نشرة “الإنسان والتطور”
6-3-2011
السنة الرابعة
العدد: 1283
أهم الوصايا للشبان والصبايا
نبض الثورة، ودورة القلب، وإيقاع الحياة!
ما هذا الذى يتواصل ضد كل قوانين الحياة والإبداع والتطور والحضارة؟
بعد كل الخير الذى أجراه الله رحمة بهذا البلد على أيديكم فأيدينا معكم، نحن ننزلق إلى أقبح ما يمكن أن نصل إليه حتى على يد من سرقوها وهم يزعمون الآن – ربما ببعض الصدق- أنهم كانوا يبنون اقتصادا قوميا لمواجهة الإغارة المالية العولمية، ليس هذا وقت مناقشة هذا الاحتمال، لكن استمرار الوضع هكذا، بما يعلنه اضطراد العد التنازلى نحو غول الجوع وأشباح الخراب والموت عطشا، ينبغى أن يوقف فورا وبنفس حماس الشباب وثوريتهم.
آن الأوان أن نحافظ على شبابنا ممن يسحبونهم إلى ما يمكن أن يقلب كل فخرنا بهم، وفخرهم بأنفسهم إلى ما يقترب من مرتبة الخيانة العظمى.
لو سمحتم: يا أيها الشبان والصبايا، لا تجعلوا من أزحتموهم من على صدورنا يشمتون فينا، وفيكم
لو سمحتم: لا تجعلوا آباءكم وأمهاتكم وإخوانكم وأخواتكم فى طول مصر وعرضها، يترحمون على أيامٍ لكم أنتم الفضل فى تعرية فسادها
لو سمحتم: لا تضطروا من يحب مصر بعقل أرجح، ونفس أطول، ومسئولية أشمل، وأمانة أثقل، لا تضطروهم أن يفيقوكم قسرا حماية للوطن، بما يسارع أكثر فأكثر بمزيد من الخراب والموات
لو سمحتم: إلحقوا مصر حبيبتكم بنفس روحكم الشجاعة، ونفس زخم قدراتكم الخارقة
وبعد
أنا لا أريد أن أزيد من الخطابة ، ولعل هذا هو ما منعنى من أن أرص الوصايا مختصرة، فاسمحوا لى أن أقدم صورة مصر الجميلة الآن فى تشكيل واقعى حدث لى من يومين
كنت قد عزفت عن السفر للخارج منذ سنوات، إلا مضطرا لإلقاء محاضرة أو بحث هنا أو هناك، صباح الأربعاء الماضى كنت فى إحدى هذه الرحلات السريعة القصيرة، دخلت إلى المطار ولم أكن قد رأيت تحديثه الأخير، ودعوت الله أن يوفق الفريق أحمد شفيق إلى تحديث مصر كما حدّثه، لكن يبدو أن إدارة الحرب والمطارات غير إدارة السياسة والناس، وبعد إجراءات بسيطة سريعة منظمة، لم أعرف الطريق إلى إنهاء ما تبقى من إجراءات جوازات السفر، وجدت ضابطين جالسين بعيدا عن مكاتبهم، وأيضا عن احتمال أن يكونوا هم المسئولون عن هذه الإجراءات، تقدمت من أحدهم، وألقيت تحية الصباح، كان فى العقد الخامس تقريبا، وسألته عن مكان إتمام إجراءات الجوازات، نظر فى وجهى، وأعتقد أنه لم يعرفنى شخصيا، ففرحت بينى وبين نفسى حتى لا تحرجنى أية معاملة خاصة، تزحزح الرجل قليلا، وهو يفسح لى مكانا لأجلس بجواره، ويمد يده ليأخذ منى جواز السفر الذى كان بيدى ظاهرا، أخرج قلما، وسحب الورقة التى أعطوها لى بداخله، وملأها بنفسه من واقع الجواز وهو يبتسم فى تعاطف صبوح، ثم قال لى بهدوء أنه “مع السلامة”، وهو يشير إلى أين أتجه بعد ذلك، شعرت بطمأنينة عجيبة وشكر غامر، لكننى لم أشكره، أخذت أتأمل وجهه المصرى الجميل، ثم قلت له بألم حقيقى: “أنا متأسف”، فقال مندهشا “خيرا متأسف على ماذا ؟ قلت له “على كل شىء يستأهل الأسف” ، فهمَ وصمتَ، ولست أدرى أينا اغرورقت عيناه بالدموع أولا، أشحت بوجهى قليلا، ثم عدت ألتفت إليه ، وأنا مازلت بجواره، وقبلت رأسه وأنا أهدهد ظهره، فاغروقت عيناه وحاول أن يبعد عنى وجهه هو الآخر، ثم عاد فمال على كتفى الأقرب إليه، وقبله، صافحته وانصرفت دون أى ينطق أن منا بحرف آخر.
بعد بضعة خطوات، تذكرت أنه لم يكن معى قلم لأملأ به البيانات أصلا، وأن هذه المبادرة أعفتنى حتى من أن أبحث عن قلم نسيته، فسألت شابا مصريا يقوم بتنظيف الأرض فى هذا الصباح الباكر، وكنت بجوار محل عملاق، لعله السوق الحرة أو شىء من هذه الأشياء التى لا أفهم فيها، سألته أين أجد محلا أكثر تواضعا أشترى منه قلما، فأشار إلى ناحية معينة حيث سوف أجد مكتبة لعل فيها ما أطلب، شكرته وتوجهت إلى حيث أشار، وفعلا وجدت مكتبة، لكنها كانت فى نفس فخامة السوق الأولى، ولم ألمح بها أحدا، ومع ذلك دخلت، فوجدت المسئول شابا ربما لم يتجاوز الثلاثين يرتب أشياء على ناحية، تقدمت إليه، وذكرت حاجتى إلى شراء قلم، فقال بترحيب حقيقى، أى نوع من الأطقم تريد؟، تلفت حولى فإذا بها مكتبه تبيع أيضا الهدايا الثمينة، من أدوات مكتبية وغيرها، فضحكت وأفهمته أننى أريد أن أشترى قلما من “أبو ربع جنيه” أخطط به ما أقرأ أثناء سفرى، ابتسم الشاب وهو يسمع الثمن الذى حددت به طلبى، وقال “ربع ماذا؟، صححت نفسى بسرعة قائلا “أعنى إتنين تلاتة جنيه”، فقط ليؤدى المهمة أثناء القراءة وأنا مسافر، فضحك، وتأسف، وبدون تردد مدّ يده إلى جيبه، وأخرج قلمه الخاص، وفهمت، واطمأننت أكثر إلى أنه قلم مازال متواضعا لكنه اقل تواضعا مما كان بذهنى (لا بد أن ثمنه ليس أقل من خمسة أو عشرة جنيهات، لا أعرف)، ناولنى الشاب القلم بتلقائية وكرم، حتى خجلت أن أسأله عن ثمنه أو أن أعرض عليه الدفع لما وصلتنى الرسالة من وجهه الصبوح، كان الموقف واضحا، قلت له، “وأنت ؟: قد تحتاجه فى عملك هنا الآن”، قال: لا عليك، مع السلامة، وأنا سوف أتصرف، ودعا لى، فدعوت له.
قلت لنفسى: هذه هى مصر
وحين وصلت، وأديت العمرة مباشرة، دعوت أثناءها، لمصر وهى تتجسد أمامى فى هذين الرجلين، ثم يتلاحق وراءهما وحولهما شباب التحرير، ثم من تيسر من خلق الله جميعا ممن كانوا يطوفون ويسعونى معى، من كل لون وجنس، بصراحة، دعوت لكل من خلقه الله، من كل الأديان، واستطاع أن يقاوم التشوه الذى يفرضه السلطان والطمع علينا نحن البشر.
فى المساء، بدأ المؤتمر العلمى بمحاضرتى الافتتاحية، وكنت ما زلت أذكر ما حكته ابنتى عن دموع خطيب جمعة 11 يناير فى المسجد النبوى الشريف وهو يدعو لمصر بالسلامة والأمان، ودموعه تسيل منه أثناء الخطبة.
قبل أن ألقى أطروحتى العلمية ، بدأت مخاطبا الحضور بأننى – وأنا قادم هذا الصباح من مصر- أقرأ فى وجوهكم الأسئلة تقفز دون كلمات تسألنى بحب واحترام لتطمئن عن “كيف الحال فى مصر الآن؟”، قلت لهم “إنها بخير”، “إنها بخير” برغم كل شىء، وحكيت لهم حكاية الضابط وملء الجواز وقلم شاب المكتبة، ورأيت عن بعد فى عيون المصريين والعرب الحاضرين ما كان فى عينى وعينى ولدىّ: ضابط البوليس، وشاب المكتبة.
هذه هى مصر
بلغنى بمجرد وصولى إلى القاهرة ظهر الخميس نبأ استقالة الوزارة برجلها الشريف المصرى الطيب الحاذق، وتكليف شريف آخر مصرى طيب حاذق أيضا غالبا، ثم رأيت فى اليوم التالى دموع د. يحيى الجمل وهو فى وداع رئيس الوزراء، ولم أستطع أن أميز بينها، وبين ما دار بينى وبين الضابط الرقيق، مما ذكرته حالا.
لو سمحتم،
لو سمحتم أيها الشباب، لو سمحتم: أستأذنكم أن أتقدم بوصية واحدة اليوم مما حجبت عنكم نناقشها باختصار، تقول هذه الوصية (السادسة من المجموعة الثالثة):
“الوقت ثروة حقيقية أنت مسئول عنها لصالحك وصالح بلدك، صدِّق أنك قادر على عمل أكثر من ذلك فى أكثر من مجال، بطريقة أدق وتوقيت محسوب، أوله وآخره، بشكل أفضل، وأيضا بتصميم مماثل وأصلب”
يا أيها الشباب والصبايا
أربعون يوما مضت حتى الآن، هى كفاية وزيادة، حققتم فيها، ونحن معكم ووراءكم، ما لم نكن نحلم أن نحققه فى أربعين عاما، الأسماء ليست هى الأهم، المطالب ليس لها سقف إن لم يصاحبها اقتراحات برامج تحقيقها منكم، ومن كل من يهمه الأمر: برامج، وبدائل، ومحكات اختبار، ومناهج نقد،
فبالله عليكم كيف يتم أى من هذا مع كل هذا الإيقاع السريع هكذا؟
هذا الرقم (أربعون) له عندى دلالة علمية خاصة، بل ودينية سواء فى تاريخ نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام، أم فى قصة سيدنا موسى عليه السلام أم غيرها
أنا أنتمى إلى نظرية وضعتُ خطوطها من واقع خبرتى وتاريخى العلمى ، محورها الأساسى هو ما يسمى “الإيقاع الحيوى”، وهى تؤسس وتفسر كل مظاهر الحياة، من أول التفاعل الكيميائى، حتى مسار التيار العصبى فى الأعصاب إلى اختلاف الليل والنهار إلى تبادل الفصول إلى وجه الله تعالى مرورا بدقات القلب ودورات حالات الذات فى الحياة النفسية، تنطبق نفس النظرية على دورات الحضارة، وتبادل الشرعية الثورية مع الشرعية الدستورية، أى أنها تتناول تبادل الانتفاضات الثورية مع بناء الحضارة حتى السقف المتاح، ثم الثورة، ثم الاستيعاب الحضارى، وهكذا.
كنت أنوى أن أتحدث فى هذا المقال عن هذه الدورات الطبيعية الحتمية التى لو اختلت مات جسد الدولة (وهو لم يتخلق بعد) وهلك الناس شبابا وشيوخا، حاضرا مستقبلا، تماما مثلما يموت الجسد لو استمر انقباض عضلة القلب تدفع الدم طول الوقت، بلا استرخاء ليمتلئ من جديد بدم يحتاج دفعا جديدا،
وهذا ما سأعود إليه تفصيلا فى مقالِ قادم.
يا أحبائى وحبيباتى من الشباب والصبايا:
ألم يئن الأوان أن تسترخى عضلات الثورة، لا كسلا، لكن لتمتلئ بدم جديد، فنبض جديد؟
ألم يئن الأوان أن تنقلب تفجرات طاقات الغضب إلى قدرات بناء ما تتوجون به ثورتكم؟ ثورتنا؟
ألم يئن الأوان لننتقل من التركيز على سقف المطالب إلا البحث عن مقايسس متابعة الأداء؟
ألم يئن الأوان أن ننشىء معا دولة لها بوليس يحمى أهلها، وجيش يحمى حدودها، واقتصاد يحمى استقلالها، وإبداع يبرز دورها
ألم يئن الأوان أن يقود الشباب، المسيرة باستيعابها قبل أن يقودنا ويقودهم غيرهم، إلى مصالحهم دوننا؟
لو سمحتم، لو سمحتم: ما ذا وإلا فالبدائل أفدح وأقسى من كل تصور
لو سمحتم: بفضلكم ، ونحن معكم، يا رب سترك
لو سمحتم: نحن نحتاج إلى إثنا عشر شهرا –على الاقل- مليئة باليقظة والنقد والمتابعة والبناء،
إثنا عشر شهرا على الأقل بدون ميدان التحرير إلا رمزا وذكرى جميلة حافزة واعدة
لا تشوهوا الميدان الجميل: ربنا يخليكم لمصر، ويخليها بكم
لو سمحتم
ونكمل الأسبوع القادم تفاصيل أكثر ارتباطا بالعنوان.