نشرة “الإنسان والتطور”
6-1-2010
السنة الثالثة
العدد: 859
الحالة (16)
“نيجاتيف” إنسان، وتعرية قاسية صادقة
مقدمة
توقفنا عن عرض بقية اللوحات التشكيلية عدة أسابيع، لاختبار فرض “تلقائية الحب كأصل طبيعى (خلقة ربنا)، فى مقابل تسوّل الحب، وصفقات الحب الجيدة والمشبوهة، واستشهدنا بعينات من العلاج الجمعى، وألعاب نفسية شارك فيها أصدقاء كُثْرٌ للموقع، وبدأنا فى قراءة وتفسير استجاباتهم فى الحلقة السابقة بعد عرضها
قبل ذلك مباشرة، انتبهت فجأة إلى أننا ابتعدنا عن أصل المتن، وعن شرح الديوان، فطلبت من السكرتارية أن يجمعوا لى ما نشرناه فى هذه الحلقات، وإذا بها تربو على خمسمائة صفحة من الحجم الكبير A 4 وهو ما يقابل سبعمائة صفحة من الحجم المعروف للقطع الكبير فى الكتب (حجم 70 X 100)، كل ذلك ولم نصل بعد إلى شرح نصف الديوان!!!.
قررت أن أتوقف فورا عن الاستطرادات، وأن أكمل اللوحات والشرح، ثم نرجع بعد ذلك، لما يتفتق عنه الشرح من “فروض”
لا أجد فى نفسى رغبة فى الاعتذار، لكننى أجد تفسيرا لعزوف الأصدقاء والقراء، أو عجزهم، عن المتابعة والمشاركة فى مناقشة عمل بهذا التنوع والتذبذب طول الوقت،
معكم حق
دعونا نكمل ونحن نتعلم معا.
لوحات تشكيلية وليست حالات
هذه الحالات ليست حالات إكلينيكية واقعية، ولا حتى مـُتخيلة بشكل روائى شعرى مطلق، ولا هى تصف أشخاصا بالذات، إنها من وحى الفروض العلمية العملية التى استلهمناها من مزيج من الحالات المرضية، والأصدقاء المشاركين، وتراكم الخبرة، وإلهامات الأسطورة الذاتية(1) للمؤلف،
أعيد هذا التنويه وأؤكد عليه لسببين :
الأول: أن أنفى تماما أية شبهة أننى أصف شخصا بذاته ممن عرفت أو ممن يحيطون بى، مهما تشابهت بعض السمات والأحوال (اللهم إلا شخصى أنا: قصيدة “المعلم”)، أنظر بعد.
الثانى: هو أن أنفى عن مرضاى تلك الصورة السلبية التى تظهر مضخمة فى بعض الحالات، وكأنها كاريكاتير لإبراز ملامح معينة، وقد نبهنى إلى ذلك صديق علق فى البريد معترضا على ما جاء بالحلقة الماضية بعنوان “تسول الحب، والاعتمادية الرضيعية”، حين تصور أن ما جاء بالمتن من تعرية موقف المتسول المعتمد، هو حالة مريض بذاته، وأن مخاطبته بهذا الأسلوب الذى جاء أيضا فى المتن ثم فى الشرح، لا يليق، طبعا هذا لم يحدث، ولا يجوز أن يحدث، بالرغم من أننا ذكرنا أن هذه القصيدة هى فعلا من وحى صديق شاركنا بعض التجربة، وكانت له خبرة بالعلاج الفردى من قبل، لكن أبدا ليس هو هو، وقد أكدنا على ذلك فى بداية العمل، لكن يبدو أن الصديق المحتج – وعنده بعض الحق- لم ينتبه إلى هذا التنويه الباكر، فوجبت إعادة التوضيح، وعلى من يريد أن يتابع ماذا يحدث فعلا مع المرضى، احتراما ومشاركة، أن يتابع باب “حالات وأحوال”، أو باب “التدريب عن بعد”.
* هذا العمل يتناول فروضا علمية، وردت فى متن شعرى،كتب بالعامية المصرية عن، “فقه العلاقات البشرية”، التى تتجلى فى المرض وغير المرض، والتى نأمل أن يكون لها مكان فيما أسماه الصديق الجميل د. جمال التركى “فك شفرة النص البشرى”، ومن ثم قد تساعدنا فى لأم شروخ وجروح وتمزق المريض النفسى.
يا ترى هل نعيد هذه الفقرة كل مرة حتى ينتفى اللبس
المهم : بدءا من هذه النشرة، سوف نلتزم ما أمكن بالترتيب التالى:
(1) الشرح على المتن أساسا
(2) ثم نرى بعد ذلك كيف نتاول نفس الفروض التى سوف تستخرج منه، بكل الدعم المتاح من واقع ما يلى:
- الممارسة الإكلينكية،
- والعلاج النفسى،
- والخبرات الذاتية التى قد نكتشفها من خلال الألعاب، والنقاش
تصحيح شكلى:
الحالة السابقة مباشرة نشرت باعتبار أنها “الحالة الثامنة”، لكن واقع ترتيب وترقيم الحالات كما جاءت فى النشرات، وليس فى المتن أنها الحالة الخامسة عشر وتفسير ذلك هو أنها جاءت فى المتن باعتبارها الثامنة فعلا، فهى “العين التامنة” فى الفصل الثانى فى المتن الشعرى الذى اشتمل على “خمستاشر عين”، أما الفصل الأول فقد اشتمل على سبع حالات، بعنوان “سبع جنازات”، أمَا وقد جمعنا الجنازات (الفصل الأول) على العيون (الفصل الثانى) لعرض الحالات مجتمعة مسلسلة، فالأفضل أن يتواصل ترقيم الحالات جميعها بتسلسل مضطرد، وأفضل الأفضل أن نصحح الاسم، فبدلا من أن نسمييها “حالة” فيظن القارئ أنها حالة مرضية بالضرورة، سوف نسميها “لوحة تشكيلية” 1-2…….بدءًا من الآن”،
وسوف نقوم بتصحيح هذه التسمية فى الموقع بالنسبة للحالات السابقة، فتكون هذه النشرة هى التشكيل هى الحالة الخامسة عشر، وسوف نصحح التسلسل فى النشرات السابقة فى الموقع فورا
وقد وجدنا الأنسب بعد هذه المرحلة أن نصحح عنوان الكتاب كله، بفضل المناقشات التى دارت حوله، وخاصة من الإبن د. جمال التركى إلى العنوان الذى جاء فى هذه النشرة (أنظر العنوان، شكرا)
اللوحة التشكيلية (16)
نيجاتيف إنسان: وتعرية قاسية صادقة
هذه الحالة (مرة أخرى: التى هى ليست حالة مريض ولا شخص بذاته) تصف ظاهرة بشرية معاصرة لما يحدث للإنسان المعاصر من اغتراب حتى لا يعود إلا ظل كيان خال من المعالم، مجرد رقم مفرغ من وجوده الذاتى تماما، “كأنه هو”، مشروع لم يكتمل “زى نيجاتيف صورة مش متحمضة”.
هى تشكيل لموقف “متفرج يائس عنيد”، أعدم أية بارقة أمل من هول الألم، واكتفى برؤية ورصد بشاعة وجودة الممثل لما يراه الوجود العصرى الغالب فى مرحلة الإنسان الحالية، حين يعجز أن يحوّل الألم إلى طاقة تدفعه لمواصلة التحدى.
الكلام على لسان صاحب الصورة نفسه، كما هو الأمر فى معظم المتن.
صاحبنا يعرى هذا الموقف الاغترابى بشجاعة، وهو يعلن بكل وضوح أن الألم الساحق يمحق الوجود البشرى النابض ويقلبه شبحا بلا حضور، ثم هو ينسحب إثر ذلك رافضا أى مزيد من المواجهة أو التعرية، فلم تعد ثمة مساحة لتحمل ألم جديد، شجاعته فى آخر جولة قبل إعلان الهزيمة هى أنه قادر على إعلان موقفه الرافض لأية حركة تلوّح بحتمية مزيد من تحمل الحقيقة العارية للانطلاق منها، ولذلك فهو يبحث عن وسيلة (آلية= ميكانزم) يعمى بها من جديد، وينبه الذين لم يخوضوا التجربة حتى النخاع مثله، أن يبتعدوا عنه، حتى لا يسدوا عليه سبل هربه الذى لم يعد أمامه إلا أن يلجأ إليه تجنبا لمزيد من الرؤية، أى مزيد من الألم:
راح اسيبكم تحلموا
آنا من كتر الألم بطلت حلم
صرت حلم
صرت نيجاتيف صورة مش متحمضة
الحلم هنا يشير إلى معنى آخر، غير معنى حلم الليل أثناء النوم، هو ظل الشخص أو صورته المسطحة التى تحل محله، برغم أنها تحمل اسمه، ويا ليتها صورة، بل هى “نيجاتيف” هذه الصورة، ويا ليته “نيجاتيف” يكتسب مشروعيته من أنه قابل للتحميض ليصبح صورة، بل هو مشروع مجهض من فرط التعرية مجرد ظل باهت يحل محله. إن المطروح الوحيد على أى منا، إذا أفرغوه، أو أفرغ نفسه من ذاته، هو أن يستمر “كأنه هو”، فى حين أنه غير موجود أصلا، وكلما همَّ أن يحقق بعض “ما هو” بمزيد من البحث والرؤية، لحقه ألم المواجهة ساحقا حتى يفسد المحاولة، التى تشلها شدة جرعة الرؤية الصارخة “حاكم النور – مانت عارف- بوظ التحميض يا عم”.
قمة هذا النوع من اليأس هو الموقف العدمى المشوِّه حين يصبح الوجود مجرد “عفريته” لإمكانية وجود لا يتحقق، يحدث هو أقرب إلى صورة نفسه المشوهه (2)Distorted Self-Image نقرأ هذه الجزئية من المتن على بعضها :
….
آنا من كتر الألم بطلت حِلم.
صرت حِلم.
صرت نيجاتيف صورة مش متحمَّضَه.
بكره حَاتحمَّضْ فى أُوضه مُظلمهْْ.
اسمها أُودةْ العَمَى.
ليه بِتيِجُوا تْنَوَّرُوهَا بالحقيقةْْ.
حاكِمِ النُّوْر- ما انت عارف-
بَوّظ التحميض ياعمْْ.
بألفاظ أخرى: هذه إشارة إلى أن الذات الداخلية، إذا بلغت درجة بشعة من التشويه، من فرط ما لحقها من إنكار، وإلغاء، وإهمال، وإيلام، وسحق، لا يكون هناك حل إلا إخفاءها تماما بميكانزمات شديدة التغطية، “بكره حاتحمض فى أوضه” مظلمة، إسمها أودة العمى“، الذى يخفى صورة النفس المشوهة هى الحيل الدفاعية (العمى)، وحين تتراجع هذه الحيل أو تضمحل وفى نفس الوقت تشتد البصيرة يعجز الإنسان عن أن يخفى على نفسه هذا الإدراك المؤلم، وفى نفس الوقت يعجز أن يعيش مجرد صورة – مثل سائر الناس – وليس كيانا حيا متطورا.
والأن نقرأ نصف المتن على بعضه:
(1)
والعيون دى رخره واضحه مصمِّمةْ؛
بالصِّراحةْ والشجاعةْْ تقول بصدق:
راح اسيبكُمْْ تحلمُوا.
(2)
”إقفل الباب وانت خارج”.
هوّا ده شرط الحياة اللى احنا عايشنها النهارده.
إٍما تحلم، وانتََ قاعِدْ، فى العَصَارِى، أو حوالين الشوالى،
وِسْط ناسْ مُغمى عليها من حلاوة الحلم أَوْ مِنْ ظَبطْ معيارْ المزاج.
إٍما تحلم من هنا للصبح أوْ …
أَوْ تصير الحلم نفسه.
مرة أخرى: هو يضع اختيارين عدميين:
- إما مشاركة الأغلبية العمى والضياع والاغتراب، والتخدير الجماعى،
- وإما الاستسلام لوجود زائف “أوتصير الحلم نفسه”، تصير الحلم بالمعنى الذى أشرنا إليه فى المقدمة.
والمتن يفرق بعد ذلك بوضوح بين هذا الحلم الشبح (النيجاتيف) كما يصفه، وبين الحلم الذى هو أمل أن نعيش كما خُلقنا دون تشويه، الذى يقوله الجزء الثانى من القصيد أننا نتربى على أن تحقيق حلمنا المشروع أن نكون بشرا كما خلقنا الله هو المستحيل نفسه “لما قالوا الحلم دكهة مستحيل يبقى حقيقة”، أى أنه: حين حيل بيننا وبين أن نكون أنفسنا، أن نواصل تحقيق أسطورتنا الذاتية، لم يعد أمامنا إلا الاستسلام بأن نلغى وجودنا لنصبح هذا الحلم الشبح نيجاتيف الصورة، وهذا ما يعنيه المتن “الحقيقة تبقى حلم”.
(3)
ما هو مش ممكن يا عَالَم غير كِدَهْْْ!
لَماّ قالو “الحلم دُكههْ” مستحيل يبقى حقيقهْْ،
يبقى لازم إلحقيقة تبقى حلمْ
زى نيجاتيف صورة مش متحَّمضَهْ،
حتى لو حمّضتها آهى بَرْضُه صورةْ،
مش حقيقه.
برغم أن هذه اللوحة لا تصف حالة فصام بالذات، إلا أننا نتعلم من الفصام جذور إشكاله الإمراضى من داخلنا، هذه الرؤية تعتبر تمهيدا لإمراضية الفصام مع أنها يمكن أن تكون عامة وكامنة عند الأسوياء.
يقول “شولمان” فى كتابه “مقالات عن الفصام” أن مشكلة الفصامى هى أنه يسعى إلى المثالية المطلقة.. ويصر على تحقيق التكامل الإنسانى التام وإذا به يجد الطريق إلى ذلك مستحيلا وليس مجرد شاق “بعكس الثائر الذى يصر على تحقيق نفس الحلم ولكن بأسلوب واقعى متدرج”
وأضيف من واقع المتن هنا:
إن الإنسان (وليس بالضرورة الفصامى) حين يواجَهُ باستحالة تحقيق هذا التكامل الإنسانى المثالى المطلق، قد لا يقبل فكرة التدرج المتناغم المضطرد على مسار نبض النمو المتزايد، وإنما هو يسارع بتشويه وجوده بأن يسقط أبشع ما فيه على العالم. ثم هو لا يستقبل إلا هذه البشاعة المشوهة حتى دون اللجوء إلى الحيل الدفاعية التى تخفى هذه الرؤية المزعجة وهو بذلك يكتفى بهذه الوقفة فى موقف ذى البصيرة المستقلة الحادة المخترقة وفى نفس الوقت العاجزة اليائسة، هى التى برغم أنها لا تنطفئ بسهولة، لا تدفع لعمل أى شىء نحو التغيير، هذا الإنسان لا يقبل أن يعيش الحياة العادية بصورة جيدة، مقبولة والسلام، لكنها ليست الحقيقية، وفى نفس الوقت هو لا يستطيع أن يتكامل تكاملا مطلقا وفورا، فلا يتبقى له إلا وجود شائه.. يمثل جزءا من الحقيقة ولكن بلا فاعلية إطلاقا.
استرجاع جزء محذوف
حين انتهيت من شرح هذا المتن الآن، افتقدت فقرة أخيرة كان لى بها علاقة طيبة، وفيها ذكر لمُثُلِ أفلاطون، وعالمه المثالى وكلام من هذا، وتصورت أنها سقطت سهوا من سكرتاريتى، طحت فيهم لوما وتأنييبا، وإذا بهم يذكرونى أننى أثناء مراجعتى المتن استعدادا لنشره فى طبعة ثانية، قمت بحذف هذه الفقرة بنفسى، فتذكرت، وتساءلت، لماذا يا ترى حذفتها، ثم عادت تحضرنى الآن بهذه الحميمية، فكتبتها من ذاكرتى، وهاهى ذى:
صبّحك بالخير يا عمى أفلاطون
لما قلت ان السرير:
هوا أصله مش سرير
دا بس صورة
والبنى آدم كمانِ ليّام دَهِهْ
برضه صورة
…..
بس وكفاية كده!
هيه سورة؟!!!
الآن فهمت، لقد اكتشفت أنها أقل شاعرية، وكأنها مناقشة نظرية فلسفية بشكل مسطح، وأن الشطر النهائى سخيف، ويبدو أنه حضرنى لمجرد أن أقفل التشكيل عند هذا الحد، “بس وكفاية كده”، وحين عادت هذه الفقرة الآن بشاعريتها الضعيفة، وقفلتها السخيفة، وجدت أن بها ما يضيف إلى ما أريد قوله وتوصيله كالتالى:
أنا لم أقبل أبدا قبل أن أكتب هذا النص الشعرى ما وصفه أفلاطون بعالم المثل، وأذكر أننى رفضته من حيث المبدأ حين قرأته لأول مرة.
ثم إننى حين اشتغلت بعمق فى موضوع “الإدراك” ومحاولة تفسير الهلوسة بوجه خاص، وصلت إلى مايلى:
(1) بدأت أميز بين الموضوع الحقيقى Real Object، والموضوع الذاتى Self Object، وأننا نبدأ فى التعرف على ما فى العالم فى هذه الدنيا من خلال إسقاطاتنا، أى أننا نبدأ بإدراك الموضوع (الآخر – الأشياء) على أنها موضوع ذاتى، أى أننا نرى الأشياء كما نريد أن نراها، وليست كما هى.
(2) ثم مع تواصل النضج، يتراجع الإسقاط ويتواصل اضطراد إدراكنا للموضوع على أنه أكثر موضوعية = “موضوع حقيقى” Real Object
(3) هذا ما فهمته من دعوة السيد البدوى “اللهم أرنى الأمور كما هى”، ويتم الانتقال من استقبال الموضوع على أنه موضوع ذاتى إلى موضوع حقيقى ليس فقط على مسار النضج العادى الذى يتواصل أو لا يتواصل، وإنما يبدو أنه هو أيضا آلية رحلة الكدح إلى التناغم مع الوعى المطلق، إلى وجه الحق تعالى، أو لعلهما واحد.
(4) إذن يمكن القول أن المسألة هى عملية متصلة، مدى حياتنا المحدودة، تبدأ من إدراكنا الأمور بما هو داخلنا، وتنتهى (حقيقة الأمر أنها لا تنتهى، وإنما تستمر نحو…) أن نرى “الأمور كما هى”.
(5) أعتقد الآن أن أفلاطون حين أدرك أن رؤية الأمور، والأشياء، والناس، والموضوعات “كما هى” مستحيلة، اعتبرها كيانات مجردة ثابتة بعيدة فى عالم “الماوراء” الذى أطلق عليه عالم المثل.
“افلاطون، يقول ان الذي نراه من هذا العالم الذي نلمسه، ونختبره من خلال الحواس هو عالم غير حقيقي، بل هو عالم مشابه او مستنستخ من العالم الحقيقي بصورة غير كاملة. اذن عالمنا ليس عالما حقيقيا لكنه عالم مبصومة أو مطبوعة عليه فكرة الحقيقة. لذلك يقول افلاطون: ان معرفتنا عن الحقيقة هي كمعرفة الجالسين في الكهف امام النار ويرون ظلال اشخاص يمرون من خلفهم على جدار الكهف، لذلك فالعالم المادي هو غير كامل، بل هو عالم النقص.إذا ما قورن بعالم المثل أو العالم الحقيقي”.
(6) ثم إنى عدت أقرأ فكر أفلاطون من منطلق بيولوجى فاستطعت أن أترجمه إلى فكر تطورى نمائى بشكل أو بآخر، فأُنزل المثُل التى زعم أولويتها وأصالتها من سمائها إلى أنها مجرد “الموضوع الحقيقى” الذى نأمل أن نراه (ندركه) كما هو، وجعلت الصورة التى زعم أنها مجرد طبعة مستنسخة من الأصل المثال لتظهر لنا تقليدا للأصل فى العالم المادى، رأيتها أنها تقابل ما نسميه الآن “الموضوع الذاتى”، أى ما نبدأ به إدراكنا للأشياء من خلال إسقاطاتنا التى تتراجع بانتظام مع تراجع آليات (ميكانزمات) دفاعاتنا، فيقل الإسقاط باستمرار، ليتجلى الموضوع الحقيقى “هنا والآن” بالتدريج وحسب درجة النمو، وبالتالى نهبط بالمُثُلْ إلى البيولوجى، ونهبط بالروح إلى العقل، ولو أن أفلاطون نفسه رادف بينهما (بين: الروح والعقل) بشكل ما،
وهكذا نحن نأمل، عن طريق التطور والنمو، أن نرى الأمور كما هى.
(7) وأخيرا، وهذا ما يخص هذه القصيدة، فإذا افترضنا أن نفس العملية التى تتم بالنسبة لإدراك الخارج واستحالة إتمامها حتى نهايتها فى خلال حياتنا الفردية بهذا التدرج فإن الأمر قد يسير على نفس الدرب وبنفس الآلية بالنسبْة للمواضيع الداخلية (داخلنا) وفرص إدراكها “العين الداخلية”، وهو الفرض الأساسى الذى أصبحت أفسر به الهلوسة (وغيرها) باعتبارها نوعا من إدراك موضوعات الداخل.
(8) الأرجح أننا ندرك دواخلنا على مسار متدرج أيضا من “الموضوع الداخلى الذاتى، إلى الموضوع الداخلى الحقيقى“، وبالتالى، نحن معرضون لخبرة رؤية حقيقة داخلنا مرحلة فمرحلة، حسب كدح النمو، وتناسب المسئولية، فإذا اختل هذا التناسب يبدأ التخوف والتحذير واحتمال المفاجآت (كما ظهر فى المتن والشرح).
(9) وهكذا يمكن فهم ما جاء بالمتن، وكيف يتوقف الإنسان من فرط الألم عن مسيرة الكشف، ثم يرضى أن يكون معكوسا “يشبه الإنسان”، “نيجاتيف” غير قابل للتحميض أصلا، وفى نفس الوقت، يظل محتفظا ببصيرته الحادة بهذه الإضاءة الكاشفة.
والبنى آدم كمان ليام دهه، هوه صورة”
بس وكفاية كده، هى سورة
* * * *
إسمحوا لى فى النهاية أن أقدم المتن على بعضه حتى تلعنوا الشرح، كما فعلت أنا الآن:
والعيون دى رخره واضحه مصمِّمةْ؛
بالصِّراحةْ والشجاعةْْ تقول بصدق:
راح اسيبكُمْْ تحلمُوا.
أنا من كتر الألم بطلت حِلم.
صرت حِلم.
صرت نيجاتيف صورة مش متحمَّضَه.
بكره حَاتحمَّضْ فى أُوده مُظلمهْْ.
اسمها أُودةْ العَمَى.
ليه بِتيِجُوا تْنَوَّرُوهَا بالحقيقةْْ.
حاكِمِ النُّوْر- ما انت عارف-
بَوّظ التحميض ياعمْْ.
(2)
”إقفل الباب وانت خارج”.
هوّا ده شرط الحياة اللى احنا عايشينها النهارده.
إٍما تحلم، وانتََ قاعِدْ، فى العَصَارِى، أو حوالين الشوالى،
وِسْط ناسْ مُغمى عليها من حلاوة الحلم أَوْ مِنْ ظَبطْ معيارْ المزاج.
إٍما تحلم من هنا للصبح أوْ …
أَوْ تصير الحلم نفسه.
(3)
ما هو مش ممكن يا عَالَم غير كِدَهْْْ!
لَماّ قالو “الحلم دُكههْ” مستحيل يبقى حقيقهْْ،
يبقى لازم إلحقيقة تبقى حلمْ
زى نيجاتيف صورة مش متحَّمضَهْ،
حتى لو حمّضتها آهى بَرْضُه صورةْ،
مش حقيقه.
ثم الجزء الذى كان محذوفا:
صبّحك بالخير يا عمى أفلاطون
لما قلت ان السرير: هوا أصله مش سرير
دا بس صورة
والبنى آدم كمان ليام دهه
برضه صورة
……
بس وكفاية كده
هيه سورة؟!!!
[1] – استعمل هذا المفهوم لأول مرة بمناسبة ما كتبته نقدا مقارنا لرحلة ابن فطومة لمحفوظ، مقارنة بالسيميائى لكويلهو، بعنوان: الأسطورة الذاتية: بين سعى كويلهو، وكدْح محفوظ”، وسوف ينشر قريبا فى دورية نقد نجيب محفوظ التى يصدرها المجلس الأعلى للثقافة، وقد أنشر منه هنا بعض مقتطفات فى يوم “محفوظ”، الخميس.
[2] – سيلفانو أريتى: وصفها أساسا فى إمراضية الفصام