نشرة “الإنسان والتطور”
25-2-2010
السنة الثالثة
العدد: 909
الحلقة الثانية عشر
الأربعاء 11/1/1995
تأخرت قليلا (6 دقايق)، كان محمد يحيى وزكى سالم قد سبقاني، حين دخلت هذه المرة، ومال زكى عليه يخبره أننى القادم، قال: ”حضر؟ أخيرا”؟ ثم أردف وهو يهم بالقيام فورا من جلسته: و”إنى وإن كنت الأخير زمانه، لآت بما لم تستطعه الأوائل”، خرجنا للتو كالعادة، “ياللا بينا”، أصبحت معتادا هذه اللهفة وهذه الدقة معا، وملت إلى تفسيرها بأنها دليل متجدد على عمق علاقته بالحياة والشارع والناس، ما زلت أرى الطفولة المتفجرة تطل من حيويته وتصرفاته، هكذا كانت تتمثل لى اندفاعاته نحو الباب مثل الطفل الذى تحقق من قرب انطلاقه إلى المشوار الذى يحبه، والذى وعدوه به فانتظره غير مصدق، ثم ها هو يتأكد من بداية رحلته إليه، كنت أشعر أحيانا أنه يكاد يحذر من أن يتراجع أى منا عن الانطلاق فى المشوار اليومى، ولو يوما واحدا، ولو ساعة أو بعض ساعة، لست متأكدا من هذا التأويل، لكنه كان يفرحنى.
نفس المكان! وليس نفس الميعاد، نويت بينى وبين نفسى على التمسك برأيى فى تثبيت الأماكن والمواعيد كما هى حتى لا أخل بنظام إيقاع حياة الأستاذ اليومية التى ما صدقنا أنه ألفها واعتادها بعد ما حدث، قررت أن يكون ذلك كذلك مستقبلا، هو هو نفس الموعد كل يوم كما حددناه وبدأنا فى تنفيذه، لم أقتنع أبدا بجدوى التغيير لا فى المكان ولا فى التوقيت مهما بلغت المخاوف، كم بقى له ولنا حتى نجعله يعيش كل يوم فى حال، وكل ساعة فى توجس، وكل لقاء فى مكان، يسقط كل شىء إلا الأمان ينبع من داخلنا بما تيسر لنا من واقع.
وصلنا للعوامة، اكتشفت أن العاملين فيها هم الذين ينتظروننا رغم أنى هاتفت كل ‘الشلة’ بموعد اليوم المبكر قليلا، العمدة (عماد العبودى) هو المسئول عن تهيئة هذه الجلسة الخاصة، فوجئ أهل العوامة بنا، جلسنا بالقرب من شاب وفتاة يتناجيان، وآخران (رجل وامرأة) لا أعرف ماذا يفعلان، ظننت أننى أخطأت المكان وأن المكان الخاص الذى اعتدنا الدخول إليه لا زال بالداخل، لكن الأثاث هو هو وإن كان الترتيب تغير، ربما ذلك لأننا وصلنا مبكرين قليلا، أعيدََ الترتيب بسرعة، واقتطعوا لنا الجزء الخاص بنا، فانقسم المكان – بعد استئذان الجلوس – إلى ما يخصنا، وما هو عام، وقام الرواد القلائل إلى أماكنهم الجديدة يعلو وجوههم خليط من السماحة والاحتجاج.
أثناء وجوده بالسيارة معى وأنا جالس على عجلة القيادة وهو بجوارى مازحنى قائلا: “فاكر يوم الاثنين” (أمس) ثم أردف: “يوم ما اتقابلنا احنا الاثنين”، وضحك عاليا، فرحت وهو يتذكر لقاءنا “رأسا لرأس” متفردين كما ذكرت أمس بالتفصيل (نشرة 18-2- 2010فى شرف صحبة نجيب محفوظ “الحلقة الحادية عشر” الاثنين 9/1/1995) هذه الفرحة بالناس والخروج تتجدد باستمرار لدرجة تبرر لى أى شىء أفعله لأحافظ له على مثل ذلك، هكذا وزيادة، كما تبرر تفسيرى السالف الذكر للهفته فى موعد الخروج وانطلاقه نحو الباب بمجرد أن يلقانى.
بدا الحديث ونظرت إلى ثلاثتهم، هو وزكى ومحمد يحيى، افتقدت الآخرين، اكتشفت أننى بدأت أحبهم بحكم العادة، أين يوسف القعيد بأخباره؟ أين جمال بحضوره الحاد اليقظ، التراثى حينا، السياسى أحيانا؟ أين رجال الأعمال: عماد عبودى وحسن ناصر ومحمود كمال بمصريتهم الإيجابية ومشاكساتهم للغيطانى والقعيد بشأن اقتصاد السوق وعبد الناصر “العظيم”؟.
بدأت الحديث ذاكرا له لمحات من ندوة حضرتها أمس كنت أخبرته أننى شاركت فيها فى ‘المركز الإقليمى العربى للتوثيق والأبحاث فى العلوم الاجتماعية’، وكانت عن دور العلم فى مكافحة الإرهاب، قلت له إن المدعوين كانوا عقولا راجحة، وأسماء بارزة استفدت من الحوار معهم، وأن رأيى أن أهم المتحدثين وأوضحهم كان اللواء “حسن أبو باشا” كما كان من بين المدعوين د.أسامة الباز ود. محمد احمد خلف الله، وقلت له إننى عشت فى هذه الندوة وجها لوجه إشكال الاستقطاب الذى تحدثنا عنه يوم الاثنين معا، وأننى كنت متأثرا بكلامه، وأننى واجهت الأمور هكذا : أبيض وأسود، إما ديمقراطية مستمرة تسمح لنا بخلع من لا يرعى مصالح الناس ويساير التطور، وإما الديكتاتورية المعلنة أو المزركشة والمقنعة والمدعمة بالتزوير والخطب والشلل والانفصال عن الناس، قلت له أن حديثنا أمس قد أثر فىّ، لكننى أضفت أننى مصمم أن يكون تأثيرا مؤقتا، وأننى أنوى التراجع ولو بعد حين، وسوف أصبر على قبول رأيه حتى يكتشف البشر ديمقراطية أرقى وأقدر، طرح الأستاذ من جديد وجهة نظره قائلا: ‘إن الشعب أحسن الانتقاء طول عمره، وحين أخطأ الانتقاء دفع الثمن، وحين دفع الثمن، رجع إلى الانتقاء الأفضل، وهكذا، ثم أضاف “… دع من يخطيء فى الانتقاء يدفع الثمن ولو لفترة، أما حين حرم الشعب مـن مسئولية المشاركة فيما يجرى حدثت المصائب تلو المصائب برغم البدايات الواعدة”، قلت له : إن كل هذا صحيح، لكن الخوف الحقيقى هو أن من يأتى من خلال هذا الانتقاء هكذا، ثم يتولى أمرنا ويحكمنا بمرجعية دينية ثابتة أو أيديولوجية جامدة، كما سبق أن أبنتُ، هو نفسه الجاهز لمحو فرص الانتقاء التالى حتى لا يسمح بأية فرصة لخلعه”، قال: “لقد انتظرنا وتحملنا أربعين سنة حين قرر أحدهم لنا ماذا نفعل ومن نكون، ألا يمكن أن نتحمل أربع سنوات أخرى يتولى فيها المسلمون الحكم لنرى الواقع، بدلا من أن نحكم حكما مسبقا على ماذا سيفعلون، وكيف يتراجعون، إنهم حين يتقدمون لنا سيتقدمون ديمقراطيا ببرنامج، ولن يكون هذا البرنامج حاويا لهذه الفكرة التى نخاف منها طبعا (الانقلاب على الديمقراطية)، وإذا غيروا البرنامج بعد الوصول إلى الحكم فقد أخلوا العقد، وحين يخلون بالعقد يصبحون غير أهل للثقة، فنسقطهم”.
سكت خشية أن أكرر، واكتفيت بأن قلت: إننى أفهم بدرجة كافية، لكننى لا أصدق إمكان حدوث ذلك بهذه البساطة.
عرضت بقية اقتراحاتى الشاطحة التى لم أتردد فى أن أعرض بعضها فى ندوة مكافحة الإرهاب تلك، وهى (1) أن تتوقف كل الصحف عن الصدور لفترة لا تقل عن ستة أشهر، وتصدر بدلا من الكلام الكثير الذى يملؤها بلا معنى نشرة من أربع صفحات، بشلن، بدون إعلانات حتى نتمكن من النظر فى المختصر المفيد (2) أن يحلّوا كل الأحزاب وأولها الحزب الوطني، ثم تعلن حرية تكوين الأحزاب، بلا لجنة أحزاب ولا يحزنون (3) أنه فى حالة السماح بحزب إسلامى، لا بد من السماح بحزب قبطى مع التأكيد على نفى أية مرجعية ثابتة، إلا صالح الناس وواقع الحال، ولنواجه واقعنا بشجاعة مشتركة (4) أن تزيد جرعة الإجبار على الاقتراع فى الانتخابات على كل المستويات ولو زيدت العقوبة لدرجة الحبس. طبعا سخر الجميع من هذا الكلام ، ولم يصدقوا أننى قلته فى الندوة، وربما لم اقله بهذه المباشرة، لا أذكر، وأعيد النقاش بعد حضور القعيد والغيطانى وسرت همهمة وتحفظ، وأثيرت مخاوف، وكان الأستاذ فارس هذا النقاش دون سخرية، وظل على رأيه وعلى ثقته فى الناس وفى حركة التاريخ!!! سألنى: من ذا الذى سينفذ اقتراحاتك هذه؟ قلت له: “أنا”، فاستلقى إلى الخلف مقهقها.
حضر حسن ناصر، ثم محمود كامل، الجناح الرأسمالى فى الجلسة، وكان الاستاذ قلقا أن يكون تبكير الميعاد هو الذى منعهم، وكان أهل العوامة قد أتموا فصل الجزء الخاص بنا، وبدا الحديث رأسماليا: وكيف أقام د. إبراهيم كامل (صاحب العوامة ومانح هذه ‘الوقفية’ لنا، كما يسميها الاستاذ) أقام مصانع فى ألبانيا لأنها الأكثر فقرا والأهم موقعا فى أوروبا، وكيف أن سرعة الإيقاع وحدة التنافس تتطلب من رأس المال أن يتحرك طليقا فى كل مكان فى العالم، وأن يتنوع الاستثمار حتى إذا ضرب نشاط ما سنده آخر من غير نوعه وكلام من هذا، كل ذلك والاستاذ يتابع فى اهتمام وكأنه يستمع لأول مرة لهذا الحديث الجديد القديم، لكن سرعان ما وصلنى شخصيا ما لم أكن أعرفه من قبل، وهو موقف الدولة من تجريم الاحتكار، وأيضا ضرورة مراقبة الشركات (أو الأعمال الكبيرة) إذا لم يكن لها منافس، مثل منع ضم أى شركتين إذا كان ضمهما سيحرم السوق من التنافس الحقيقي، فرحت بهذه المعلومات الرأسمالية الجديدة، وتمنيت أن يتم تطبيقها فعلا بالعدل والقسطاس على الجميع، قال حسن ناصر إنه لم يعد هناك مكان للهواة فى عالم رجال الأعمال، وفسر الهواية بأنها الممارسة بدون قواعد علمية وتخطيط ممتد.
سألت عن ما يمكن أن يضيفوة إلى معلوماتى عن طبيعة الشركات المتعددة الجنسيات، ولا مؤاخذة’، فهى عندى تشير إلي، أو تدل على، ما يشين أخلاقيا أو وطنيا أو اقتصاديا، وهل هى لا تدفع ضريبة لأى بلد طالما أنها لا تنتمى إلى جنسية بذاتها؟ أجابوا بأن ذلك غير صحيح وأنها تدفع ضريبة لكل بلد حسب قوانينه وحسب النشاط الذى تمارسه فيه، وأن المسألة لم تعد التهرب من الضرائب، وإنما هى ذكاء التعامل مع قوانين الضرائب. أعجبت بهؤلاء الناس الممتازين الذين يعرفون بكل هذا اليقين كيف تدار الأموال هكذا، لكننى لم أمنع نفسى من ترجيح أنهم يعرفون ما هو على ظاهر الأرض دون باطنها، فمعلوماتى عن شركات الدواء ليس لها علاقة بكل هذه العلانية المطمئنة المفيدة، حاولت أن أنبههم إلى القوى التحتية، وإلى خبرتى فى تتبع لوبى هذه الشركات وتأثيرها على السياسة حربا وسلما، فلم أستطع، فهم خبراء 100%، “وأم الاعمى أدرى برقاد الاعمى”، ولم أتماد فليس عندى غير خبرتى مع مرضاى وأدويتهم، وهى ليست قليلة، لكنها تبدو بالنسبة لهم هامشية، تعجبت كيف كان الأستاذ يتابع كل ذلك ، برغم صعوبة السمع، بدليل أنه كان يستعيد بعض ما لا يصله واضحا، وقد انتبه أكثر ما انتبه إلى دور الدولة فى منع الاحتكار بهذه الصورة التجريمية الواضحة، وأضاف محمود كمال شارحا كيف أن التنافس قد هبط بأسعار السوبر ماركت فى انجلترا فى الثلاث سنوات الأخيرة بمقدار 19%، بل إن السوق المحلى فى القاهرة شهد انخفاضا فى أسعار السيارات لنفس السبب، التنافس الحقيقى، إزداد عجبى، وفضلت أكثر فأكثر عدم التصديق، ولو مؤقتا حتى أعيد النظر، قاطعت المتحمسين منبها أننا نحتاج للجناح اليسارى فى جلستنا الرأسمالية هذه، ولم يكن القعيد قد حضر بعد، فسألت يا ترى ماذا كان سيفتى به لو كان حاضرا كل هذه الرأسمالية؟ حضر القعيد أخيرا بجلبته الحيوية، وفرح الاستاذ به وربما بالتوازن المتوقع، لكن حضور القعيد قد غيّر الموضوع فورا، إذْ سأله الأستاذ السؤال التقليدى الذى يسأله إياه عادة فور حضوره “هه.؟ هل من أخبار؟”. قال القعيد الجاهز: كان اليوم هو يوم افتتاح معرض الكتاب الرسمى بحضور الرئيس، وحكى القعيد عما سمع عن الاشتباك بين سعد الدين وهبة ولطفى الخولى عن التطبيع، وقلنا ننتظر الغيطانى الذى حضر الاجتماع يحكى لنا التفاصيل – تغير جو الجلسة وحلت السياسة محل الاقتصاد، حضر الغيطانى وحكى اندفاعه أمام الرئيس، ووصف سعد الدين وهبة بأنه يمثل ضمير المصريين ، وتحفظت على هذا الوصف لأنه لا يمثلنى – مثلا، فقال القعيد: فهو يمثل ضمير مصر، فقلت له هل معنى ذلك أن تنفينى من مصر، دع لى قطعة يا رجل، وضحك الأستاذ، ولم يضحك القعيد، أما الغيطانى فوقف بين بين.
فتحوا موضوع التطبيع من جديد، وكان رأى الغيطانى أن المسألة ليست فقط مصالح وسياسة، ولكنها مسألة التخلى عن المسلمات والثوابت فى مواجهة سرقة التاريخ وطمس الانتماء، فكرت أن المسلمات والثوابت هذه قد تعنى أحيانا، ربما فى سياق آخر، قدرا غير مفيد من الجمود والتشنج، أشار إلى أننا على وشك الدخول فى الحقبة العبرية للمنطقة، قلت له إن هذا التعبير يُلزمنا أن نسارع فى إحياء اللغة العربية الحقيقية، هيا نتساءل كم من شبابنا يمكن أن يفخر بأنه يتكلم لغة عربية سليمة (دعك من السؤال عما إذا كان يتقنها أم لا) نحن نتخلى عن هويتنا ولغتنا بما نفعله وما لا نفعله دون حاجة إلى تدخلات عبرية، إنها ظاهرة تؤكد كلا من عدم الاتقان وعدم الانتماء معا، وأنها حدثت وتحدث بتأثير وبدون تأثير إسرائيلي، وافقنى الغيطانى لكن بدا عليه أنه بصفته مراسل حربى سابق، وخاصة أيام حرب الاستنزاف وقبلها، لا يستطيع أن ينسى القتل والقتلة، وربما بصفته صعيديا لا يستطيع أن ينسى، الثأر وهذا طيب هنا.
محمد يحيى (إبنى) يذكرنا بحديث لنجيب محفوظ مع جلال أحمد أمين وهو يسأله ماذا نعمل تجاه الغزو الثقافي؟ فيجيب: ‘نموت يا أخي’، لم أصدق ذاكرة محمد بسهولة، وأشرت إليه أن يعيد هذا الحديث على الأستاذ ليستوضحه، فتذكره الاستاذ لتوه ولم ينكره، وشرح: ‘….. إن المسألة كلها، أو أغلبها هى عيوب فينا، وما دمنا قد اكتشفناها بفضل التطبيع أو التهديد بالتطبيع فإنه علينا أساسا وابتداءا أن نصلحها، وأن نتحدى أية إغارة بإيجابياتنا لا بتجنبنا الملاقاة، إن كل ما نخاف منه لا يرجع إلى قوة العدو بل إلى ضعفنا نحن، والأوْلى والأبقى أن نصلح ضعفنا ونقوى، هذه هى القضية، وأضاف: أنا أفهم أن نهدئ التطبيع لسبب مرحلى مثل استعادة الحقوق والضغط لصالح ما تبقى من مفاوضات إن كان هناك مجال للضغط، أما أن يكون عدم التطبيع هو موقف مبدئى هكذا، فهذا ما لا أفهمه”.
تشجعت فذكرت لهم اقتراحى الذى قلته فى ندوة مكافحة الارهاب، ذلك الاقتراح الذى بدا غريبا، وهو ما أردت به تعرية الحزب الوطني، وقبول تحدى زعم: “أن البلد خالية من القوى الشعبية الإيجابية”، علماً بأن هذا الحزب هو المثل الشائه للفراغ السياسى الممتلىء بالدُّمى التى تشبه الناس، وهو يدعى الديمقراطية (والناصرية والرأسمالية وربما البوذية إلخ) كما أنه يتصور أنه يقف فى مواجهة الجماعات والإخوان، قلت لهم: إننى! فى نهاية الندوة طرحت سؤالا فى شكل تصور خيالى كان هكذا: ماذا لو أن الرئيس مبارك استيقظ غدا. وقال إنه رأى فى المنام سيدنا عمر ابن الخطاب (أو أى من الصالحين) يقول له: “لقد آن الآوان”، ففسر ذلك بأن عليه أن يتوجه للإذاعة وأن يعلن بوضوح – تفسيراً للحلم – بأنه قرر أن يحكم بالشريعة الاسلامية حرفيا إذا أعيد انتخابه، وفعلها فعلا، فماذا سيكون موقف أعضاء الحزب الوطنى كلهم؟ هل سيخرجون، ويكونون حزبا مدنيا يواصل الكفاح ضد الرئيس الذى تجاوز منهج الحزب ومبادئه، أم أن كل ناسه سيشدون الرحال فورا إلى حزب الشريعة الجديد بقيادة مبارك (أو أى مبارك مبروك) كما خرجوا مهرولين من حزب مصر إلى الحزب الوطني؟ لم أنتظر الجواب، لا من حضور الندوة، ولا من أصدقاء العوامة، نظرت فى وجه الأستاذ وشعرت أنه لا يكاد يصدق أننى قلت هذا الكلام فى الندوة، سألنى عن رد الفعل، فقلت له إنهم تصوروا أننى أمزح، فقال: “لكنك كنت فعلا تمزح”، وضحك ومال إلى الخلف دون أن ينتظر تعليقى، فلم أعلق.
فى طريق العودة سألنى زكى سالم لماذا تحفظت على أصدقاء الاستاذ فى مقدمة كتابك “قراءات فى نجيب محفوظ”، ولم أجد ردا جاهزا فقلت له لعل ذلك راجع إلى تخوفى أو تصوراتى التى ليست بالضرورة هى الحقيقة، ثم استدركت لقد كنت أتعجب لاختلاف الطباع فيما بينهم، وأظن أنه كان فى ذهنى ساعتها أنه كيف يطيق الأستاذ مصاحبة كل هذا الاختلاف مع ثروت أباظة مثلا،
وحين أعاد زكى الحديث على الاستاذ ابتسم وتساءل ألم يذكر جمال الغيطانى اليوم أن ثروت أباظة كان من أحسن من تكلموا مع الرئيس فى افتتاح معرض الكتاب، قلت له: لكنه لم يقل لنا ماذا قال؟
ما هذا؟ كيف أسمح لنفسى أن أحكم على الناس هكذا دون معرفة قريبة فعلا؟ سمعت بعد ذلك الكثير عن علاقة نجيب محفوظ بثروت أباظة، وحب وتقدير كل منهما للآخر، كما استطعت أن أتبين كم هى علاقة عاطفية صادقة ليس من حقى أن أتحفظ عليها لمجرد عدم استساغتى لما يكتبه ثروت أباظة.
أعاد على الأستاذ أثناء العودة وأنا أودعه إلى باب الشقة التأكيد أننى قد انضممت فعلا إلى الحرافيش، وأننى سوف أحضر يوم الخميس، خجلت من إلحاحه هكذا، وطمأنته أننى قبلت بشكل قاطع (لكننى قلت فى نفسي: ولو ”منتسبا”، ولو ”تحت الاختبار”).
*****
الجزء الثانى من النشرة
من كراسات التدريب (1)
صفحة 16
……..
……..
نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
الحمد لله رب العالمين
نجيب محفوظ
11-2-1995
القراءة
لم يكتب الأستاذ اليوم إلا اسمه شخصيا أربع مرات، ثم “الحمد لله رب العالمين” قبل المرة الرابعة، التى تحرك اسمه إلى اليسار قليلا، وهو ما اعتاده كتوقيع قبل كتابة التاريخ.
هل يحتاج مثل هذا الإيجاز والتكرار إلى تعليق، وهل يا ترى لو تكرر التكرار بعد ذلك، سوف أعدل عن قراءة بقية كراسات التدريب، أم سوف أجد ما أضيفه ؟ ليست عندى إجابة الآن.
لو أننى قررت أن اتجاوز عن الإيجاز والتكررا، وأطلقت لتداعياتى العنان، إذن لوجدت نفسى فى رحاب سورة الفاتحة، فقد وصلتنى آية ” الحمد لله رب العالمين” التى كتبها اليوم باعتبارها أول آية فى سورة الفاتحة، وليست مجرد حمد انطلق منه إليه سبحانه، لو تركت نفسى لانطلقت تداعياتى تتنامى تحت مظلة هذه السورة الكريمة التى نكررها فى اليوم كل هذه المرات، ويرددها مئات الملايين من المسلمين بألفاظها العربية الواضحة البسيطة، حتى الذين لا يتكلمون العربية، لكننى لا أعتقد أن كثيرا منهم قد استوعب ما تحمل هذه السورة من رسائل، بل إن أغلب المفسرين قد فسروها خطأ بما لا يليق، وقد ناقشت الأستاذ ذات مرة متسائلا : بأى حق يخصص كثير من المفسرين فئة بذاتها على أنها “المغضوب عليهم”، وأخرى بذاتها على أنهم “الضالين”، ووافقنى بحماس، ولم يعقب فاستنتجت أنه قد حسم هذه القضية من قديم، فتفاهة مثل هذا التفسير لا تحتاج إلى تعقيب.
قد أعود إلى ذلك حين أعرض المنهج المكمِّل (أرجو ألا يكون البديل) لهذه الدراسة، على الأقل بالنسبة للكراسة الأولى، حيث جمعت كل الآيات القرآنية التى وردت فى هذه الكراسة، مع بعضها البعض بتواريخها، وأيضا جمعت تواتر أشكال الدعاء، ثم صنفت الحِكَم والأمثال، وكذلك الأغانى، لكننى ترددت أن أنشرها أولا حتى لا ينصرف الانتباه إلى قراءة “كمية” لما ترك لنا، فتقتصر رسالة ما دوّن وهو يتدرب، على ذكر أرقام عمياء مثل “كم مرة ذكر الآية الفلانية”، وكم مرة كرر الدعاء الفلانى، هذا قد يمسخ ما نحاوله، لكنه قد يكمله.
لننتظر لنرى على أية حال
*****
من كراسات التدريب (1)
صفحة 17
نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
قل هو الله أحد
نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
12-2-1995
القراءة
نفس الملاحظة عن تدريب الصفحة السابقة، لكنه كرر هنا نجيب محفوظ سبع مرات متتالية، لم يكتب اسم كريمتيه اليوم، رجحت أنه لم يعد محتاجا إلى التليين الذى فسرت به بداية أغلب التدريب بكتابة اسمه (نشرة 4-2-2010 الحلقة التاسعة – الثلاثاء 3/1/1995).
وصلنى “شكل” تدريب اليوم لوحة هندسية مثل أعمال الأرابيسك، برغم صعوبة الكتابة، ثم وصلتنى الصفحة مكتملة كقطعة موسيقية يعزفها عازف عود، وهو يجرب عوده قبل المشاركة فى العزف الجماعى، كما لاحظت كيف أشرق نور آية التوحيد الكريمة “قل هو الله أحد” وسط هذا التشكيل هكذا: قبلها أربعة نجيب محفوظ، وبعدها ثلاثة،
جميل كل هذا
جميل جدا
لاحظت أن “نجيب محفوظ” الأخيرة تقع على نفس مستوى نجيب محفوظ الستة أعلاها، وهذا بعكس الصفحة السابقة (مثل كل الصفحات) حيث تكون “نجيب محفوظ” الأخيرة قابعة عادة على اليسار قليلا أو كثيرا ثم تحتها التاريخ، إذن فهى توقيعه هناك، أما هنا فقد جاء التاريخ وحده إلى اليسار.
هل وصلكم ما وصلنى من أنه كان يعزف اليوم، لا يكتب؟
وهل وصلكم أن ما سبق الآية الكريمة “قل هو الله أحد” كان أربعة “نجيب محفوظ” وما تلاها كان ثلاثة فقط، تصورت أنه لو كان ما سبق ثلاثة وما لحق ثلاثة، لما انبهرت بهذا التشكيل الموسيقى هكذا.
حضور الآية الكريمة “قل هو الله أحد” تتوسط هذه الجمل الموسيقية، رجح لى ما ذهبت إليه أمس من أن “الحمد لله رب العالمين” كانت أول سورة الفاتحة، وليست مجرد حمد يكرره شاكرا،
أما حضور آية التوحيد هنا مضيئة متوسطة هكذا وما يحمل ذلك من احتمالات، وما تحمله هذه الآية وتداعياتها من معانى التوحيد كما ناقشتها معه مرارا، فقد أعود إليها فى فرص أخرى غالبا.
وإلى الحلقة القادمة