نشرة “الإنسان والتطور”
17-2-2011
السنة الرابعة
العدد: 1266
الحلقة الثالثة والستون
الخميس (الحرافيش): 25/5/1995
إعتذر توفيق صالح، ومن ثمَّ لم أتوقع أيَّا من الحرافيش القدامى، هل معنى ذلك أن توفيق صالح هو الحرافيش، وماذا لو سافر أو اعتذر دائما (كما حدث فى آخر ثلاث سنوات أو اربعة كما سمعت؟) ما علينا: الأستاذ مصمم أن الحرافيش هم الحرافيش، وأننى أحدهم برغم تكرار توضيح موقفى وتاريخية العلاقة التى ربط بين الأصليين، ويبدو أننى – من وجهة نظره على الأقل قد تثبتُّ- رغم أننى لم أقتنع تماما
هذه ليلة ثنائية أخرى أصبحتُ أرحب بها أكثر مما أخاف منها كما كان الحال سابقا (يوم ما اتقابلنا احنا الاتنين) (نشرة 25/2/2010 “الحلقة الثانية عشر: الأربعاء 11/1/1995”)
حين علمت أنأحمد مظهر لن يأتى وتوفيق صالح معتذر عن كلٍّ من الجزء الأول والثانى من السهرة، قررت أن أذهب للأستاذ بعربتى ذات المقعدين حتى نتخلص من الحارس الخاص الذى أنا على يقين من أنه لا جدوى أمنية من صحبته، وقد كان، بعد أن ركب الحارس الخاص عربة الحكومة، بدت الليلة مختلفة، وحين قلت للأستاذ ماذا عن السودانى، ردّ فى هدوء: سودانى ماذا بقى ونحن لن نذهب إلى بيت توفيق؟!!
غيرت الطريق وذهبت من أمام الجامعة، فلاحظ، و سألنى عن التغيير فأجبت بالإيجاب وفرحت لملاحظته
فى طريق الملك فيصل شممنا رائحة بـُن، وإذا به يقول: ألله!! رائحة بن!!، ثم يضيف بُن جميل!!!، وأفرح بعودة حدة الحواس كلها هكذا، وأتعجب مِن الذين يعيشون دون استعمال حاسة الشم، وكثيرٌ ما هم.
فى فورت جراند، يبدو أن الأستاذ انتهزها فرصة وقال أحدثك عن حكايتى مع النوم، ليلة تمضى هادئة مستورة، وأخرى أجد نفسى قفزت من السرير مصهللا ولا فائدة من أية محاولات أخرى، وحاولت أن أعيد ما سبق أن قلته عن التحدى الذى يبديه الجهاز العصبى أمام المؤثرات الكيميائية والنفسية، فتأتى أحيانا بعكس المنتظر منها (1) فيهز الأستاذ رأسه نصف مقتنع، ويقترح تغييرا فى الدواء فأوافق، ويقترح زيادة فى المنوم فأرفض، وأذكّره أننى لا اصف منومات أبدا فى ممارستى مهنتى، لا له ولا لغيره، وإنما هى تشكيلات تساعد على استعادة انتظام وفاعلية إيقاع النوم/اليقظة، ورحت أشرح له أن النوم هو الأصل، وأن اليقظة هى السلوك الأحدث، وأن نظريات تفسير النوم لم تصل إلى حسم نهائى حتى الآن، وأننى أميل إلى اعتبار النوم هو حالة تتبادل مع اليقظة، وليست نفى اليقظة، فهو توقيف مؤقت لليقظة، كل ما علينا هو أن نتوقف عن اليقظة فننام، إستقبل الأستاذ الحديث بحذر، فمضيت أشرح له وجهة نظرى من الأحياء التى لا تتمتع بالوعى ذى الطبقات فهى لا تنام ولا تصحو، وأن الوعى حين أصبح دوريا تبادليا بين مستوياته أصبح التناوب بين طبقتين هو السبب فى تناوب النوم واليقظة فى دورات، وأن الطفل حديث الولادة يولد وهو نائم ثلاث وعشرين ساعة فى اليوم (أو أكثر) ثم يبدأ فى اكتساب النوم الذى يزيد رويدا رويدا، وأن مسألة أن الناس تعيش فى حالة من التنويم الجماعى لها ما يبررها، وأن المبدع هو الذى يعيش فى لحظات إبداع بأكثر من مستوى من الوعى معا، وبالتالى فمسألة اللاشعور وما أشبه لم يعد لها مكان خاص متميز فى الفكر النفسى الأحدث، وخلاصة القول أن عليه (على الأستاذ) أن يتعلم كيف لا يعاند النوم ولا يطلبه لذاته، وهو سوف يأتى حتما، فيهز رأسه وهو يتمنى حلا أسهل.
تحدثنا عن ما نشر له اليوم فى وجهة نظر عن الأدب وموجة العبث، وعلاقة ذلك بما كتبه بعد 1967، قلت له إن ما وصلنى هو أنه ابتعد بذلك عن المشاركة بالرأى فى مجريات الأحداث الدائرة فى الفعل اليومى، وأنه لم يكن يريد أو يقصد مثل ذلك، ولكن يبدو أن الذى حدث هو أنه لم يعد يستطيع أن يتابع الأحداث منفردا فيستلهمها، وأضفتُ أننى كنت متحفظا على وجهة النظر هذه، حتى أشرت إليها رافضا فى مقدمة الحرافيش، مع أنه كان ينشر بين الحين والحين آراء مضيئة مثل كلمته كيف أن الشعب المصرى أصبح شعبين لا طبقتين، وأن المطلوب هو توحيد الشعب المصرى، فقال إن هذه الكلمة أثارت أنور السادات حتى نادى على حمدى الجمال ونهره وقال له ما هذا الكلام الذى تنشرونه هكذا، ومضى يقول إن بعض من فى الأهرام فرحوا بهذا التغيير، وعلى عكس تحفظى على ما ينقله عنه سلماوى الآن، أبلغته بعض الآراء الإيجابية التى وصلتنى، وأن أغلب ما ينقله عنه سلماوى الآن هو ما لا يقوله إلا نجيب محفوظ، وهو غير ما كان يضطر إلى كتابته شخصيا فى وجهة نظر القديمة حين كان يكتبها بنفسه، وقد كانت تبدو لى فاترة أحيانا.
بدون مناسبة سألته عن إسم السيناريست الذى يملك مسرح عادل إمام فى الهرم فلم يتذكر، وتعجب للسؤال كما تعجبت أنا أيضا، خاصة أننى لم اسأله عن رأيه فى عادل أمام شخصيا مثلا.
ثم لست أدرى مالذى عرج بنا إلى الحديث عن اللغة العربية، فقلت له إننى أستلهم معلوماتى فى فرعى (الطب النفسى) من اللغة العربية، وإننى مثلا تعلمت من أنواع الحزن من اللغة العربية ما لم أتعلمه من الكتب النفسية، وإن كان قريبا مما تعلمته من مرضاى، وضربت له مثل تشكيلات مضمون لفظ الحزن، وأيضا عن طيف لفظ ” الهم” الذى فيه البداية (همّت به وهمّ بها) وفيه “الإرادة والعزيمة” من ”الهِمَّة”، وفيه الحزن والغم، فى حين أن الحزن فيه المرارة وحدة الوعى والشدة وأنشدته:
شيخٌ إذا ما لبس الدرعَ حرَنْ سهلٌ لمن ساهلَ حزْنٌ للحزِنْ
وقلت له إن استلهام اللغة لما هو ”نفسى” هو منهج مهجور مع أنه ثورة تميزنا، وقد استعنت بلغتى فى توضيح نظرياتى الجديدة عن “الإيقاع الحيوى” مثلا، وأننى عثرت على فكرة مُواكبة العرض حتى يزول فى شعر ذى الرمة الذى كان يستضيف الحزن ويكرمه ويصاحبه حتى ينصرف مثلما ينصرف التعب عن الإبل بالحداء، يقول ذو الرمة
وكنت إذا ما الهمُّ ضافَ قريْتُه مواكبةً ينضُو الرعان ذميلُها
وقلت له أيضا إن فكرة الحاجة إلى الشوفان وجدت لها أصلا فى اللغة، وأنها ربما تكون أهم وقبل الحاجة إلى الجنس أو العدوان لما هوإنسان ولما هو حيوى، وحكيت له الشعر القائل:
إن الكريم إذا يُشافُ رأيته مبرنشقا وإذا يهان استزمرا
وفجأة أحسست أن الجرعة زادت، وأن علاقته باللغة أرق وأجمل من هذه الاستشهادات، فتوقفت، ولكن قبل أن أتوقف قلت له إن المطلوب ممن يحب اللغة العربية أن يفتح أبوابها على الآخر، والمطلوب زيادة أبجديتها وخاصة بنحت الألفاظ، والترحيب بالعامية وما يسمى بالكلمات الدخيلة، لأن هذه الكلمات هى مصدر ثروة للفصحى، مادامت تقبل النطق السليم، والتصريف العربى المناسب، وضربت له مثلا حين نحتُّ كلمة “شمجى” مقابل اختصار VIP بالإنجليزية، فكما أنVIP تعنى Very Important Person فإن شخص “شمجىّ” تعنى “شخص مهم جدا”، وكذك ضربت له مثل استعمال كلمة ”بنشر”، إطار السيارة “بنشر”، بمعنى ثقب، وهى كلمة دخلت إلى العربية فى الخليج من استعمال كلمة Puncture أى يثقب، هز الأستاذ رأسه دون حماس فقررت أن أغير الموضوع،.
سألته عن الباليه المسمى ” الغيبوبة ” والذى عمله أحدهم تصويرا لحادث اغتياله، قال لى أنه سمع عنه، وأن توفيق يثنى عليه، وهو باليه حديث، فقلت له إننى لم أشاهده، ولكن من خلال ما قرأت عنه من نقد فإننى تساءلت إن كان هذا يصور حادث الاغتيال أم أنه مجرد مقابلة بين السماحة والمرونة من جهة، وبين التعصب الأعمى والاندفاع من جهة أخرى، ثم ذكرت له أننى أحب الباليه، وأن ما يسمى الباليه الحديث شاهدته مرة واحدة فى باريس، وقد تعجبت من عنف النقلات وغرابة العلاقات وديكورات المسرح المائل، ودحرجة الراقصين والراقصات على أرضيته، وشعرت أن هذا الأسلوب يرهقنى حتى شككت فى فهمى، بل وفى كل مداركى، مثله مثل أغلب ما يسمى الحداثة، فقال إنهم هم أنفسهم لا يفهمونه فى الأغلب أيضا، ثم ساد صمت طيب، فشعرت احتمال أن يكون فى حماس تنقلاتى ما يرهق الأستاذ، وامتد الصمت فقلت فرصة يلتقط أنفاسه من هذه الملاحقة التى تصورت أنها مسئوليتى، وبررتها بأن على أن أملأ الوقت وحدى، فضلا عن تصورى بما يليق أن يملأ الوقت بما هو حرافيشى، وإن كنت لا أستطيع أن أميز تحديدا ما هو الفرق بين ما هو حرافيشى وما هو غير ذلك، لكننى أعرف أن ثمة فرقا.
عاد الحوار بفتح الحديث عن جـَلْد طبيب مصرى فى السعودية بتهمة الافتراء (الاتهام الكاذب) على ناظر مدرسة بأنه اعتدى على إبنه جنسيا، وقد ثبت هذا الاعتداء بفحص الطبيب الشرعى فى القاهرة، إلاأنه يبدو أنه لم يكن هناك شهود فى السعودية، وبدلا من عقاب الناظر مع وجود الدليل العينى، عوقب الوالد، ويقول الأستاذ فى ألم كيف يأتى الوالد أوالطفل بشهود، وهل سينادى الناظر المدرسين مثلا أو الفراش للفرجة، وأقول: وهل كان على الأب أن يسكت، وماذا يقول لابنه الذى أبلغه الحادثة، يقول له أنا ساكت لأنى جبان أم لأنى راض عمآ حدث، وأحس أن الأستاذ يشاركنى -يشاركنا- كل محنة دون استثناء، ويسود صمت شائك هذه المرة.
الأستاذ هو الذى يقطع الصمت هذه المرة بتساؤل حول استيضاح خلافى مع إبنى كلما ذكر الإسلام، ويستوضح هذا الخلاف منتهزا فرصة انفرادنا على ما يبدو، فأقول له أظن أن الخلاف هو فى الاسم والمخاطر اللاحقة من التعرف على الحقيقة، ويستزيدنى الأستاذ فأقول له إن الاختلاف هو أن محمد يتهمنى أننى أطلق لفظ الإسلام على تصور خاص بى، وأنه (الإسلام) موقف وجودى إيمانى شامل، وأنه هو الحرية والمباشرة والبساطة والامتداد فى “المابعد” (الغيب)، وأنه إطلاق القدرات بمعنى تنمية الفطرة، يقول هكذا فهمت موقفك، فلمذا يعترض محمد؟ وهل فيما تقوله ما يدعو للاعتراض؟ أقول إنه لا يعترض على المفهوم أو التعريف وإنما هو يخاف من التسمية فى هذا الوقت بالذات، ذلك أن هذا المفهوم بالشرح الذى ذكرته الآن لا يأتى فى المقدمة بالنسبة لمن يدعون إلى تطبيق الشريعة أو الحكم بالإسلام مثلا، والذى سيحدث هو أن يختزل الإسلام إلى حكم ثيوقراطى يلتمس الحلال والحرام ويضعه فى أى نصٍّ قانونى جامد، ويشكل الحياة بسكون الألفاظ وليس بحركية الإيمان، وحين تكون معهم السلطة الدينية والسياسية والتشريعية والقضائية فإن هذه المفاهيم التى أعـلِن أنها الإسلام كما وصلنى وأحاول أن أمارسه، قد تعتبر دليلا مباشرا على الخروج على النص، ومن ثم على الإلحاد، فما فائدة الترويج لمفهوم جيد متجدد، تحت إسم دين بذاته سوف يستعمله أغلب من يعتقدون بظاهره عكس هذا المفهوم؟ وخاصة إذا ما تولوا السطة ؟ هذا هو رأى، أو مخاوف محمد إبنى. فيقول الأستاذ ولكن من أين لمحمد اليقين بأنهم سوف يستعملونه فى هذا الاتجاه العكسى، ألا يقول بعض دعاة الإخوان المسلمين مثلما تقول أنت الآن؟ قلت له لا أظن، وأضيف: إن دعاة الإخوان رغم من فيهم من منظرين جيدين يسمون المعتدلين هم ملتزمون بتفسيرات الأزهر والمعاجم، وأن خبرتى معهم منذ سنة 1946 خبرة لا تسر، فقد كانوا ينهوننا عن زيارة الأستاذ محمود محمد شاكر لأنه كان يدعونا للنهل من أمهات الكتب وقراءة السيرة من مصادرها الأولى وليس من الرسائل المختصرة التى يوزعونها علينا، ثم إنهم حاكمونى وفصلونى أنا وبعض زملائى الشباب من التنظيم بحجة أننا خرجنا عن الخط الأساسى، كان ذلك سنة 1951، وأنا لا أريد أن أعمم من تجربة شخصية، لكننى أتابع الآن ما يدعو إليه من يسمون أنفسهم بالمعتدلين، فأجد أن المسألة هى تمييع لما هو إسلام، وليست ثورة حضارية لتغيير نوعية الحياة، فهم يصفون أنفسهم بالاعتدال بمعنى أنهم نصف نصف، وأنهم ليسوا إرهابيين، إلى آخر مثل ذلك من تسويات، ثم هم يمدحون الإسلام ليس بما يتميز به ويضيف، وإنما بأن يستعيروا ما أنجزته الحضارة الغربية - مثلا- ويطلقون عليه إسم إسلامى، وكأنهم يجمعون جزئيات الحضارة الغربية المصنوعة هناك ثم يلصقون عليها لافتة إسلام ويقولون: أنظروا نحن معاصرون ومعتدلون، وهذا يصلنى مثلما نفعل فى مصانع سيارات النصر والحكومة تتصور – أو توهمنا – أنها مصانع سيارات وهى لا تفعل إلا أن ترفع لا فتة فيات وتضع بدلها كلمة “نصر”، فما فائدة كل هذا للناس، مجرد تعليق لافتة “إسلام” على طريقة تفكير وطريقة حياة كلها غربية ومستوردة ليس له علاقة بالإسلام كما أتصوره مساهِما مُضِيفا، إذا لم يكن فى الإسلام ما يضاف جديدا فلا داعى لكل هذا الادعاء، ما فائدة أن نسمى الديمقراطية الغربية بالشورى، ونسمى حقوق الإنسان الحقوق الشرعية، ونسمى الاشتركية العدالة الجتماعية فى الإسلام، ثم نستورد تحت الإسم الإسلامى كل أجزاء حضارة لا تميزنا ولا تضيف إلينا ولا إليهم جديدا، إننى أتصور أن الامتداد فى المابعد (وهو الإسم الذى أطلقة مرادفا للغيب الحقيقى كما ذكرت سابقا) وتحديد العلاقة بين البشر وبعضهم البعض بمشاركة جذب محورى يمتد فيما بينهم فيجمعهم إلى الحضور الإلهى فى نوع مختلف من الوجود والعلاقات ” تحابّا فى الله” “اجتمعا عليه وافترقا عليه” هو ما يميز الإسلام”، انتبهت إلى التمادى فتوقفت من جديد، فعاد الأستاذ يسأل: فماذا يزعّل محمد فى هذا، قلت : إننا غير مختلفين فى المحتوى، وإنما فى التسمية، قال فماذا يريد محمد أن يسميها، ما دام يوافقك عليها، ولا يعترض إلا على الاسم والخوف من سوء استعماله، قلت له إننى لا أدرى، إسأله أنت، أعتقد أنه يرفض أن أسمى كل ذلك باسم الإسلام، لكننى أشعر إنه ليس من حقى أن أستلهم نوع وجودى من معتقد متكامل هكذا ثم أسميه إسما آخر، أنا مسلم وهذا هو إسلامى، فكيف بعد أن أوصلنى إسلامى لمثل هذا أتنكر له وأروح أصفه بصفة من خارجه: إنسانية، أو حضارية، أو حتى تنويرية، بل إننى أتصور أن الله سبحانه سوف يحاسبنا على أساس ما قلت، وقد يسمى فى الآخرة كل من اتبع هذه المبادئ وعاش هذا النوع من الوجود مسلما، دون أن يتدين بدين الإسلام، من أدرانى؟ إن هذا ليس فى سلطتنا ولا هو من اختصاصنا، ثم أضفت ما شككتُ بعد ذلك أننى سبق قوله، وهو أن والدى (الذى كان يقرأ وردا يستغرق عشر ساعات، وكان أزهريا درْعَمِيّا ( نسبة إلى دار العلوم)، نادى علىّ ذات يوم وقال لى: بالذمة داج همرشولد (سكرتير الأمم المتحدة فى الستينات) سوف يذهب إلى النار؟ ولم أستطع أن أجيبه، إلا بأننى لست ممسكا بمفاتيح النار، ومضيت أقول للأستاذ: أنظر كيف كان يفكر واحد مثل والدى ثم أنظر ما يحدث الآن ( ولم أشر إلى حادث الاغتيال، رغم أنه ملأنى وأنا أقارن)، وحكيت للأستاذ عن والدى وحبه للزراعة مثل محمد إبنى ومثلى، وعن قدرته أن يلتقط صوت ماكينة الرى الخاصة بنا من بين أصوات سائر الماكينات الأخرى وهو جالس غى شرفة الدور الثالث من بيتنا فى القرية، على بعد أكثر من كيلو مترين، ويقول لى إذهب وارسل أحدا يسأل لم توقفت الماكينة، ولا أصدقه، ولا أسأله: إيش عرفه أن ماكينتنا هى التى توقفت؟ لكننى أنفذ كلامه، ويذهب المرسال ويعود ويقول فعلا إن ماكينتنا دون غيرها، بها عطل كذا وكيت، ويدهش الأستاذ ويقول هل كان حدْسا، وأقول بل ربما حدة انتقائية فى السمع والتقاط ما يناسب اهتمامه فى لحظة بذاتها، وهذا ما جعلنى أصفه فى بعض شعرى العامى قائلا:
مزيكته كانت مكنة المية تغنى تحت جميزة كبيرة مضللة
واسأل فى نفسى أنهو اللى أصلح للتاريخ وللبشر
الكلمة والحب اللذيذ..فى أودة ضلمة منعكشة
أم لوزة حلوة مفتحة
وأمضى أحكى له عن تديّن والدى، وفى نفس الوقت عن كم الحرية الفكرية التى كان يسمح لنا بها حين يحكى عن رحلته إلى فلسطين سنة 1924 ويقارن يافا بتل أبيب ويتحسر على المسلمين، ويحسد اليهود ثم يقول لنا صغارا، ”تأملوا يا أولى الألباب”، ويستزيدنى الأستاذ أن أوضح له معنى تنمية الفطرة التى أشرت إليه منذ قليل، فأقول له إن المعنى الذى وصلنى من إسلامى أن الفطرة هى أن نحقق للبيولوجى الإنسانى ما هو قادر على تحقيقه بما هو، وبما يمكن أن يكون، أى أنها الهارمونى والبسْط، بمعنى التعامل بما هو موجود، وإطلاق القدرات لتخليق ما يمكن أن يوجد مما هو موجود كما خلقه الله، وكل ما حقق ذلك فهو إسلام، ومن رأيى أن ما وصلنى من عبادات الإسلام وأساسياته هو ما يسهم فى تحقيق ذلك، بل ربما تكون كل عبادات الأديان الحقة تحقق مثل ذلك بأساليب مختلفة، وكل من حال دون ذلك حتى بما يسمونه الآن ”لإسلام” ليس إسلاما، وقد بلغ بى اليقين بهذا التصور أن أزعم أن الخلية مؤمنة بطبيعتها لأنها على الفطرة، وبالتالى، فقد كتبت مشروع مقال يوما يقول: ”الإلحاد استحالة بيولوجية”، فيستفسر الأستاذ مستغربا، فأضيف قائلا: إننى أعنى أنه قد يستطيع لأى فكر أن ينكر وجود الله، بل قد تستطيع أية عاطفة أن تحرن وتتوقف عن التناسق مع ما هو الله، لكن لا تستطيع أية خلية أن تتنازل عن نبض الفطرة التى يحافظ على حياتها وإلا ماتت، وعلى ذلك فالملحد ينفصل عن خلاياه المؤمنة، وهو يظل فى جدل معها حتى تصله الرسالة منها فيؤمن، أو هو ينجح أن يقهر تواصلها مع فكره وتأثيرها فيه فيتشوه، وبهذا المقياس أفهم تساؤل أبى عن إسلام داج همرشولد، وأفهم إسلامه هو (الأستاذ) كما وصلنى من كل أعماله التى توجَّها بالحرافيش، وأفتح الباب على مصراعيه لكل من ينتمى إلى الإسلام بالمعنى الأشمل كما وصلنى وهذا هو ما سأحاسب عليه، أى ما سيحاسبنا الله به!
ويرجع الأستاذ للتساؤل وأنا أود أن أسكت، وإذا به ينتقل من محمد إبنى إلى الإخوان فيسألنى : ألا يوجد فى الإخوان من يؤمن بهذا كله؟
وأقول إننى لا أستطيع أن أنفى ذلك على الإطلاق، ولكن من يشاع أنهم ينظـّرون، حتى ممن يسمون المعتدلون، لم أجد فيهم أيا من ذلك. قال لى مثل من؟ قلت له مثل أحمد كمال أبو المجد، والقرضاوى، وفهمى هويدى، ومحمد الغزالى، وكلهم ثقات أفاضل، وأضفت أنه حين اختبر محمد الغزالى مثلا فى قضية فرج فودة سقط فى الامتحان، لكننى أسمع عما يسمى الإسلام الحضارى هنا وهناك، وأتصور أن هناك منظِّرين فى هذا الاتجاه مثل فكار، وجارودى، وبعض مفكرى المغرب، وهنا يرفع الأستاذ حاجبية مندهشا: فكّار ؟؟ هذه أول مرة أسمع عنه كلاما طيبا، وأرى فى وجهه أنه يعرف أكثر مما صرّح، ولا أريد أن أحرجه كما لا أريد أن أغير فكرتى عن فكار مفكرا، ولعل له جانب آخر لا أعرفه، وأمضى فى شرح فكرتى عن الإخوان وإصرارهم على التحديث الغربى تحت إسم الإسلام وفى نفس الوقت التمييع التسوياتى تحت إسم “الأمة الوسط”، هذا التمييع هو ما أخذته على توفيق الحكيم حين وضع فلسفته التى أسماها التعادلية، ثم فى الطبعة التالية لصقها بالإسلام دون لزوم، وهى نظرية كطعم الحوار، وأنشد للأستاذ بيت الشعر القائل:
مسيخٌ مليخٌ كطعم الحوار فلا أنتَ حلوٌ ولا أنتَ مرّ
ولا أنسى أن أذكّر الأستاذ بوحدة المعرفة للدكتور محمد كامل حسين، ويقول نعم، أليست هى النظرية التى يقول فيها بتدرج القوانين وأن القانون الأعلى يحتوى ويوجّه القانون الأدنى، وأوافقه، وأفرح أنه قرأ ما أحببته، وأذكره بالمعركة التى قامت بين العقاد وبين الدكتور محمد كامل حسين وكيف وصفه العقاد فى يوميات الأخبار “بالمجبّراتى” (لأنه كان استاذ جراحة العظام).
ويضحك الأستاذ، ثم يقول ثم ماذا ؟
فأختم رؤيتى أننى أتصور أن ما يمكن أن نضيفه بعد ومع امتلاك أدوات العصر، هو التأكيد على امتداد الإنسان إلى ما بعد كل ذلك طولا فى التاريخ (والآخرة بكل معانيها) وعرضا فى الناس والكون (بكل ما يشمل ذلك من إشارات ومضامين)
يقول الأستاذ: إذن هذا هو الإسلام الذى تدافع عنه، فماذا يضير محمد فى ذلك، إنه يقول نفس الكلام
فأرد مازحا: لكنه لا يسميه إسلاما
اعتدنا فى الحرافيش أن ننتقل بعد الجلسة الأولى إلى بيت توفيق، نظرتُ فى الساعة فإذا بها الثامنة إلا خمس دقائق، ولم نخطر أسرته الكريمة أننا سنعود مبكرا، فخطر ببالى أن أقدم على مفاجأة: قلت له إنى أعرف مطعما للسمك قريب من هنا، عشرات الأمتار، وهو يقدم وجبات خفيفة ورائعة، فماذ لو أكملنا طقوس الحرافيش بأن يقبل أن نتناول عشاء خفيفا فيه، وكنت على يقين من أنه سيرفض، إلا أنه أطرق قليلا ثم رفع رأسه مبتهجا وقال نجرّب، لم أصدق نفسى، وبسرعة أشرت إلى الحارس فالحرس أن هيا، وحددت له وجهتنا على بعد أمتار من هذا الفندق، مطعم أبو زيد للأسماك، بييس.
قابَلَنا الشاب أبو زيد، صديقى صاحب المطعم، بترحاب وفرح اعتدته من كل الناس، وأجلسَنا فى مكان طيب، وحيا الأستاذ بما ينبغى وأكثر، وذهب يحضر الطلبات، قلت للأستاذ هل يصله كل هذا الحب من كل الناس، وكانت طفلة ذات خمسة أعوام قد جاءت -كالعادة- تسلم عليه فى الفندق وتقول له حمدا لله على سلامتك، وتمنيت أن يمد الله فى عمره حتى يصبح جدا، أجابنى: نعم يصلنى حب من حولى من الأصدقاء والمعارف، لكننى عدت أقول إننى أعنى كل الناس، وخاصة من غير الأصدقاء والمعارف، فهز رأسه نصف هزة حياء وتواضعا
سألنى الأستاذ عن بعض أنواع السلطات، وفرح بالباذنجان المتبل، والباذنجان المقلى، وأكل الفيليه بشهية، وقطعة من سمك البربونى، وثنى ببا غنوج وهو يصف هذا ويثنى على ذاك، ويشترط علىّ أن أترك له تحديد النسبة التى سيدفعها فى الثمن، وقبلت مكرها قائلا إنه دفع فى الفندق، فقال محتجا أن لا، هذا أمر من طقوس الحرافيش وهو منتهٍ تماما، ووافقته على مضض، وحين دفعنا الحساب مشتركين قال هذا حسابنا وحساب عائلتنا الميرى (كان الحارس واثنان معه قد تناولوا العشاء فى نفس المطعم فى الدور الأسفل) وتعجبت من تعبير “عائلتنا الميرى”، فعلا أصبحوا عائلة حكومية مقيمة،
أثناء عودتنا وحدنا فى العربة الثنائية والتى خلصتنا للمرة الثانية من الحارس الخاص قلت له هل تعلم أن الحارس الخاص هذا تقليد عربى قديم وأن الجوارى الحسان كان يعين لهن حارس خاص من الخصيان يلازمهن طول الوقت ليراقبهن من ناحية، ويحميهن من المعاكسات والذى منه ناحية أخرى، فاستزادنى، فقلت له ما قرأته يوما دون أن أتذكر إسم الشاعر من أن جارية مليحة عينوا لها حارسا خصيا خاصا إسمه سِنانْ، وكان يمنع أى اتصال وأى تواصل وأى اقتراب منها، بما فى ذلك هذا الشاعر الذى يهيم بها بوجه خاص رغم ما اسشعره الشاعر من مودة حاضرة مرسلة عبر رسائل خفية، فقال الشاعر المحب فى ذلك شعرا قلته للأستاذ بنصّه، لكننى مضطر إلى تحويره وحذف بعضه لزوم النشر، وأقول للأستاذ البيت الأول، وأحجب البيت الثانى عن النشر
ظبيى سنانٌ شريكى، فيه فبئس الشريك
ويضحك الأستاذ فأكمل له فى نفس المعنى من نفس الشاعر (بعد التحوير):
لله ضرّى لظبىٍٍ يحبنى وأحبه
إذا رآنا سنانٌ يُهينُه أو يذبّه
هبُه أجاب سنانا (يرومه) أين (دربه)
(وما بين قوسين ليست الكلمات الأصلية)
ويضحك الأستاذ من جديد، فأقول له أنظر فائدة عدم وجود حارس معنا الآن، لو كان معنا فى السيارة الآن ما جرؤت أن أنشد هذا الشعر هكذا، فيقول: هذا فضلا عن أنه كان يمكن أن يبلغ الحكومة أننا نهين سِنانا الذى يمكن أن يكون عضوا فى الحزب الوطنى
وكان شارع الملك فيصل خاليا فى البداية، ففرحنا بذلك وانطلقنا، ثم تعقد المرور فقال حسدناه، ثم اكتشفت أن المرور تباطأ لأكثر فأكثر لأن ثمة فرح أمامنا حيث لاحت العربة المزدانة، فقال الأستاذ ما هذا؟ قلت له فرح، فراح يدندن :
”بابا سَمحْ أروح الفرحْ”
وقال إنها أغنية قديمة،ثم أردف أنظر كيف تدل الأغانى على قيم عصر بذاته، كان أيامها الذهاب إلى الفرح يحتاج إلى محايلة واستعطاف وإذن خاص، فذكَرته بأغنية مقابلة أحبُّها حتى أننى حفظت كلماتها، من كثرة ما أدندها وأنا أقود السيارة منفردا أحيانا، فسألنى عنها، فقلت له أولها، فتذكرها هو بدوره دون تفاصيل، وطلب منى أن أكملها فرددتها مدندنا، منتهزا فرصة عدم وجود الحارس معنا:
حرّج عليا بابا ماروحشى السينما
واقااابلك فين؟
أنا من رأيى تكاتبنى
واجاوبك وتجاوبنى
وفْ أى يوم تطلبنى
تلاقينى فى غمضة عين
…………..
لو عندك رأى غير ده
قولهولى ونشوف دا من دا
مالوش لازمة البُعاد ده
والنبى دانا بين نارين
……..
وحين وصلت إلى آخر مقطع:
……..
يارب انت ياقادر
ياجابر كل خاطر
دوم إخلاصنا للآخر
وحياة جد الحسين
وجدت أن الأستاذ يكرره معى، ثم سألنى من أين لى حفظ ألفاظها؟ وقلت له : ومن أين له حفظ “بابا سمحْ، أروح الفرحْ”، ثم عقبت قبل أن أستأذنه لفتح المذياع لأسمع أخبار لندن، كيف أن الأغنية تحلف بحياة، سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، باعتبار أنه ما زال حيا بيننا “وحياة جد الحسين”، وفرح لملاحظتى، وتجسدت لى علاقته بسيدنا الحسين وجده.
إستأذنته أن أسمع موجز الأخبار من لندن، فكان ثمة خبر عن الانتخابات للفلسطينين، وقلت له إننى أتصور أحيانا أن العرب الإسرائيليين، وكذلك الدولة الفلسطينية إذا قامت، سوف تكون أول وأهم دولة ديمقراطية فى المنطقة، فيقرنى ويؤكد أن هذا ما يخيف نظما عربية كثيرة.
حين نزل أمام البيت، وصحبته فى اتجاه الشقة، كان الهواء منعشا فالتقط ذلك وقال
الله: ما أجمل هذا الطقس، مثل أكلة سمك الليلة،
فقفز إلىّ عكس هذا الإحساس ربما ليؤكد روعة وصفه هذا، يقفز إلىّ تعبير من ملحمة الحرافيش وسليمان الناجى يتحاور مع ابنه سماحة عن لعنة العمرمنهيا حوارهم بقول سليمان “.. ما أبغض قفا الحياة”
وتصلنى فرحته بجو الليلة المنعش وسمك اللية، وأغانى سيد درويش أنه
“ما أجمل وجه الحياة” !!
شيخى يعلمنى العلاقة بالحياة: وجهاً وقفاً
[1] – Paradoxical Effect