نشرة “الانسان والتطور”
الأحد: 18-8-2013
السنة السادسة
العدد: 2179
كتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (55)
مؤتمر: العلاج الجمعى والعمليات الجماعية: الأمل فى أوقات عصيبة
(القاهرة 25 – 27 سبتمبر 2013)
كيف يمكن استيعاب “الموقف البارنوى” فى العلاج الجمعى (3 من ؟)
خايف تِفْعصنى انت وهوّه، وتقولوا بنْحِبّ!! (1 / …)
انهيت الجزء الثانى من هذه الحالة – من مجموعة المواجهة- قائلا: إن من أخطر المواقف التى قد يمر بها المريض البارنوى (أو أى إنسان يمر بحدة فى مرحلة الموقف البارنوى) هو أن “يتخلى” عن دفاعات الكر والفر، والتوجس والتآمر، فيتراخى “يسيب نفسه” مطمئنا (جدا أو فجأة!!)، أو بتعبير أدق: أن يجرب خبرة الطمأنينة، قبل أوانها، الخطورة تأتى من أنه قد ينقلب فجأة إلى كائن طيب، رخو، هلامى يكاد يكون بلا دفاعات، ومن ثم بلا حول ولا قوة.
اكتشفت أننى صورت هذا الموقف من قبل فى ديوانى “سر اللعبة” بالفصحى فى جزء من قصيدة أخرى بعنوان: “جبل الرحمات“، وجدت أن هذا الموقف الباكر يتميز عن الموقف هنا فى أنه أدق وصفا لهذه المغامرة غير المحسوبة عادة، فى هذه القصيدة الحالية من ديوان “أغوار النفس”، سمح الشخص فى نفس الموقف البارنوى لنفسه أن يتنازل عن دفاعاته بمجرد أن بلغه أن الآخر (الآخرين) لم يتركوه، ولم يكذّبوه:
“لسّه حوالىّ ماحدّش خاف، ولاَ كدّبنى؟ طب هِه: راح اسيبْ”
وهكذا ترك نفسه لهم، فى أمان واعد، وإن كان غير مضمون. فماذا حدث؟
ننظر أولا فى الموقف الأصعب فى القصيدة الباكرة جبل الرحمات، (وقد تناولتُه بالتفصيل فى الكتاب الأول “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” (ص 285- ص 307):
..للضعف الصادق، فى ظل حنان الناس، دورٌ أقوى،
وتساقط دمعى أكثرْ،
والتف الكل حوالىّ، يغمرنى بحنان صادق،
هدهدة حلوة،
وتكورّ جسدى مؤتنسا، فى حضن الودّ ودغدغدته،
واهتز كيانى بالفرحة،
ليست فرحة،
بل شيئا آخر لا يوصف:
إحساس مثل البسمة،
أو مثل النِّسمة فى يوم قائظ،
أو مثل الموج الهادئ حين يداعب سمكة،
أو مثل سحابة صيف تلثم بََرد القمة،
أو مثل سوائل بطن الأم: تحتضن جنينا لم يتشكل،
أى مثل الحب..،
بل قبل الحب وبعد الحب،
شئ يتكور فى جوفى لا فى عقلى أو فى قلبى،
وكأن الحبل السرى يعود يوصلنى لحقيقة ذاتى .. ،
هو نبض الكون، هو الروح القدسى،
أو الله.
واقع الحال أن هذا الموقف لا يمكن أن يصل إلى وعى صاحبه لا أثناء العلاج، ولا فى خبرات النمو، بهذه التفاصيل المحددة، ليس لأنه لا يحدث، وإنما لأنه إذا حدث بكل عمقه هكذا، لا يستغرق أكثر من ثوان، بل أحيانا أقل من ثانية، لكنه يحدث، ويتجلى فى الإبداع كما يتجلى فى الجنون، ونحن لا ندرك عادة إلا آثاره الإيجابية، أو السلبية،على المدى الطويل، الآثار السلبية هى الأكثر تواترا إذا لم نحسن الإعداد، والاستعداد له، وهى تحدث غالبا نتيجة لسوء التوقيت، واستسهال التخلى والنسيان البَعْدى.
أشرنا، وسوف نشير كثيرا إلى هذه اللحظات الشديدة القصر، التى تتم فيها النقلات النوعية المتناهية الصغر (والتى فهمناها أكثر من خلال “حدْس اللحظة” عند باشلار، “الإنسان والتطور” هذه اللحظات الدقيقة جدا، يعرفها المعالج بحدسه اليقظ أكثر مما يرصدها بملاحظاته وحساباته، أما المريض (أو أى شخص ينمو)، فهو عاجزعادة عن رصدها إلا إحساسا غامضا إجماليا، لكن مهما ضؤلت هذه اللحظات، ومهما استعصت على الوصف، فإنها تثبت أن لها أثر باق حقيقى وممتد، ولو بعد سنوات، لسنوات، وقد أصبح لهذه البصيرة الشاعرية ما يؤيدها فى العلم المعرفى العصبى الحديث، والبيولوجية النيورونية، وكل هذا ليس فى متناول الشرح أو الوصف فى الممارسة أو حتى فى التنظير، لكنه أساس النمو والتغير.
ولعل محمود درويش كان يعنى شيئا من ذلك فى قصيدته «أثر الفراشة».. يقول درويش:
أثر الفراشة لا يُرَى، أثر الفراشة لا يزول
هو جاذبيةُ غامضٍ يستدرج المعنى، ويرحلْ
حين يتضح السبيلُ
هو خفة الأبدىِّ فى اليومى ّ
أشواق إلى أعلى
وإشراق جميل
هو شامة ٌفى الضوء تومئ
حين يرشدنا إلى الكلماتِ
باطننا الدليل
هو مثل أغنية تحاول ُ
أن تقول، وتكتفى
بالاقتباس من الظلالِ
ولا تقول..
أثر الفراشة لا يُرَى
أثر الفراشة لا يزول!
إذا كانت المسألة لا تـُرصد، ولا تشرح، ولا تقاس، ومع ذلك فهى لا يمكن أن تـُنكر، أو تهمل، أو تتجاوز، فأين يقع العلاج الجمعى من كل هذا ؟ هل يشير هذا يا ترى بشكل مباشر أو غير مباشر إلى أن هذا العلاج هو “فن” أساسا، وأنه هو ما يقابل تنشيط أصل الشعر (القصيدة بالقوة، أو الحلم بالقوة؟) “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” فما هى المهارة العلاجية التى ينبغى أن يتصف بها المعالج إزاء هذه اللحظات المتناهية الصغر، الحاوية للتغيرات البالغة الدلالة والأهمية ؟ إن المعالج بحدسه العلاجى متى شعر باحتمال مرور مريضه بمثل هذه الخبرة مهما ضؤلت، فإنه لو غامر بالسماح بها، فلا بد أن ينتبه إلى ما يمكن أن يترتب عليها، من فرصة رائعة وتغيير جذرى، أو من نكسة تراجع فاندمال بشع.
إن عدم رصد مثل هذه اللحظات فى العلاج الجمعى خاصة، أو رصدها دون تحمل مسؤوليتها هو من أكبر المخاطر التى يمكن أن تحدث فى العلاج االجمعى خاصة، هذا الشخص (فى مجموعة المواجهة) أو المريض الذى أمِنَ فترك نفسه بلا دفاعات فى رحاب من اعتقد أنهم أهل لثقته، ولو للحظة أو بعض لحظة، لا يمكن أن ننحو باللائمة عليه إذا وصلته رسالة أنه فى رحاب وعى جمعىّ يتشكل، يشجعه أن يخطو إلى ما بعد ما توقف عنده فى ظروف سابقة غير ملائمة، وبالتالى يصبح من أكبر الأخطاء التى يمكن أن تـُرتكب على مسار العلاج، أن يلوّح المعالج، أو يسمح للمتحمسين من أفراد المجموعة بالتلويح بمثل هذا الأمان، ناهيك عن السماح به، إلا بعد إعداد مناسب، وبجرعات متدرجة، ليس معنى ذلك أن المسؤولية كلها تلقى على المعالج وزملائه وزملاء المريض، فقد يكون اندفاع الأخير جاهزاً بجرعة أكبر من المرحلة ، سواء مرحلة المجموعة أو مرحلة المريض نفسه، فيغامر بخوض التجربة من تلقاء نفسه بدون اختبار احتمال استعداد المعالج أو المجموعة لتحمل مسؤولية المشاركة فى احتوائها، ومن ثم النتائج.
ما الذى ينبغى إذن على المعالج أساسا الانتباه إليه إزاء هذه المخاطرة التى أجد أنها لو نجح الشخص (أو المريض) فى اجتيازها، تكون علامة رائعة بالنسبة لفرصه فى اضطراد نموه؟
1- على المعالج أن يرصد ابتداء الأشخاص المستهدفين أكثر للمرور بهذا المأزق العلاجى الحساس، وذلك من خلال”النفسِمْراضية” (السيكوباثولوجيا)، أكثر مما هو من خلال التشخيص، ذلك أن المريض الذى تشخيصه مثلا “حالة بارانويا”، أو حتى “فصام بارنوى”، ليس هو الأكثر عرضة للمرور بهذا المأزق (برغم الالتباس بسبب نفس التسمية)
2- من البديهى أن يدرك المعالج أن هذا الموقف هو موقف أساسى فى الوجود، مع اختلاف درجات حدته، وأيضا مع اختلاف اقترابه من الوعى الظاهر، ومن السلوك الجارى، فهو موقف وجودى جاهز كامن، كمرحة تطور غائرة فى التركييب الحيوى البشرى، جاهز للتنشيط، كضرورية لاستكمال جدل النمو.
3- مثل معظم ما يمر به المعالج من خبرات التقمص للعلاج ، فإن تقمص مثل هذا الموقف خليق بأن يثير فى المعالج شخصيا ما يقابله مما يماثله، وما لم يكن المعالج قد تمرّس على خبرات التفرقة بين احتمالات الإسقاط، وبين التقمص العلاجى، فإن الخطر يكون أكبر.
4- لا أريد أن أعمم، لكن المعالج الذى ينكر أن عنده شخصيا نفس هذه الصعوبات، بدرجات مختلفة، وأنه “يعمل فيها” ما أمكنه، وأنه لم يتجاوزها، ولن يتجاوزها بشكل نهائى مع استمرار الرجوع إليها لهضمها رويدا رويدا بغير نهاية، من حيث أنها تركيب بشرى طبيعى، مثل هذا المعالج – الذى ينكر ذلك – يكون أقل قدرة على الإحاطة بمثل هذا المأزق للخروج بمريضه منه بأقل قدر من المضاعفات.
5- يعتبر هذا المأزق العلاجي أكثر صعوبة من الموقف الاكتئابى المنتظر أن يحل لاحقا مع اجتياز هذا الموقف البارنوى تدريجيا، كما أن احتمالات أن يترتب عليه مأزق الانتحار تكون أقل بالمقارنة إلى المأزق الاكتئابى (أنظر بعد) ، فالمريض هنا لا يواجه الصعوبة التى تنتظره فى علاقته بالآخر، وفى نفس الوقت حتميتها، وإنما هو يمارس “الكر والفر“، و”الدخول والخرج“، بمغامرات شائكة صادقة، يترتب على فشلها فشلا تاما إما نوع من اندمال العواطف والتعاطف كجدار حامٍ ضد أى اقتراب، أو بتفعيل أحد شقى “برنامج الكر الفر” بما يترتب عليه من احتمال اضطراب الشخصية عدوانا أو نزوات أو غير ذلك، أو كما ظهر فى نهاية القصيدة: انسحابا ويأسا شائكا.
6- على المعالج إذن أن يلتزم إزاء كل ذلك بما يتيسر له مما يلى:
1) الوعى بإمراضية (1) كل مريض بشكل كافْ
2) ضبط جرعة الدعوة للاقتراب بحسب الإمراضية وتطور التفاعل
3) التدخل للحد من التلويح بألفاظ الحب الساخن أكثر من الاقتراب المسؤول، وذلك بالنسبة للمعالجين المساعدين، والزملاء المشاركين، وأيضا بالنسبة لنفسه (خايف تفعصنى انت وهوّه وتقولوا بنحب)
4) حسن التوقيت سواء بالنسبة للتحضير لاحتمال دخول هذا المأزق أو بالنسبة للزمن الذى يمكن أن يحتاجه الشخص لعبوره
5) ضبط المسافة، مسافة الاقتراب ذهابا وجيئة، سماحا وتهدئة، مع السماح بأن تكون متغيرة مرنة ما أمكن ذلك
6) ضبط جرعة التعمق فى تنشيط هذا المستوى، والتدرج بها على فترات متباعدة
وبعد
على الرغم من أن هذه التوصيات كلها لا يمكن تنفيذها بمجرد قراءتها، فإنها تظل مطلوبة وأساسية وممكنة من خلال التدريب المستمر والنمو الخبراتى المتصاعد، وهى متطلبات واجبه فى كل آليات التناول العلاجى فى العلاج الجمعى وليس فقط بالنسبة لهذا الموقف، وأرى أن ذكرها هنا تحديدا له أهمية خاصة نظرا لدقة المرور بهذا المأزق بالذات، وأيضا نظرا لخفاء المضاعفات المترتبة على فشل استيعابه.
الصورة فى القصيدة الباكرة “جبل الرحمات” بالفصحى تشير إلى خطورة الانتباه إلى التخلى، بعد التنازل عن دفاعات التوجس والكر والفر، وإذا بالأمور ليست كما تمنى المستسلم: (للآخر/الآخرين) الذى لم تبلغه (تبلغهم) هذه النقلة،
…. واستسلمتْ، لكنْ ..، لكن…،
ماذا يجرى؟؟
وتزيد الهدهدة علوا .ماذا يجرى؟
تعلو أكثر ، ليس كذلك..، تعلو أكثر
ولا يتبين الذى يمر بهذه التجربة مدى الخدعة فى أول الأمر، فيظل يستقبل الرسائل آمنا فى البداية، مع احتمال دهشة وبدايات توجـّس، ولكنه رويدا رويدا يتبين كيف تنقلب الهدهدة إلى صفع، وركل، وطعن، وقد يتأخر إدراك ذلك حتى يكون الأوان قد فات فيعجز الشخص (أو المريض) أن يستعيد آليات كرّه وفرّه بالرجوع إلى الموقف البارانوى،
“ليست هدهدة “بل صفعا”،
تعلو أكثر،
بل ركلاً ضربا طحنا،
تعلو أكثر،
أنياب تنهش لحمى،
الكلب الذئب انتهز الفرصة،
اغتنم الضعف وأنى ألقيت سلاحى.
وهذا ما سوف نكمل مناقشته غدًا.
[1] – الإمراضية غير التشخيص وغير الأسباب وغير المعلومات التقليدية