نشرة “الانسان والتطور”
الأثنين: 19-8-2013
السنة السادسة
العدد: 2180
كتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (56)
مؤتمر: العلاج الجمعى والعمليات الجماعية: الأمل فى أوقات عصيبة
(القاهرة 25 – 27 سبتمبر 2013)
كيف يمكن استيعاب الموقف البارنوى فى العلاج الجمعى (4 من ؟)
“لمـّيتُنِى وياريتنى لَقِيتنْى“ (2/ …)
أنهيت نشرة أمس بهذا المقطع من المتن:
“ليست هدهدة “بل صفعا”،
تعلو أكثر،
بل ركلاً ضربا طحنا،
تعلو أكثر،
أنياب تنهش لحمى،
الكلب الذئب انتهز الفرصة،
اغتنم الضعف وأنى ألقيت سلاحى.
هذا الموقف يمكن تعميمه إلى بعض المواقف العامة مثلا فى الحروب ، حين تُستغل الهدنة، أو وقف إطلاق النار، للتجهيز لانقضاض خادع، بعد انخداع أحد الطرفين بإلقاء سلاحه، أو استرخاء دفاعاته، وهو يطمئن إلى ما لاح له جديرا بالاطمئنان، وهو غير ذلك.
فى حالة حدوث سوء التوقيت هذا، على مسار العلاج، بما يترتب عليه ما ذكرنا بما يمكن أن ينتهى إليه من تراجع، ومهانة، وإحباط، إذا حدث ذلك فإن معاودة طرح استعادة الثقة بالمعالج، أو بالوسط العلاجى، تصبح أصعب مما كانت عليه قبل بداية العلاج بشكل أو بآخر.
قبل أن ننبه إلى التحفظات اللازمة لتجنب ذلك، دعونا نقرأ الصورة المقابلة فى “قصيدة القط” من ديوان “أغوار النفس” ربما تتضح الأمور أكثر لنعايش هذا الذى أقدم على التنازل عن دفاعاته البارانوية، بمجرد أن اطمأن إلى أنهم – الآخرين – لم يتركوه ولم يكذبوه لكن ليس بهذا القدر من الطمأنينة الخطرة حتى التسليم.
“لسّه حوالىّ ماحدّش خاف،
ولاَ كدّبنى!!
طب هِهْ: راح اسيبْ”
سوف نرجع لنلاحظ الفرق بين هذا السيبان هنا، وبين ما جاء فى قصيدة “جبل الرحمات”، فى ديوان “سر اللعبة” أما الآن فيكفى أن ننتبه إلى أن “السيبان” هنا هو تخل كامل عن دفاعات الموقف البارنوى، حتى يصل إلى الشعور بعودة الجسد نفسه إلى معالم بدائية ممتزجة، بلا حول ولا قوة “:
أنا جِسمى اتبعزقْ،
زىّ فطيرة مشلتتة لسّهْ ما دخلتشِى الفرنْ.
ولا عادْ لى إيد ولاَ رِجْل،
ولا قادر اتـْـلَـمْ
..ياحلاوةِ دَقةْ قلبى وهىَّ بْـتِـحويكُم.
يا حلاوة نَفَسىِ الطـَّاِلع داخلْ وسْطــيكُمْ.
طايرْ نواحيكمْ.
ناحيةْ ربنا فيكُـمْ.
يا حلاوة الحنّيةْ الهاديةْ الناديةْ:
لا بْتسأل مينْ ولا ليهْ!!
ولا عاد لى إيد ولا رجلْ وَلا عارف اتـــلَمّ.
ربما يكون الفرق المهم بين هذه الخبرة، وبين ما جاء فى القصيدة الفصحى، هو فى أمرين:
أن صاحب القصيدة الفصْحى – تقمصا أيضا- لم يكن مريضا، وبالتالى بدت تلقائيته فى التنازل عن الدفاعات أقوى وأكثر مبادرة ودافعة إلى مواصلة السعى إلى الآخر، إلا أننا نلاحظ هنا أنه ربما لفرط “السيبان” احتاج الأمر إلى الاستنقاذ بالقوة الضامة المركزية التى أشرت إليها فى مواقع كثيرة من قبل، وهى التى تستلهم قوتها ومشروعيتها من انجذاب الوعى الشخصى إلى ما، بل إلى من ، يجمع الناس بعضهم ببعض، (اجتمعا عليه وافترقا عليه)، بل إلى ما، وإلى من، يجمع الأكوان إلى بعضها دون أن ينفصل عن الوعى الشخصى (اقرب إلى حبل الوريد) ربما هذا هو ما عبر عنه الحدس الشعرى قائلا:
“يا حلاوة نَفَسىِ الطـَّاِلع داخلْ وسْطــيكُمْ.
طايرْ نواحيكمْ.
ناحيةْ ربنا فيكُـمْ”، (1)
أيضا تتميز هذه القصيدة هنا بإضافة تشير إلى أن عدم تدعيم هذا الموقف بالألفاظ (والتفسير) هو أمر مطلوب وجيد،
“لا بْتسأل مينْ ولا ليهْ!!
كما نلاحظ أن ثمة إشارة إلى أن ما يسمى التغير النوعى لإدراك الذاتDepersonalization) وهو من علامات النمو أكثر منه عرضا مرضيا)، قد تم التنويه عنه فى المتن أيضا
“وانا برضه نسيت أنا مين، وانا إيهْ”
التراجع هنا فى هذه القصيدة قد بدأ من صاحب الخبرة نفسه حين لم يصدق أن هذا الحال يمكن أن يدوم، وأنه لا يمكن أن يُصبر عليه:
“ولإمتى كده؟؟
لأ مش قادِرْ”.
لم يكن ذلك نتيجة أن الآخر انتهز الفرصة فانقض عليه، إن المطمئن هنا (قبل الأوان) قد يتملكه الخوف، وهو لا يسارع بلوم الآخرين واتهامهم بالتخلى أو الخيانة، بل إنه يتبين فى نفسه التنشيط الذى حدث للموقف البارنوى داعيا للتراجع، بدءا بالخوف من الاقتراب (لا تقتربوا أكثر)، بالخوف من الثقة، بالخوف من الحب، بالخوف من الآخر، وهو هنا يدرك مسئوليته فى الدفع والرفض، حتى أنه هو الذى يجهض التجربة، ويسارع بالعودة إلى ميكانزماته البارانوية بكل زخمها:
أصـْل انـَا خايفْ،
أنا خايفْ موتْ،
إخص عَــلىَّ، خايف من إيه؟
من لمس أْيدين أيها صَاحــىِ.
أهى كِـدا باظتْ،
باظت منّى،
رِجعتْ “لكـنْ”:
خايف تِـفْـعـَصـْنـِى انـْتَ وهـُوَّه، وتقولوا بـِنـْحـِب.
وهو يبرر ذلك ليس بانقضاضهم عليه، وإنما بعجزهم عن رؤيته، عن الاعتراف به، عن حبه.
“إيش عرّفكمْ باللِّى ما كانشِى،
باللِّى ما لُوهشِى،
باللِّى ما بانْــشىِ.
وبعودته إلى دفاعاته البارنوية، يرجع التوجس، واليقظة البشعة المتلفتة،
عّمال باحـْسب هـَمـْس حـَفِيفـْكـُمْ.
باحـْسـِبْ خوْفكُـمْ.
خوفـِى مـِنْـكُـم.
مخّى مصـَهـْللِ، وبـْيـِتـفرّج، ولا فيش فايدة.
يبدو أن هذه الخبرة هنا هكذا يمكن أن تنتهى بمضاعفات أقل من الخبرة التى وردت فى القصيدة الأولى “جبل الرحمات”، فنلاحظ أن ثمة عودة تلوح فى اتجاه استعادة دفاعات الموقف البارنوى دون اندمالات ظاهرة، فيعلن مثل هذا الشخص الجوع إلى الآخر شريطة ألا يقترب، إلا بمقدار، فهو الشك والتوجس، فالتذبذب بين الإقدام والإحجام الذى يتصف به الموقف البارنوى، لكنه يبدوا هنا أنه يتزايد باضطراد لا يعد بنهاية قريبة
“نـطـّ منّى، غصب عنّى،
جوعه مسعور، ويعايرنـِى،
شككنى فى الكُـلْ كليـِلهْ”.
مع هذا التراجع والتمادى، يقفز تهديد جديد يلوح بالعودة إلى الخلف أكثر، إلى الموقف الشيزيدى،
رجّعنى للوِحدة النيلة!
(بلا طائل )
لمَّيـتْـنِى، وياريتْنِى لقيتْنى…
من الصعب تماما أن يواصل مثل هذا الشخص (أو أى شخص) معايشة هذا الموقف طول الوقت، وهو إذ يحبط بكل هذا القدر، يجد نفسه فى مواجهة واقع قاس متربص بعيد مستعد للانقضاض، فيحاول أن يلملم نفسه وكأنه بذلك يحميها من استجداء آخر بلا أمل، ولكن هذا اللم لا يحقق له وجودا بشريا حقيقيا “يأخذ ويعطى”، فهو موجود فردا منفصلا، فهو غير موجود
“لمَّيـْتـنِى، وياريتْنِى لقيتْنى”
ومع استمرار هذا الوضع يكون الإغراء بالنكوص الكامل إلى الرحم، (الانسحاب- التوقع- اليأس من الحب…إلخ) لكن المتن هنا يعرّى هذا الانسحاب باعتبار أن العودة إلى الرحم هى نكسة وهزيمة، لكنها الحل المطروح الجاهز ظاهراً
فينك يا مّه؟
نفسى اتكوّم جوّاكى تانى،
بطنك يامّه أَأْمـَنْ واشرف من حركاتـْـهم
ولكن هل هو حل فعلا؟؟!! التراجع المتمادى يقدم هذه الخطوة كأنها حل ممكن، يعفى صاحبنا (يعفينا) من شوك الشك، وإهانة الصد، وقسوة الترك، ليكن، لكن لا بد أن نعلم أنه مهما بدت رغبة المريض (أو السليم) فى تجنب كل ذلك بالانسحاب الأقصى، فإن طبيعة دفع الحياة فى داخله، وفى خارجه أيضا، ترفض هذا الحل، المتن هنا ينبه إلى صعوبة هذا التراجع مهما لوح بأنه الحل، فيُجرى حوارا بين الرحم وبينه، فيصله كيف أنه ليس سهلا هذا القرار، كما تحذر الأم:
نرى من خلال هذا الحوار كيف ان الموقف البارنوى المحبط بعد إلقاء سلاح دفاعاته هو أصعب من الموت نفسه، حتى الموت يبدو بعيد المنال:
وانْ ما قدرتش!!؟
= “إلموت أهون”.
– وان ما حصلشِى؟
– = تبقى الفـُـرجَة، وْشـَك الغُــرْبـَة، وشـُوكِ الوحـْدهْ.
إذا تبينتْ حقيقة قنوات النكوص إلى الرحم هكذا، وظهر مدى صعوبه العودة عبرها، وأيضا إذا امتنع الموت لم يتبق للشخص إلا العودة إلى الموقف البارنوى الذى يكون قد فقد زخم حدته تماما بعد أن ألقى سلاحه، فيغلب الجانب السلبى فيه:فهو لم يعد موقف كر وفر، بل أصبح موقف شلل، وغربة، وألم، وانتظار، وهذا هو أقسى وأذل أوجه الموقف البارنوى: حين يعجز عن الخطو نحو الموقف العلاقاتى (الاكتئابى)، وفى نفس الوقت يعجز عن النكوص إلى الرحم، وأيضا عن الاختفاء بالموت، وكذلك وفى نفس الوقت يعجز عن أن يواصل شحذ آليات دفاعه كرا وفرا، حين تسد الطرق هكذا يعلن المتن شكل المآل المهين
“تبقى الفُرجَة، وْشـَك الغُــرْبـَة، وشـُوكِ الوحـْدهْ.
فى العلاج النفسى، نحاول أن نتجنب هذا المآل الاستسلامى العاجز، حتى لو صاحبه اختفاء الأعراض المزعجة مثل الضلالات والهلاوس، خاصة ضلالات الاضطهاد، ليحل محلها ضلالات الإشارة (مثلا)، ولعل هذا هو المقصود بـ “تبقى الفرجة”، وشك الغربة، وشوك الوحدة”.
تنتهى الفقرة بأن هذا المصير هو الأمر الواقع (السلبى) الجديد
أهو دا اللى حصل!!.
هل يمكن أن يكون ذلك، أو بعض ذلك، هو مآل (أو مضاعفات) بعض العلاج النفسى غير الموفق؟
الإجابة هى بالإيجاب للأسف، إن تعريض المريض للتخلى عن دفاعاته، دون جاهزية الإحاطة العلاجية، والدعم، والحوار الممتد، يمكن أن يؤدى إلى تأكيد الإمراضية (السيكوباثولوجى) برغم احتمال تخفيف الأعراض الظاهرة.
لا توجد فائدة، والموقف كذلك، من التركيز على بحث الأسباب، أو لوم المحيطين، ذلك أن الشخص (أو المريض) فى هذا الموقف يكون مشاركا فاعلا فى تفاقم أحواله، الذى انتهى إلى هذا الاستسلام فالاندمال أو الانسحاب الذى يبدو أبعد ما يكون عن احتمال إعادة التحريك، فماذا يفيد التساؤل أو البحث عن الأسباب، ونحن أمام واقع جسيم حصل ورَسَخ
فى كثير من الأحيان، يتجمد الموقف عند هذا الاستسلام، شعوريا أو لا شعوريا، فهى لم تعد معركة كر و فر، ولا هى تجاوزت ذلك إلى مخاطرة علاقة صعبه مؤلمة متحديه بالموضوع مهما كانت مؤلمة، ولا هى سمحت بعودة إلى الرحم تراجعا طلبا لراحة سلبية وكرامة تجـّنبية، فلا يتبقى أمامه من فرصة تلامس مع آخر إلا “بخطف لمحة عاطفية من هنا”، أو “توهم رؤية محتملة لوجوده من هناك“، ثم عودة سريعة إلى الحوصلة الشيزيدية، وهكذا، طول الوقت.
راجع “كما كُـنْـتْ”، …. قاعدْ ساكتْ تحتِ سرير الستْ،
حاخطــفْ حتة نظرة، أو فتفـُوتـِةْ حُـبْ،
واجرى آكلها لْوَحْدى، تحت الكرسى الـ”مِش باين”
من هنا وجبت إعادة التحذير من جديد، والعمل على التدريب على ضرورة إتقان حسابات التعرض لمثل هذه الخبرة، لأنها ما لم تكن محسوبة ومدروسة وتجرى فى مجتمع علاجى سليم، ووسط خاص وداعم وممتد للفترة الكافية، .. مالم تكن هذه الشروط متوافرة فإن التعريض لهذه الخبرة يصبح تخبطا عشوائيا خطرا.
وبعد
ما هو دور العلاج الجمعى لمنع هذا المآل والتحول به إلى دفع مسيرة النمو؟
هذا ما سوف نتناوله فى الحلقات القادمة.
[1] – هذا ضمان موضوعى أتعامل معه فى العلاج الجمعى عمليا، وفى علاج الوسط، وإلى درجة أقل فى العلاج الفردى، بشكل واقعىّ شديد الإفادة.