نشرة “الإنسان والتطور”
الثلاثاء: 30-7-2013
السنة السادسة
العدد: 2160
الثلاثاء الحرّ:
منذ ثلث قرن!!
بين التطرف والتعصب
مقدمة:
ظهر لى هذا المقال فى الأهرام منذ ثلث قرن بالتمام فى 14-2-1980، فى منتصف حكم مبارك تحديدا، لم أزد عليه إلا أن سوّدت بعض كلماته بالبنط الثقيل، ثم كان ما كان..
فأين نحن منه الآن؟
شكراً!!
* * * *
المقال:
التطرف هو نقطة قصوى فى حركة مستمرة، وهو بذلك ضرورة حتمية كنقطة فى حركة، ولكنه يمكن ان يكون كارثة مخيفة كنهاية المطاف، والحالة الأخيرة هى التعصب والجمود.
وفرط هجومنا على التطرف – مع ضرورته المرحلية - قد يحمل معانى الخوف من الأختلاف أساسا، فالحوار يحتاج الى طرفين: طرف أول، وطرف آخر، اذن فكل منهما يقف على طرف القضية فى مواجهة مثرية، وهذا أساس مبدئى لبداية الحوار.
فالتطرف “حركة” و”آخر”، أما التعصب فهو “جمود” و”انفراد”.
والتطرف عادة ما يكون بالنسبة للمواقف و الأهداف … أما التعصب فهو عادة ما يكون بالنسبة للوسائل و الأشخاص … نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم كان متطرفا حين قال معنى: والله لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على ان أترك هذا الأمر أو أهلك دونه ما فعلت، ولكنه لم يكن متعصبا حين قال: ..ومن دخل بيت أبى سفيان فهو آمن .. اذن فمن الشرف والفخر ان أتطرف، ومن الجبن والعار أن أتعصب: من الشرف ان أتطرف فى توحد اتجاهى إلى وجه الله أويقينى بحتم الايمان ضرورة بيولوجية، ومن العمى أن أتعصب لطقوس مذهب دينى بذاته باعتباره الصواب الأوحد فى كل زمان ومكان، وكذلك من الشرف ان أتطرف فى تحيزى للحركة المتصاعدة ضد السكون الميت المستسلم، ولكن من العار أن أعتبرالحركة المادية كما وصفها ماركس وطبقها ستالين هى الطريق الوحيد الموصِّل، وعلى نفس القياس قد يكون من الكرامة أن أتطرف فى دفاعى عن الحرية ضد ماسواها، ولكن من الغباء أن أرى الحرية فى شكل ديمقراطى صورى كل مايفعله هو أن يتيح الفرصة لأى كلام فى أى مكان و.. ودمتم.
وقد سبق أن عبر أستاذنا العقاد عن روعة التطرف وجمال وهجه الباعث للحياة حتى ولو كان تطرفا فى التشاؤم، وذلك وهو يدافع عن سوداوية المعرى وشوبنهور بالمقارنة بالبلادة وعدم الأكتراث اللذين يسودان العصر.
وعلينا إذن أن نراجع حماسنا لمسألة”خير الأمور الوسط”، فمنطقة الوسط ليست منطقة استقرار وثبات ولكنها منطقة انطلاق، حتى فى لعب الكرة فأن قيمتها تتوقف على صناعة الألعاب التى تتجه الى المرمى حتما، أما الاحتفاظ بالكرة فيها فلايمكن أن يحقق شيئا، فأى مرمى هو فى “طرف” الملعب هنا، أو هناك (أليس كذلك؟).
ولكن دفاعى هذا عن التطرف لايعنى فتح الباب للصياح أو التشنج فما أرجوه من خلاله هو إعلان ضرورة تحديد الملامح كبداية لجدوى الحوار، كما أعلن به حتمية الحركة دفعا للنمو فى مقابل خطورة السكون و الجمود ،سواء سكون بركة الميوعة أم تصلب عمى التعصب.
والجمال يظهر فى أحيان كثيرة من وضوح معالم الملامح نتيجة لتحديد التضاد، فالحسان اللائى فى عيونهن حَوَر (شدة سواد وبياض العين معا) يقتلن بنظراتهن عشاق الجمال أما”زرق العيون عليها أوجه سود” فهو التلفيق القبيح.
ولا بد أن نعترف أن مرحلتنا السياسية الراهنة قد اضطرتنا الى القبول بإعلاء قيمة”الوسط” أكثر مما استطاع أن يعطى، ولابد أن نتوقع أنه متى أتيحت فرصة أكبر، فإن التفاعل الحى سيفرز من الوسط ما يميز المسيرة ويسمح بالحوار، فلاشك أن مسيرتنا الديمقراطية فى أكثر من مجال تفتقر الى وهج التطرف كمرحلة أكثر عطاء من ميوعة الوسط، إلا أن الخطر كل الخطرهو تصور التطرف على أنه التشنج أو الصياح أو الادعاء.
وانى أعترف بصعوبة توضيح هذه الفروق بدرجة تمنع الخلط، حيث تعودت عقولنا الانتقال من التعصب إلى اللامبالاة، فى حين أن الحركة البناءة هى الانتقال من الموقف الأدنى الى الموقف الأعلى نتيجة الدفع المتصاعد الناتج عن وضوح معالم الأطراف.
وبألفاظ أخرى لابد من الإعتراف بأن الإنسان فى لحظة ما لابد وأن يكون متحيزا الى جانب، ما، وعى بذلك أم لم يع، ومادام الأمر كذلك فالأفضل له أن يعرفه فيعلنه ليستطيع أن يتقدم الى مزيد من التعرف على أبعاده .. وعلى نقيضه بالضرورة، وهنا يصبح تحركه منه محتملا ورائعا وبهيجا.. ومؤلما فى نفس الوقت، أما إذا أنكر تحيزه – على نفسه أساسا – فالخوف كل الخوف أن يكون ذلك تكئه لأن يتمسك بهذا التحيز فى الخفاء فينسحب من الالتزام، ويصير”كل الناس حلوين” وتموت الحركة تحت وهم الحياد.
إذن فالمطلوب أن نفرق بين التطرف والتعصب أولا، والأكرم أن نحدد موقفنا أمام أنفسنا على الأقل بأكبر درجة من الوضوح، فيكون الأمل بعد ذلك، إذ نتطرف، أن نكون قادرين على تغيير مواقفنا و مواقعنا من خلال تطرف الطرف الأخر.
وبعد:
دعونا نتمنى حوارا لا يأخذ فيه طرف السلطة (أى سلطة) تميزا يسحق به الطرف الأخر تحت ستار شجب التطرف دون تمييز بينه وبين التعصب.
ودعونا نأمل فى مواجهة حية خارج عباءة الشمول المحتوى لاختلاف الفرق، حتى لاتضيع طاقة التطرف اللازمة لدفع العجلة تحت وهم التلفيق التصالحى.
ودعونا نعترف أنه طريق صعب بعد طول ما رزحنا تحته، طريق مؤلم بعد فرط ما خفنا منه، طريق خطر بعد الخلط الهائل بين الصوت العالى وشرف تحديد المواقع، بين أمانة توضيح المعالم وبريق التعصب المسنون.
إن المسآلة لصعوبتها لاتحلها (أو حتى توضحها) مقالة مشحونة بصدق الأمانى، ومهما أعدت وكررت فانى أشعر بمشقة أن أوصل فى سطور قليلة الفرق بين ”الحلْوَسَط” واللامبالاة فى ناحية، وبين تحمل الغموض والتحام المتناقضات فى ناحية أخرى، لأن الشبه بينهما شديد من الظاهر رغم أن الفرق بينهما فى حقيقة الأمر هو فرق بين السماء والأرض.
ومع كل ذلك فلابد من بداية ولتكن هذه الكلمات مجرد بداية.
* * * *
وبعد؟! 30/7/2013
ألم يئن الأوان أن نكف عن “الكذب التوافقى”، وأن نتحمل مسؤولية “الجدل الخلاّق”.