ولا من غيره، لا الآن، ولا مستقبلا.
ربما يتأكد هذا المعنى أيضا بما جاء فى سورة الروم: 44 “… وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ”، وليس بالضرورة أن نقصر “يمهدون” هنا على التمهيد والاستعداد لدخول الجنة، وإنما أردت لفت النظر إلى تأكيد مبدأ أن الجزاء العائد من العمل نفسه هو فعل هذا العمل لا أكثر.
أما بقية الآية: ومن أساء فعليها “فإن الإساء ة يا شيخى الجليل قد تركت مفتوحة، وما وصلنى هو أن من يحرم نفسه من عمل العمل الصالح هو ظالم لنفسه لأنه يحرمها من كل هذا الخير والرضا.
ما جاء يا شيخنا فى تدريبك فى هذه الصفحة هو عبارة “من عمل صالحا” دون تكمله، لكن العبارة استدرجتنى لتربط العمل الصالح بالإيمان، وايضا وجدتها فرصة لاستكشاف المزيد مما أعرفه عن إيمانك، وعن طبقات وعى إبداعك بما يؤنسنى ويطمئننى.
شيخى الجليل:
اشعر أن الجرعة ثقلية، وأن استيعاب هذه الفروض الجديدة تحتاج معدة إبداعية إيمانية قوية، لهضمها، فأستئذك فى تأجيل بقية التداعيات للأسبوع القادم، وأنت صاحب الفضل فيها اليوم وغدا ودائما.