نشرة”الإنسان والتطور”
13-1-2011
السنة الرابعة
العدد: 1231
الحلقة الثامنة والخمسون
الجمعة 12/5/1995
يسألنى الأستاذ هل سافروا بالسلامة؟ نحن فى بيتى، أسأله فى دهشة مـَن هؤلاء الذين سافروا؟ فيقول: ألم تقل لى أن ابنتك وأولادها سيسافرون اليوم، وكانت ابنتى التى تعمل مع زوجها مؤقتا فى السعودية تمضى العيد فى مصر، وكنت قد أخبرته أمس عرضا بأنها ستسافر اليوم، وفعلا أوصلتها صباحا لكننى نسيت كل هذا وهو لم ينس، كان معه زكى سالم، و د. فتحى هاشم، وقلت لنفسى وللحضور وللأستاذ إن الاحتفاظ بالذاكرة -هكذا- رغم السن، ورغم تصلب الشرايين لا يرجع فقط إلى تماسك الفكرة المحورية ومرونة الدماغ الإبداعية كما ذكرت فى تقديمى لدراسة “أصداء السيرة الذاتية”، وإنما هأنذا أكتشف أنه يرجع إلى موقف له علاقة بحضور الناس فى وعيه بهذه الصورة الجميلة الحية، فلولا أن الأستاذ مهتم بى، وبما يشغلنى مثل ابنتى وسفرها، ما تذكر ما قلت له أمس، وهو أمر لا قد يبدو لأمثالنا أنه لا يهم، لكن حبه للناس وعنايته بالتفاصيل أمر آخر.
سألنى كيف كتبت الصحف مسألة الموافقة الإجماعية على المعاهدة النووية التى أشرنا إليها أمس فقلت له إننى لم أقرأ صحف هذا الصباح بعد، لكن زكى سالم أشار إلى أن الصحف كتبت تشيد بانتصار الدبلوماسية المصرية، وقال الأستاذ يا ساتر، ثم التفت إلىّ قائلا : لقد تخطوا تصورك أمس، وكان الأستاذ قد سألنى أمس كيف ستذيع علينا صحفنا نبأ هذا التراجع، فقلت له إن الإجماع جاء لأنهم لم يعرضوا التصويت أصلا، وبدلا من ذلك تركوا لكل دولة أن تبدى تحفظاتها الخاصة بطريقتها الخاصة (دون إلزام) (1)، قلت أيضا للأستاذ إننا لم نتعلم، ومازلنا نحذق كيف نسمى الهزيمة انتصارا، قال متألما إن الواحد منا قارب أن يحب الكذب، ويقول محمد يحيى الذى لحق بنا فى الجلسة “إنها مسألة محسومة من البداية، وسواء وقّعنا أو لم نوقع، تحفّظنا أم لم نتحفظ، فإن الأمر لم يعد يَحتمل أى شىء إلا أن نواجه مصيرنا، ونحمل قدرنا ونمضى، المطلوب فقط هو أن نكف عن الكذب على أنفسنا، إن الملك حسين يفعلها عينى عينك، وهو يعلن فى الصباح أن هذا الإجراء ” قد يعكر صفو العلاقات بينه وبين إسرائيل”، ولكنه فى المساء سرعان ما يوقع على ثلاثة اتفاقات: اقتصادية، وسياحية، وإعلامية، وهو لا يكذب فى هذا أو ذاك، أما هذا الرقص على السلم فهو أمر شديد الخطورة وخيم العواقب، ويجرنا هذا الألم المتحدى إلى الحديث عن المستقبل، وما يحضّرونه لنا من برامج كمبيوتر لتشكيل الوعى وتأكيد الاعتمادية (مما سبق الإشارة إليه) ويثور نقاش قديم حول استحالة مقاومة التقدم وفى نفس الوقت ضرورة الوعى بمخاطر الاستسلام للتقليد الغبى أو التنفيذ الأعمى، وأنه لا سبيل لنا إلا أن نتقن الأداة لنرى هل نحن نستحقها أم لا؟ ثم هل نحن قادرون على استيعاب معطياتها والإضافة إليها أو إبدالها أم لا؟ ثم هل نحن قادرون على توجيه وجهتها أم لا؟ وعلى قدر جهدنا فى حل هذه المعادلة الصعبة يكون حقنا فى الوجود بغض النظر عن حواديت القدس والمعاهدة النووية، ويتحمس قدرى (أدريان: حضر أيضا مؤخرا) لشرح مزايا التكنولوجيا، ومفكرة الجيب الرقمية، وبرامج السكرتارية المتنقلة وما إلى ذلك، وأقول للأستاذ إننى رغم حاجتى الشديدة لمثل ذلك رفضت حتى الآن أن أستعمل هذه الذاكرة المساعدة، لأننى فضلت أن أترك لطبقات وعيى أن تنتقى لذاكرتى الأهم فالمهم، ذلك أن عندى فكرة تقول إن ما أنساه – حتى الآن – هو فعلا الخليق بالنسيان، والخشية كل الخشية هو أن يجرنا غرورنا إلى استبدال القدرات البشرية بالوسائل الأسهل متصورين أن فى هذا توفير للوقت وشحذ للتسجيل، إلا أن ذلك قد يؤدى بنا إلى ”ضمور عدم الاستعمال”، مثلما ضمر ذيل القرد حين لم يعد يستعمله – فى نقلته إلى الإنسان- للتشعلق بالأشجار والانتقال بينها، فأصبح وجودا رمزيا أثريا فى نهاية عمودنا الفقرى، ويقول الأستاذ، فأنت تريدنا أن نظل قرودا، وتبدو لى القفشة فى منتهى الذكاء، لكننى أمضى مدافعا عن رأيى زاعما أننى أتصور إمكانية أن يساهم وعينا ورؤيتنا فى الحفاظ على ما هو إنسان فينا، والتنازل عن زوائد الوعى، وأوهام الذكاء الظاهر، وألعاب الشطارة، وعلينا أن نظل نمسك عجلة القيادة لندير بها كل ما يقدمه الكمبيوتر من موسوعات جاهزة توفر على الإنسان الوقت والجهد إذْ تزوّده بكل ما يحتاج من معلومات فى عشر معشار الوقت الذى كان يقضيه فى البحث والتقصى، لكن الانبهار وصل بحماس قدرى للتكنولوجيا المعلوماتية الحديثة أن قال “إن الواحد يستطيع أن يلم بكل أعمال نجيب محفوظ فى أسبوعين، ولم أفهم ماذا يعنى، ولم أستطع السكوت لدرجة أننى أذكر أننى قاطعته، فمن ناحية أكدت أن قراءة الأستاذ – أو ديستويفسكي- كما ينبغى مرة فمرات تحتاج إلى تفرغ سنوات على الأقل، ثم إننى لا أعرف ماذا يقصد بتعبير “يلم بـ..”، ,ان ما يصل الوعى بطبقاته لا يصح أن يقتصر على المعلومات المتجاورة، بل ينبغى أن يتجاوز ذلك إلى خلفية الشكل التى يمكن أن تصله على طبقات وعلى مسافات مختلفة كل مرة، وأننى جربت أن أعيد نقد ما سبق لى أن نقدته لبعض أعمال الأستاذ حين كنت منبهرا بتخصصى مثل السراب أو الشحاذ، فإذا بى أكتشف فيها أبعادا أخرى وأخرى، وأنقد نقدى وأعيد بعضه، وأضفت أن التلقى هو شىء آخر غير مجرد جمع المعلومات، فما بالك بالتلقى الناقد، وكل تلق لا بد أن يكون ناقدا بشكل أو بآخر، وأن كلية التلقى على مستويات متصاعدة وغائرة ومتداخلة يعجز عنها أى كيان ميكنى مصنوع بالمقارنة بمباشرة الوعى البشرى. كان الاستاذ يتابعنى وأنا متحمس، وتزداد زاوية ميل رأسه على صدره ونحوى، فأتشجع وأواصل، وأشير إلى الأطروحة التى قدمتها فى الجمعية المصرية للنقد الأدبى، التى كنت أحد أعضاء مجلس إدارتها يوما بفضل تزكية أ.د. عز الدين إسماعيل، وأن الأطروحة كانت بعنوان “القارئ العادى ناقدا”، وأن معظم الحاضرين من النقاد الثقات اعترضوا على الفكرة، وأننى تعجبت لذلك، فقد كنت أتصور أنهم سوف يرحبون بها، ولكن يبدو أنهم مثل الأطباء يفضلون أن يحتكروا التخصص، مثلما يفضل الأطباء أن يحتكروا العلاج، ويلقط الأستاذ التشبيه، ويضحك عاليا.
ويقترح قدرى أن تخصص قناة ثقافية فى التليفزيون ردا على الردة التجهيلية والقهرية التى تسود المجتمع الآن، ويوافق الأستاذ على ذلك، ويتحمس له، ويذكر أن الوضع الحالى لا يغرى أحداً بالنهل من الموارد الثقافية المتاحة، ويضيف أنه لو تم ذلك، فإنه يأمل أن المادة التى تقدمها تلك القناة تكون متنوعة وجاذبة، وأقول للأستاذ إننى حين اختِرت عضوا فى لجنة عليا إستشارية للإذاعة، وكان فهمى عمر يرأسها منذ سنوات طويلة، كان الاقتراح الذى قدمتـُه شديد البساطة، وهو أن يذاع البرنامج الثانى على موجة صوت العرب، دون تغيير حرف فيه، ذلك أن الذى يجمعنا، ومازال يمكن أن يجمع العرب من بُعدٍ أبْقى ليس السياسة ولا الحرب، بل الثقافة والإعلام، حتى المسلسلات التى نقول عنها عادة إنها تافهة (ما زلنا سنة 1995) هى تقوم بدور قومى أهم من دور الجامعة العربية، ويتفق الأستاذ معى، ويقول إن موجة صوت العرب تصل إلى العالم العربى كله، والعرب حريصون كل الحرص أن يعرفوا ماذا يدور بعقل المصريين خاصة، وأن الانتشار خليق بأن يخلق جمهورا جديدا من خلال التعود والتشويق، فينبه قدرى إلى أن التسويق الآن، بما فى ذلك تسويق الثقافة، وأيضا تسويق غسيل المخ وتشكيل االوعى الزائف، وهو الوجه الآخر للاستعمال السلبى لنفس التقنية (وهو ما تخططه إسرائيل حاليا كما أتصور) لم يعد يكتفى بدراسة حاجات الناس ليستجيب لها بمنتجات مناسبة، وإنما هو يرسم الخطط لخلق حاجات مناسبة ليبرر تسويق المنتج، بل لخلق غرائز استهلاكية جديدة، وبرامج بيولجية تابعة، وأضيف أنا: إن من أوجب الواجب هو الانتباه ألا يتحول الإنسان بذلك إلى كائن له “غرائز زائفة”، وبالتالى يعيش بقدرات زائفة، قد تسرع به نحو الانقراض، هذه الغرائز الجديدة إذا لم تكن بقائية تطورية أعمق فإنها تصبح خطرا على نوعية الحياة بل هى خطر على الكيان البشرى ذاته لأنها لم تنبع تلقائيا من احتياجاته البقائية للتكيف مع أفراد نوعه، والأنواع الأخرى، فى رحاب التناغم مع الطبيعة وحركية الأكوان، ثم أتلفت إلى الأستاذ قائلا دون الشعور بالخجل من التكرار: إن المحنة التى تؤرقنى الآن هى احتمال التعرض الحقيقى للانقراض، ذلك أن التدخل فى تشكيل وعى البشر بما ليس بيولوجيا تفرضه آليات وبرامج التطور عبر الزمن، أى التدخل فى تصنيع غرائز الإنسان بهدف التسويق والرفاهية مثلا، سوف يتخلق منه على المدى الطويل كائن شاذ لم يتشكل نتيجة قوانين البقاء الحقيقية، وإنما صنعت له أطراف وعى صناعية رغم وجود أطرافه الطبيعية، فيتصادم هذا مع ذاك، فينكفئ، فيتوقف نموه ولا يعود يصلح للبقاء، فهو الانقراض، ويقول الأستاذ هذا وارد ويضرب مثلا بإنسان ترندال، وإنسان (…..) لأ أذكر الاسم لكنه ذكره، ربنا يخليه !!!
ويظل التساؤل ملحا : إذن ماذا نصنع ؟
فأكرر اقتراحا كنت قد اقترحته أمس، وهو أن نبدأ بسحب نقودنا (كل العرب، والمسلمين إن أمكن) من بنوكهم، فيقول محمد يحيى لن يسمحوا لنا، وتذكرت فكرة مصادرة الأرصدة، وحكاية حكاها توفيق أمس حين طلبت السعودية ثمانية مليارات من أرصدتها فى بنوكهم وردوا بأنه لا توجد سيولة، كذلك تذكرت غرابة شكر السيدة بنازير بوتو للسيد كلينتون على أنه رد لها نقودا كانت باكستان قد دفعتها لصفقة أسلحة لم تتم، وكأنه كان من الممكن – تحت عنوان حفظ السلام، وربما خوفا على أخلاق السيدة بنازير!!!- أن يأخذ كلينتون الفلوس ولا يعطى أسلحة، يبدو أن الأمور فعلا تخرج من أيدى التابعين أمثالنا، بل إن ما يسمى النظام العالمى الجديد الذى بدا أمريكيا فى أول الأمر، يبدو أنه نظام سرى مجهول، وحادث التفجير فى أوكلاهوما كشف عن بعض أمريكيى الولايات الأمريكية الذين ينظرون إلى الحكومة الفيدرالية باعتبارها القاهر فوق عباده، والكلام الآن هو على سيطرة اليهود والزنوج على الشعب الأمريكى، وإذا سمحنا لأنفسنا بالتمادى فى التفسير التآمرى، فإن المسألة قد تصل إلى اكتشاف أن اليهود (أو قل الصهاينة عبر العالم) يكوّنون فعلا حكومة سرية تحكم العالم بما فى ذلك أمريكا، وأقول للأستاذ أن يسامحنى إذا أنا تعاطفت مع هتلر ورفضت أن أتصوره مجرد عنصرى مجنون منذ البداية، إذ يبدو أنه لم يبدأ كذلك، وفى كتابه كفاحى، أو بتعبير أدق فيما تبقى بين أيدينا من كتابه كفاحى تظهر ميوله الإنسانية فى البداية، ثم إننى أتصور أنه اكتشف حقيقة من يدير النظام العالمى أيامها، واكتشف أنهم هؤلاء اليهود الماليون المنعزلون عن باقى الناس، إذ أنهم لا انتماء لهم إلا لأنفسهم وضلالات تاريخهم، فوجد أنه لا صلاح لهم، ولا أمل فيهم فبدأت فكرة التخلص منهم (الذى لم يحدث بشكل خاص بهم كما يصورونه مهما ادعوا، وثمة هامش سبق أن استشهدت به من كتاب علاج نفسى كتبه فرانكل وهو يهودى، يثبت ذلك)، ويؤكد هذا الفرض قدرى (ممثل البيزينس فى الحضور)، وأن تحويل مائة دولار من بنك إلى بنك آخر لا بد أن يمر على مكتب للمقاصة مركزه فى نيويورك ويسيطر عليه اليهود فعلا، ويعترض محمد يحيى على دفاعى عن هتلر، فأصمم أننى لا أدافع عنه، وإنما أنا أتقمص بداياته لأفهمه، ثم ألفظه مثلما ألفظ أى غبى قوى لم يستطع أن يحافظ على الاتجاه، أو أن يراجع خطواته، فانزلق ودفعت البشرية (لا اليهود وحدهم) الثمن.
ويعود الحديث عن اقتراحى بسحب الأموال، فأمزح مع الأستاذ قائلا: علينا أن نضحك عليهم ونسحبها جزءا جزءا، فيدعى أى حاكم أو ملك أنه معذور وأنه يجهز ابنته مثلا، وأنه يريد أن يسحب كذا، ثم كذا وهكذا، حتى يكتشفوا الأمر وخاصة وأن ذلك سوف يصاحبه أن نكف عن الإيداع، فيضحك الأستاذ ويقول: إن على أثرياء العرب أن ينجبوا بناتا كثيرات حتى تتم سحب الأرصة، فيعترض محمد يحيى على الفكرة، وليس على النكتة، كالعادة، ثم يسألنى وماذا سنصنع بهذه الأموال المتراكمة، فأقول نبنى بها المصانع ونزرع الصحراء، ونشغل الأولاد ونصدر إليهم وإلى غيرهم، فيسألنى الأستاذ إذن سيأخذونها ثانية لأنهم هم الذين سيبنون لنا المصانع أو على الأقل سوف نشترى منهم الآلات، وأقول إن هذا أفضل من أن نشترى المنتجات، وأذكر أن هذا الفكر الطفلى هو هو أساس الاشتراكية والشيوعية فى صورتها النقية، وبرغم أنه فشل فى التطبيق فشلا ذريعا، ولكن ليس معنى فشله أنه فكر خاطئ، وإنما الفشل يعنى أن التطبيق كان محدودا وقاصرا وخائبا لأن الجرعة لم تضبط، والتوقيت لم يحسب، ثم إنه كان فكرا قزما لم يضع فى اعتباره الامتداد البشرى فى “المابعد”، الصورة المحورة التى أقترحها لا بد أن تستعمل جوهر الدين لصالحها، ومن حقى أن أشطح أو أحلم أن يصدر شيخ الأزهر، أو حتى الشيخ بن باز، فتوى تقول إن أى مسلم يضع قروشه فى بنوك النظام العالمى الجديد هو آثم، وأمواله حرام ولا يحق له صرف أى درهم منها، هذا بدلا من الفتاوى التى ترف علينا عن السلام الذى لا بد أن نجنح له، ما داموا هم قد “جنحوا للسلم”، ولا هم جنحوا ولا يحزنون.
ثم أرجع لأوضح موقفى، وأننى أعترف باستحالة مقاومة التقدم، أو التنافس الغبى مع معطيات التكنولوجيا، لكننى أضيف لقدرى خاصة أن ما توفره التكنولوجيا من وقت للفرد ينبغى أن يوضع فى مكانه، فقد تـُوفر الوقت تلو الوقت ليملؤوه هم بمعرفتهم أيضا، حتى نصل فى النهاية إلى أن يكون الوقت سلعة إستهلاكية أيضا تخدم التغييب وهى تدور حول نفسها لتحقق ذاتها دون أن يصب عائدها فى وعى البشر ليصبحوا أكثر إنسانية وأقرب إلى ما خلقهم الله عليه، ما لم يوجد مجال صحى محيط يوجه الوقت والمال إلى استخدامهما المناسب لصالح الفرد، فالجميع، فإن كل الوسائل الهادفة إلى زيادة أحدهما أو كليهما هى وسائل خادعة ومضللة بما فى ذلك التكنولوجيا،… فهل نستطيع بالاستعانة بإلهامات لغتنا وتراثنا وإيماننا أن نحافظ على فطرتنا التى خلقها الله، بل وأن ننميها بما خلقنا نحن أنفسنا؟ هذه قضية التحدى البشرى الحقيقى عبر التاريخ، وقد تركزتْ وتضخمتْ حاليا بشكل أكثر حدة وتحديا نتيجة للقفزات العملاقة للتكنولوجيا، فهل من سبيل إلى حل المعادلة الصعبة؟ فيقول محمد يحيى إنه يتصور أن فرنسا قد نجحت بشكل ما فى حل هذه المعادلة الصعبة ولو حلا جزئيا، فمن ناحية هى تمارس أعلى درجات الإنجاز بفضل الاستعمال العصرى للتكنولوجيا، ومن ناحية أخرى هى تحافظ على العلاقة بالطبيعة واستثمار الوقت إنسانيا (بالفن والخروج للطبيعة وفرص الدفء البشرى والحرية والحوار !!) بأعلى درجة ممكنة، وأوافقه نسبيا من حيث المبدأ على قدر معايشتى لما هو فرنسا سنة 1968-1969، إلا أننى أنبه أن فرنسا الآن تعانى من الإغارة الأمريكية، أو السوبر أمريكية (النظام العالمى الأمريكى الجديد) مثما نعانى، وأن العمارة والذوق العام الفرنسى واللغة الفرنسية، يتخذون موقفا دفاعيا ضد كل هذا، ولا أعرف هل ينتصرون أم لا. فينتقل النقاش إلى النموذج اليابانى الذى يجعل العامل اليابانى، رغم ضخامة الإنجاز وسطوة الين وعملقة التكنولوجيا، يجعله ينتحر إذا قصر فى عمله، ويحكى محمد وآخرون كيف أن العامل اليابانى يعمل عشر ساعات ويسكر أربع ساعات وينام سبع ساعات وتتبقى له ثلاثة ساعات فقط كل يوم، ويبدو هذا جليا فى التفكك الأسرى فى اليابان من ناحية، والجفاف الوجدانى- رغم ارتفاع ثمن الرموز الجمالية (من اشترى لوحة فان جوخ مؤخرا؟) ويبدو التحفظ على النموذج اليابانى الكمّى الميكنى. ولكننى أتذكر الروايتين اليابانيتين اللتين أشرت إليهما سالفا، وحدثت الأستاذ عنهما، “اعترافات قناع”، و”هموم شخصية”، وأقول للأستاذ إننا لسنا فى موقع الحكم على التقدم اليابنى، ولا على الروح اليابانى، ولا على الأدب اليابانى، ولكن دعنى أقول لك إن ما تبقى من انطباعى من هاتين الروايتين (وهو حكم غير قابل للتعميم طبعا) هو أننى شعرت أن مثل هذا المبدع اليابانى قادر على أن يعرى أجزاء متفرقة من الكيان (والجسد) البشرى بشكل شديد الغور شديد الروعة، لكنها تظل أجزاء متفرقة مهما حاول ربطها بخيط من صلب الإبداع لا ينفصم، فهل يا ترى هذا هو حال اليابان التى استطاعت أن تصل إلى أعلى إنجازات التكنولوجيا والإنتاج، لكن فى مواقع متفرقة لا يربطها محور حضارى ضامّ يصلح لإنقاذها وإنقاذ العصر بما يناسب كل هذا الإنجاز التقنى والكمي؟ وأعتذر للأستاذ لذكر هذه الانطباعات بشكل يوحى بتعميم مخل، فيقول: فعلا لا نستطيع أن نعمم حتى نعرف أكثر
ويذكر يوسف عزب متألما منظر جثث عدد من الناس بالقرب من مكتبه فى الألف مسكن، (منظر ربما له علاقة بهجمة أمنية ضد خلية إرهابية لست أذكر تحديدا) وكيف أنه سمع فى نفس الوقت عن مقتل عدد من الناس فى المنيا فى نفس اليوم، فيتألم الأستاذ ويقول: كلما تصورنا أن الحكاية خلاص نفاجأ بأخبار جديدة محزنة، ويثور يوسف قائلا إن الحكومة زودتها بهذا القتل العشوائى، فيرد محمد يحيى إنها الحرب، ولا سبيل فى الحرب إلا بمثل هذا، فيقول يوسف لتكن الحكومة شجاعة وتعلن أنها الحرب، لا بد من شجاعة الإعلان عن طبيعة ما يجرى ونسميها حربا بدلا من هذه الادعاءات وتصوير الأمر للناس أنه مجرد اختراق للقانون، فيعقب أحدهم (لا أذكره): إنه من الأفضل أن يظل التعامل مع هذه الأحداث على أنها جرائم فى أيدى القضاء، الذى من حقه أن يتعاطف معهم أحيانا لو وجد المبرر القانونى لذلك، ويثور د. فتحى هاشم ضد فكرة التعاطف مع القتلة، ويقول لزكى – الذى يبدو أنه أيد هذا الرأى بشكل أو بآخر، يقول د. فتحى: إنه لو أنه رأى هؤلاء الناس فى الشارع فهو لا يعرف ماذا سوف يكون شعوره أو تصرفه إزاءهم، وأتصور أن انفعال فتحى نابع، ولو جزئيا، مما رسب فى وعيه وهو جالس بجوار الأستاذ يوم الحادث والوغد القاتل يغرز السكين فى رقبته، وأشعر للمرة الكذا بالامتنان له، فهو – بفضل الله – الذى أتاح لنا هذا الوقت وهذه الفرصة مع الأستاذ، ويعود الحديث عن الرأى الذى يفضل التعامل مع الظاهرة بلغة الحرب، وأن البديل لذلك هو التسليم التدريجى لهم، وبالتالى احتمال توليهم السلطة قسرا ثم يقومون بدورهم بقتل لا عشرات أو مئات بل ملايين تحت زعم تطبيق الشريعة وحد الحرابة وما إلى ذلك، ثم إن المصية هى أن النظام الذى يواجههم هكذا هو نظام عسكرى مدع مثلهم، فقط هو أخف وأقل استنادا إلى أيديولوجية لاهوتية تنبع من تفسيرهم لنصوص دينية مقدسة، ونعود إلى الأستاذ، فأتأكد من قوة وثبات موقفه الذى لا يلين فيقول: إنه إذا كان لا بد من المغامرة فلنخضْها، وليكن ما يكون، وأقول إن الملك حسين خاضها ليس إلى درجة تولى الحكم، ولكنه لعبها بذكاء “هاشمي” على مستوى مجلس الشعب، فكشفهم فانفض الناس عنهم، ونسأل الأستاذ ما العمل: هل نقبل بحرب العصابات هذه بين دولة لم تعلن الحرب وجماعات تدعى حقا لن تعطيه لأحد حين تتولى؟ أم نرضى بأن نكون دولة لها قيمها المعلنة التى لا تتغير حتى لو عرضتها هذه القيم لمخاطر إنقلابية لا نعرف لها حدودا؟ فيقول الأستاذ دون تردد: أنا مع هذه الدولة طبعا وليكن ما يكون.
وأرى أن الأمور تدور حول نفس المنطقة القديمة مضافا إليها آلام قتل الأبرياء ومخاوف قهر قادم أقسى من قهر قائم، أشعر أن الجرعة أصبحت معادة وثقيلة، فأحاول أن أخفف عن الأستاذ بأن أعيد عليه ملاحظة كاريكاتيرية فكهة كنت أتبادلها مع زكى سالم، فقد قابلنا محمد عبد القدوس فى فندق فورت جراند أمس، وكان جميل الطلعة مشرق الوجه، وذكرناه جميعا بخير، وقلت لزكى، وهأنذا أعيد على الأستاذ: إن عيبه الوحيد هو محاولاته لكتابة قصص (إسلامية)، وقلت للأستاذ (ماقلته لزكى قبلا على ما أذكر) سأحكى لك بإيجاز قصتين من قصص محمد إحسان بشكل كاركاتيرى، فضحك ابتداء، ثم قطع الضحكة، وحسبت فيما بعد أنه تذكر إحسان، قلت:
القصة الأولى: أن رجلا قابل سيدة طيبة فقال: لها صلى على النبى، فقالت عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام فأحبها وأحبته من بعيد لبعيد، ثم افترقا، وتألما واستغفرا وأكمل كل طريقه، ويسكت الأستاذ لحظة انتظارا أن أكمل، فأقول له إن القصة انتهت، فيضحك فى طيبة، ثم يردف: يا شيخ حرام عليك، فأمضى قائلا: إذن فإليك قصة أكثر تعقيدا وحبكة، كان ثم رجلان، أحدهما سارع بإخراج الزكاة، أما الآخر فتلكأ وتردد، ثم غار من الأول فأخرج زكاته بدوره، وتزوج الأول امرأة سمراء تحبه، أما الثانى فتزوج امرأة بيضاء أحبته بعد الزواج أكثر من حبها له أيام الخطبة، ودخل الجميع الجنة بعد أن غفر الله لهم كل اللمم، وأسرعتُ قائلا : انتهت القصة قبل أن يسألنى أن أكمل.
ويضحك الأستاذ من جديد ، لكن ضحته تلكزنى أنه ليس هكذا”
وينصرف الأستاذ متأخرا قليلا، ويلتفت وهو خارج فأتصور أنه نسى شيئا، لكنه ينظر فى اتجاه قدرى، ولا أعرف كيف التقطه، ويوصيه بالتمسك بالتكنولوجيا، ثم يضيف: ”ولا يهمك”.
تصبح على خير يا شيخنا الطيب.
[1] – من خلال هذه المعاهدة :..لا تريد الدول النووية أن تفتح الباب لآخرين ، فهم يتفقون مع بعضهم ويأتون ويقولون هذا هو الاتفاق……وهناك مخاوف متبادلة بين الدول النووية وغير النووية في مجال نزع السلاح وعدم الانتشار،…كما أن حركة عدم الانحياز تتحدث أيضا عن مسألة عالمية المعاهدة….. إلخ