نشرة “الإنسان والتطور“
24-2-2011
السنة الرابعة
العدد: 1273
الحلقة الرابعة والستون
الجمعة: 26/5/1995
تأخرت عن اللحاق بالأستاذ فى بيتى متعمدا، كنت مشبعا من الليلة الحرافيشية الثنائية الناجحة أمس، وحين ذهبت وجدت الحديث هادئا، ولم يكن هناك سوى د. فتحى هاشم، ومحمد إبنى (ثم أتى بعد ذلك حافظ، ود. أشرف: الطويل أبو البنت)
رجعت إلى حديث اللغة الذى بدأناه أمس وسألنى الأستاذ توضيحا لما ذكرته قبلا وأننى أنتمى إلى اللغة العربية وليس إلى العرب، وكنت قد قلت للأستاذ إن كلمته بعد نوبل والتى أعلن فيها انتمائه إلى حضارتين لهما الفضل عليه: الإسلامية والمصرية القديمة قد وصلتنى بمعنى الاعتراف بالفضل، وتحديد الجذور، فأنا بدورى أعترف بالفضل على وجودى وفكرى لإسلامى (كما أوضحت)، وأيضا إلى لغتى، دون ربطها مباشرة بقوميتى، قلت للأستاذ إننى أريد أن أكمل اقتراحا كنت ألمحت إليه أمس وهو: إن علينا نحن محبى اللغة العربية أن نضيف إليها، وأن نقود حملة لزيادة أبجديتها، وأظن أن زيادة الأبجدية قد تأتى من ثلاث مصادر: الكلمات التى دخلت واستقرت من واقع الاستعمال اليومى شريطة أن تتفق مع قواعد الصرف وحسن النطق: مثل بنشر (أنظر قبلا puncture) ومثل شيزيدى schizoid، ثم تلك الكلمات التى يمكن أن ننحتها نحتا مثل كلمة شخص شمجى، أو تخطيط المخ، رمك، أو نوم حركة العين السريعة “نوم الريم كما أشار د. أحمد مستجير)، أما المصدرالثالث والأهم فهو اللغة العامية، فإن علينا أن نفتح الباب على مصراعيه لدخول الألفاظ العامية بسماح ومرونة وبلا تردد، فقط نتفق، ونتقن النطق ونحرص على التصريف المناسب، وفى هذا ما قد يحل بعض إشكال العامية والعربية، ثم إن هذا ما يحدث فعلا فى تطور اللغات، فلماذا نتوقف عند آخر صفحة فى المعجم؟ إن هذا السماح وتبادل الألفاظ الجديدة حتى تصبح مشروعة عربيا سوف يوسع مساحة الأبجدية كما سيكسب اللغة مرونة بلا حدود، ووافقنى الأستاذ، وقلت لنفسى هذه فرصة أكمل رؤيتى لما هو لغة: قلت للأستاذ إن أمرين يشغلانى فى هذا الصدد، الأول هو علاقة مضمون اللفظ (المعنى) برنينه (الصوت) فإننى ألاحظ وجود هذه العلاقة بشكل يجعل اللغة كائنا حيا نابضا يسلك أكثرمن مسار ليتمم التعبير والتواصل، ما وصلنى هو أن أغلب أهل علوم اللغة لا يتفقون هذه الملاحظة من واقع أبحاثهم وإحصاءاتهم، وأنا أعتقد أن المنهج الذى يتبعونه يحتاج إلى مراجعة، وهنا تدخل محمد يحيى (وهو من أهل هذا الاختصاص) ليقول إن اعتباطية العلاقة بين الصوت والمعنى لا تعنى نفى هذه الملاحظة كلية، ثم إن اللغة تتخلق لحظة استعمالها، وبالتالى فإن تقنين ووضع قواعد للغة بهذا الشكل المحكم وربما الملزم ليس مناسبا ولا مفيدا، فاللغة وظيفة تتخلق باستمرار مع الصوت الصادر بها، لذلك فطرح قضية الرنين والمعنى، أوالصوت والمضمون، ينبغى أن يؤخذ بحذر أو يرفض أصلا، وهنا تدخل الأستاذ وقال إنه من المؤكد أن الأصوات لها دلالتها اللغوية، وأن الارتباط بين اللفظ ومعناه هو ظاهرة واردة، وهو أيضا ظاهرة لها تاريخها، ونفيها هكذا من خلال أبحاث يحتاج إلى وقفة فعلا، قلت فرحا بالاتفاق مع الأستاذ إن الحفاظ على هذا الفرض يعطى طعما خاصا للغة، ثم إننى أرى أن اللغة كيان بقدر ما هى وظيفة، وقد تغلب صفتها الوظيفية حين نشأتها، لكنها كيان ينشأ باستمرار، كيان غائر متجدد معا، هى كيان بيولوجى كامن مثل عتاد الكمبيوتر Hard ware متعدد المستويات والقدرات (النظام بلغة الكومبيوتر)، وهو فى نفس الوقت قابل للتشغيل حسب البرنامج المعين الذى يوضع فيه soft ware، ثم أكدت أننى لا أفهم فى الكمبيوتر، لكنه تصور قياسى عام، وفى اعتقادى كما هو الحال –غالبا فى الكمبيوتر – أن البرنامج الناعم هو اللغة المعينة فى حين أن العتاد فهو التركيب البشرى الغائر للكيان البشرى، وإن كنت أتصور أن الفصل ليس حادا ولا كاملا، وأعتقد أن العتاد عند كل ثقافة هو خاص بها، وهو يختلف عن ثقافة أخرى بحيث تصبح اللغة الخاصة بثقافة بذاتها كيانا فاعلا غائرا، وليس فقط مجرد برنامج مميز. سكتُّ فجأة وأنا أكتشف أننى أتكلم فى منطقتين ليس من حقى أن أفتى فيهما، علم الحاسوب وعلم نفس اللغة، لكننى عدت أقول إن من حقى أن أتصور ما اشاء وليخطئنى المختصون وأهل الرأى، أو يترجموا شطحى إلى لغتهم إن صلح بعضه.
وتصلنى موافقة الأستاذ الضمنية مع أنه لم يسأل ولم يطلب توضيحا إلا بشأن كيف أن اللغة برنامجا يورث، فأمضى أحكى له عن ذلك الشخص الفرنسى الذى لم يزر بلدا عربيا واحدا ولا خالط أحدا من العرب ثم إنه تكلم لغة عربية أثناء التخدير وثبت أن جدا له كان فى الجزائر، ومثل الأمريكية التى تكلمت لغة غريبة، ثم ثبت أنها لغة الهنود الحمر، وأن جدة لها كانت لها مربية من الهنود الحمر، ورغم أن هذين المثالين ليس لهما علاقة مباشرة باللغة كنظام (وليس كلغة بذاتها سواء كانت عربية أوإنجليزية أو هندية) فإننى أردت أن أثبت بهما أن اللغة – أى لغة- هى كيان كامن موجود، ولا تتخلق فحسب أثناء صدورها، بل إنها تتشكل وتتطور باستمرار استعمالها، ونبهت ضمنا إلى خطأ تقسيم الأمراض النفسية إلى وظيفية وعضوية بشكل تعسفى.
ويعلق الدكتور أحمد عبد الله على مسألة اللفظ ورنينه أن هذا قد يكون خاصا باللغة الخاصة فى الشعر والأدب، وليس فى لغة العامة، فيرد عليه الأستاذ أن العكس هو الذى يمكن أن يكون صحيحا، فإن العامة يتكلمون بتلقائية وتنغيم أكثر مما يفعل المثقفون والمكتبيون مثلا، وإن العادات والأمثال والأغانى الشعبية أكثر ارتباطا بهذا الفرض الذى قاله يحيى بيه من الكلام المكتوب أو المختار، وأفرح بهذا التعقيب تماما، وأفرح أنه كان يتابعنا وقد حسبت أنه لم يصل ما اختلفنا حوله أصلا.
ما إن أنهيت كلامى وهدأ النقاش حتى سألنى الأستاذ هذه هى المسألة الأولى فما المسألة الثانية، وكنت قد نسيت فى غمرة حماسى أننى قلت أن مسألتين تشغلانى، وحمدت الله مرة أخرى على ذاكرة الأستاذ، وقرأت فى سرى قل أعوذ برب الفلق، كما أطمأننت إلى رغبة الأستاذ الدائمة فى الاستزادة والنقاش، نبشت قليلا فى ذاكرتى حتى وجدت المسألة الثانية قلت: إنها تتعلق باللغة كمصدر للمعرفة فى ذاتها، ذلك أن اللغة العربية لها من التاريخ والتطور ما يسمح أن نعتبرها ثروة لا نحسن استغلالها، ثروة أكبر من كل الآثار والمخطوطات، وإن كل لفظ له تاريخه، منذ نشأته ثم إن له تاريخ لاحق لنشأته وقدرته على احتواء المضامين الجديدة، أو حتى إحلال مضمون آخر حسب اتساعه أو اختصاره، أو تفريغه أو إهماله، وأن هذه الدراسة لتاريخ اللفظ، ولتاريخ اللغة، ولحركة المعاجم، ولحركية الشعر لا بد أن تعرفنا عن النفس، وعن الوجود أكثر مما نحصل عليه من المناهج المستعرضة والتجريبية النفسية خاصة
وينبهنى الأستاذ إلى خطورة التعميم، ويحذرنى من المبالغة فى رفض المناهج العلمية السائدة، وينبهنا محمد يحيى إلى أن ما يسمى باللغة العلمية هو الذى يمكن أن يكون خاليا من أى علاقة بين الرنين والمضمون.
تذكرت مقالا للدكتور عزت قرنى فى عدد الجمعة الماضى (أهرام الجمعة 19/5/ 1995) بعنوان وضعنا الفكرى وتأسيس الفكر الجديد، عن إشكالة التقليد، وإشكالة الردة إلى الماضى، وعرضت على الأستاذ قراءته فوافق، ذهبت وأحضرت المقالة وقرأتها له، وقد انتهت المقالة بعد رفض كل من التقليد والردة إلى ضرورة عدم الاعتماد على الصفوة، ولا على الحلول الفردية، وإنما لابد من تغيير النظم التربيوة والإعلامية بما يسمح بإطلاق الخيال وتحمل الاختلاف وإضافة الجديد، طلب منى الأستاذ أن أقرأ جزءا مما أعجينى، قرأت له “يظن البعض أن هدفنا الفكرى شأنه عند هؤلاء البعض شأن سائر جوانب حياتنا هواللحاق بالفكر الغربى، هذه النظرة هى التى نشرها أحمد لطفى السيد، وكان أسسها مفكر أقوى منه وأعمق وهو قاسم أمين، واتخذتها لنفسها عصور متتالية، مع اقتراب شديد هنا، فى عصر دستور سنة 1923 وابتعاد نسبى هناك ما بين 1952،1973، أو انغلاق فيها بغير حدودكما يحدث كما يحدث فى بعض الميادين منذ عشرين عاما..” والغريب أننى حين بدأت قراءة المقال الذى كنت معجبا به جدا، تراجعت عن إعجابى جزئيا، وخفت على عدم اهتمام الآخرين يهمنى فسكت، الأهم هو أنه يبدو أن الأستاذ – بشكل ما- التقط هذا الحرج، فقال فجأة، وكيف انتهى المقال؟ هل اقترح بديلا؟ ففهمت وارتحت لإعفائى من التكملة، وقلت له إنه انتهى بالتوصية بالتأسيس وبالتأصيل وبإبراز الأسس والكشف عن المبادئ وإثبات أهمية إبراز الأدلة بعد الانتباه إلى تعدد المسالك ونوع الإمكانات والتدريب على التفكير المدقق الدقيق والتشدد فى مراعاة طرائق الاستدلال والبرهنة..” وكلام من هذا، ضحك الأستاذ وقال كلاما من ماذا الله يفتح عليك؟ قلت للأستاذ إن المصيبة فى مثل هذه المقالات أن البدايات تكون شديدة الحسم، والنقد بالغ الدقة، أما النهايات والتوصيات فهى شديدة التعميم مشحونة بحسن النية، فيعقب الأستاذ قائلا : إنه لم يحدد ما يقصده بالفكر، إذ لا بد من فصل ما هو علم عن ما يقصده بالفكر، فلا خلاف على أن كرات الدم الحمراء كذا، وأن الوسيلة لعدها هى كيت، أما الخلاف فيمكن أن يظهر فى العلوم الإنسانية، أوالأدب، فلا يعيب أحدا أن يقلد عالما فى أبحاثه النووية مثلا، لكن يعيب شاعر أومسرحى أن يقلد شكسبير، أو ديكنز”، فرحت بتعليق الأستاذ لكننى انتبهت إلى عودته إلى تقديس العلم بنفس الدرجة التى اختلفنا حولها مرارا، فقلت له : إننا ينبغى أن نعود إلى قضية تعريف العلم، ذلك لأن ما يطلق عليه لفظ “علم” له هالة خادعة فى كثير من الأحيان، لانه يوحى بوثقانية أنه منظومة أرقى وأكثر إحكاما أو فائدة مما يقال إنه فن أو أدب أو دين، وهذا هو ما حاولت أن أبينه فى كل مناقشاتى السابقة، فاستفسر الأستاذ عن ما أعنى من أن العم حوله هالة خادعة، فقلت إن رأيى أن المسألة مسألة معرفة، وتوسيع للوعى وتعميقه، وأن كلا من العلم والأدب (والفنون) والدين يقومون بهذا الوظيفة، وهذا ما أسميه دائما مناهل المعرفة المتوازية، ثم تراجعت عن كلمة التوازى كما فعلت سابقا، لأن هناك علاقة مشتركة دائما من الحوار والإثراء بين كل المناهل فى حين أن الخطان المتوازيان لا يلتقيان، ولم يعد العلم محتكرا لما هو معرفة، والباقى اجتهادات عاطفية أو جمالية أو تحسينية، وبذلك تصبح المسألة أكثر اقترابا من الصحة والفائدة، بقى أن ننتبه إلى هيراركية هذه المستويات للمعرفة بعد أن قبلنا بتعدد مصادر المعرفة، وأنا أعتقد أن العلم هو أهمها وأدناها فى نفس الوقت، ليس أدناها بمعنى أحطها، وإنما بمعنى أن العلم هو الذى يعطى المواد الأساسية للبناء، أعنى أنه هو الذى يعطى أبجدية البناء الذى لا يمكن إقامة بناء بدونه، وهو أيضا الذى يعطى الوقود اللازم لتشغيل الأداة الإنسانية والحضارية، لكن لا اللبنات، ولا الأبجدية ولا الوقود بقادرين على دفع عجلة الإنسان أوتحديد توجهه، وإنما القادر على ذلك هو الأدب والفن والدين، وبألفاظ أخرى إن الأدب والدين ليس ديكورا للوجود البشرى، وإنما هما الوجود البشرى ذاته، أما العلم فهو الوحدات الأساسية لبناء هذا الوجود، بهذا المفهوم لا نضع العلم فى موقع أعلى من مصادر المعرفة الأخرى، وفى نفس الوقت لا يمكن الاستغناء عنه، ولكن أيضا لا يمكن الارتكان إليه وحده، ويرجعنا محمد يحيى إلى بعض ما جاء فى المقال ويقول إنه سعيد بسماع سخف أو فساد أو استحالة التقليد فيما هو مميز لنا، وربما يصدق هذا فى حالتنا بوجه خاص، فنحن لسنا يابانيين، فالظاهر أن اليابان بالغوا فى التقليد لدرجة بدأت تظهر مضاعفاتها فى شكل ديانة الحقيقة المطلقة، ربما، ولكن لا بد أن نحدد أنه ليس لنا خيار إلا أن نسارع فى تقليد المستوى الأول هذا حتى لو كان مجرد لبنات العلم، دون عبادة للعلم ودون تخوف من التقليد، فأعود أنبه أنا على أن هذا المستوى الأول برغم ضرورته إلا أننا ننخدع فيه ونتوقف عنده، ونتصور أن هذا هو غاية المراد رغم أنه ”فتح كلام” كما يقول أولاد البلد، ثم إن الخطورة تأتى فى الجامعات ومراكز الأبحاث ومن خلال مهرجانات المؤتمرات، إذ يعتقد الشباب أن المسموح لهم هو أن يكونوا علماء بمعنى مقلدين ومكررين بنفس اللغة ونفس المنهج، والسابقون يصفقون لنا كلما قلدناه، وقد يطييبون خاطرنا “ببرافوا” هنا أو نشر هناك، ويضرب د. أحمد عبد الله مثل تقسيم الأمراض النفسية المصرى الذى برغم اعتماده تقسيما عربيا منذ 1987 فقد هجره الجميع ليحل محله التقسيم الأمريكى، فأقول للأستاذ إن أستاذا أمريكيا اعترض على زميلة لنا (أ.د. سهام راشد رئيسة قسم الطب النفسى فى جامعة الإسكندرية) حين كانت فى زيارة لأمريكا قائلا: مالك أنتِ بالتقسيم الأمريكى، إنك من بلد آخر له ظروف أخرى، وثقافة أخرى فلماذا؟ وهنا يقول الأستاذ إذن فالذنب ذنبنا نحن وليس ما يفرضونه، فأنبه أن هذا صحيح، لكن الأمر فيه مؤامرات أخطر لأنه متعلق جزئيا بسياسة تسويق الأدوية الباهظة الثمن، بما لا مجال لتفصيله، وإن كنت أذكر أننى فصلته فى بعض خواطرى السابقة.
وينتقل الحديث إلى كتاب السيكوباثولوجيا، كتابى الأم النابع من ثقافتنا، وكيف أنه لم يجد من يقرأه ويضعه فى موضعه، فالعلماء يعتبرونه شعرا، والشعراء والأدباء يعتبرونه علما.
ثم يأتى ذكر ندوة سوف تعقد فى كلية الآداب جامعة القاهرة قسم علم النفس للاتفاق على ما أسموه “الميثاق الأخلاقى للعمل الجامعى، أو البحث العلمى، لا أذكر تحديدا، وقد قرروا عقده إثر فضيحة مخجلة فى نفس الكلية أثيرت حول أحد أعضاء هيئة التدريس، وأقول للأستاذ إن مجرد التفكير فى تحرير ميثاق أخلاقى هو إعلان أن الأخلاق السائدة لم تعد كافية، وأن الممارسة أصبحت مشبوهة، بل إن قسم أبوقراط نفسه الذى يقسمه الأطباء، إن لم يكن تأكيدا لمسار ممتد منذ الطفولة، فهو تحصيل حاصل، حتى يكاد يقترب أحيانا من مغزى المثل القائل: قالوا للحرامى إحلف، قال جالك الفرج. وأذكر للأستاذ كيف غيرت نقابة الأطباء قسم أبو قراط هذا إلى قسم إسلامى احتج عليه زملاؤنا الأقباط، ثم يسألنى الأستاذ إذا كنت معترضا على وضع ميثاق أخلاقى فما هو البديل لترسى القيم فى نفوس العاملين فى حقل ما، قلت له أنا لست معترضا، أنا أنبه إلى أن المواثيق المكتوبة ليست كافية، وينبغى ان تكون مجرد إعلان لممارسة واقعية تصل إلى الأصغر قبل الأكبر فيستلهما أو يتقمصها تلقائيا بمعنى القدوة أو بمعنى أو بمعنى السنة الطيبة أو بأى معنى نبيل، وأضفت أن لكل صنعة ميثاقها المهنى والأخلاقى يشربه الصبى من المعلم من أول لحظة، وأن التدرج فى التريب على الصنعة يبدأ بأن أول سنة ضرب من غير علام، (ليتأكد المعلم أن الواد بيلية عاوى)، ثم تانى سنة ضرب بعلام، وتالت سنة علام من غير ضرب، حتى يصل إلى رابع سنة فتعلن المَعْلَمَةْ، وشرحت ما يقابل ذلك فى تدريبى لصغار الأطباء على العلاج النفسى.
وعلى ذكر أبوقراط قلت له إن بول غليونجى قد اقتطف أبوقراط فى مقدمة كتاب له عن الغدد الصماء فقال: الحياة قصيرة، والفن طويل، والفرصة سريعة الانفلات، والخبرة تحتمل الخطأ، والحكم على الأمور من أصعب الأشياء
لا أذكر من الذى فتح موضوع العلاج الروحى، واستغرب الأستاذ أننى لا أرفضه عكس معظم الأطباء النفسيين، وإن كنت أتحفظ على الاسم، وبدأت الحديث عن أن معظم العلاجات، حتى العلاج العضوى، يكون فيه حضور الطبيب بروحه وطبقات وعيه وإيمانه وشخصيته عامل فاعل بشكل لا جدال فيه، وأن ما يسمى العلاج الروحى، ربما يرتبط بهذه المسألة، وفجأة يسأل الأستاذ عن الساعة فقلنا التاسعة والربع، فيفرح أن ساعته البيولوجية مازالت منضبطة، وأتوقف أنا عن الاسترسال، فيستأذننى أن يأخذ إصبعا من الموز بدلا من الليمونادة، فأرد عليه مازحا أننى غير موافق، فيتراجع على الفور عن طلبه وهو يحسب أننى أتكلم جِدا، فاضحك واعتذر، وأناوله الموز، فيكأله بهدوء،
وينصرف باسما.