بقلم : يحيى الرخاوى
2001-1980
نشرة يومية من مقالات وآراء ومواقف
تعتبر امتداداً محدوداً لمجلة الإنسان والتطور
25-8-2009
السنة الثانية
الحالة السابعة (والأخيرة فى الفصل الأول)
دفاعات ضد “حركية” تجليات”الحب”على مسار النضج
لا توجد كلمة شائعة الاستعمال، سهلة التناول، مقدسة أحيانا، وملتبسة كثيرا، مثل كلمة الحب، ولعل المتابع لهذه النشرة، التى يبغ عمرها العامين بعد أيام، يعرف المساحة التى خصصناها للحب، وخاصة فى الملف الذى أسميناه “ملف الحب والكراهية”، وقد تناولت النشرة حتى بغير هذا العنوان (مثلا فى باب التدريب عن بعد، أو حالات وأحوال)، كثيرا من جوانب هذه الظاهرة الوجدانية الجوهرية، (المسماة: الحب) بأكثر من منهج. يمكن الاستنتاج من ذلك وغيره أن ظاهرة الحب ليست بالبساطة الظاهرة، وأن كل واحديراها بطريقته اليقينية التى توحى له – وأحيانا لنا- أنه “هو الذى يعرف “الحب الحقيقى”.
نحن نتداول هذه الكلمة بإفراط شديد طول العمر، طول الوقت. ربما يسمعها الرضيع قبل أن يسمع “بابا” و”ماما”، ثم خذ عندك: بمجرد ان يكبر وينتبه إلى ما يقال حتى يواجَه بسيل من العبارات كلها تحمل كلمة الحب بشكل أو بآخر، فهى إما تعبير عن الحب، أو دعوة للحب، أوسؤال عن الحب (بتحب ماما أكتر ولا بابا؟ باحبهم الاتنين!!)، ثم خذ عندك ادعاء حب المدرسة، ثم حب الصديق والصديقة، ثم الحب الذى هو حب، والحب الذى كنظام الحب، ثم يتدخل الجذب الجنسى فى الموضوع، فيصبح الحب غراما وهياما، مع الإضافات المناسبة من الخيال والرومانسية والأحلام، وهات يا حب، ثم خذ أيضا حب الوطن (فرض عليّا)، وحب النادى الأهلى، وحب النبى وأهل بيته، ومحبة السيدة العذراء، وحب النفس، ولا مؤاخذة “الأنانية” (وهى غير حب النفس)، وحب الناس، والحب فى الله، والموت حبا، فى المحبوب أو بسبب المحبوب، أو مع المحبوب (بالمرة).
طيب بالله عليكم كيف نتناول هذه الكلمة، هذا المفهوم، هذه القضية، وهى هكذا، فى سياق العلاج النفسى.
حين وصلت إلى هذه القصيدة، هذه الحالة، وجدت أنها تمثل نموذجا له أهميته الخاصة لما تتناوله من مقارنة بين نوعين على الأقل من أنواع الحب، رحت أقلب فيما سبق وفيما لحق من قصائد هذا الديوان، فوجدت أن معظم القصائد، إن لم يكن كلها إنما تتناول قضية الحب أيضا بشكل أو بآخر، بل لعلها تتناول قضية العلاقة البشرية، ليس تماما فى سياق العلاج النفسى مهنيا، وإنما فى السياق الذى كتبت فيه هذه القصائد (وهو لم يكن سياق علاج نفسى أصلا، هذا إن وجدت هذه الشخصية التى تتحدث فى القصيدة، أو التى عنها القصيدة (الباب الثانى) من الأصل!!).
ما العمل؟
ما هو الأفضل؟
أن نسميه حبا، ويذهب المتلقى إلى ما يذهب إليه بمجرد أن يسمع كلمة “حب”، أم نسميه العلاقات البشرية فنمسخه ونحن نهرب من مسئولية التحديد والتفنيد، ونتكلم عنه وكأننا نتكلم عن معادلة رياضية فاترة؟
هل أجمع القصائد من الديوان التى تناولت تشكيلات الحب بشكل مباشر، ثم أخرج منها بمنظومة نتعلم منها ما هو الحب وكيف يتجلى فى مختلف صوره، فلا ألزم نفسى بقصيدة بذاتها تقدم الموضوع مخنوقا منفصلا، أم أتناول المضوع من خلال كل قصيدة بحسب ترتيبها، ثم نجمع الخلاصة لاحقا؟
قصيدتان قفزتا إلى من الباب الثانى وأنا أواجه هذا المأزق، قصيدة “الترعة سابت فى الغيطان“، وقصيدة “دراكيولا“، (ولست أدرى إن كانا سوف يظلان محتفظتان بالعنوان أم لا)،
الأولى: – الترعة سابت فى الغيطان– هى تعرى نوعا من الحب فيه سهولة وعطاء ودماثة وصدق وإخلاص، بلا شروط ولا معاناة ولا مقابل(يعنى) و…و…. وبالتالى بلا “آخر” آخر موضوعى حقيقى متميز (أنظر بعد)!!،
والثانية: –دراكيولا– تجلى فيه ما سمى حبا بشكل التهامى احتوائى قاتل، كأنه موت يقتات بموت، ويغذيه، “بكره حا تحتاج موتى يا موت، ونموت جمعا” ..إلخ (أنظر بعد).
المهم، هذه القصيدة الحالية تقدم لنا –على لسان صاحبتها- ثلاثة مستويات من الحب
الأول: الحب الامتلاكى (ويشمل الخصوصية والأمان والاطمئنان السرى الاعتمادى)
الثانى: الحب الجوع الاحتياج، فاحتياج الاحتياج (ويشمل شرب الماء الماح، والاستعمال المتبادل أحيانا)
والثالث: الإشارة إلى صعوبة النقلة إلى الحب: “القدرة على الحب” الممتد إلى الدوائر الأوسع؟. (ويشمل الاستعداد للحب والقدرة على توليده وتوجيهه وتحويله مسئولية وتحمل وطول نفس)
هذه القصيدة تتناول النوع الأول، وبعض الثانى، كما تحذر من احتمال مثالية أو استحالة أو عقلنة النوع الثالث
دعونا نرى:
نبدا بالفقرة الأولى من القصيدة:
عايزين إيه منـِّى؟
أنا مالِى؟
أنا عايزهْْ أعيشْ،
زىّ الباقْيِيِن،
يبقَى لى عشْ صغيّر، وعْيالْْ.
ولـَفَندى بتاعِى (أيوه بتاعى مِلكى)،
يرجعلِـى تملّى.. زىّ حمام الزاجل.ْ
يحضنّى أنا وعيالِى،
يطوينٍى تحت جناحُهْ،
وراح اربُطْ رجلُهْ بـْـفتــلَةْ لـَيْـــطير
تعبر هذه الفقرة عن أكثر أنواع الحب شيوعا، “زى الباقيين“
وهو الذى يتصف بما يلى (وغير ما يلى):
1- الخصوصية “يبقى لى عش صغير“
2- والملكية: لفندى بتاعى (أيوه بتاعى ملكى)
3- وتصور الأمان: يرجع لى تملى، يطوينى تحت جناحه
4- والأسرة الصغيرة (غالبا فى المؤسسة الزواجية) يحضنّى أنا وعيالى
5- وضمانات ضد اللاأمان: وراح اربط رجله بفتلة،…… ليـْـطير.
هذا النوع من الحب الثنائى الخصوصى الامتلاكى يظل فاعلا مفيدا طالما سكنت حركة طرفيه، وهو يغذى نوعا من العلاقة التكميلية (لا التكافلية) وهى ما تسمى أحيانا “علاقة القفل بالمفتاح”، Key and Lock relation ويظل الطرفان يتبادلان -من خلال هذه العلاقة- الأمان، والتأمين، فى مقابل (وعلى شرط) “أن يستمر الحال على ما هو عليه”، لأطول مدة ممكنة.
فى حالات كثيرة، مع استمرار نمو كل من الطرفين، كل بطريقته وحسب ظروفه، تهتز هذه العلاقة لأنها تكاد تحول دون نمو أحد، أو كلا، طرفيها، فتظهر الأعراض، إما عند أحد الطرفين، أو فيما يسمى “مرض العلاقة ذاتها”، Pathology of Relation أى أن كلا من الطرفين وحده لا يعانى من أعراض بذاتها، وإنما إذا ما تفاعل الطرفان معا، تظهر الصعوبة فى العلاقة، والفشل، والأعراض كما ذكرنا.
حين يعلن هذا المأزق فى العلاج النفسى، يحتاج الأمر إلى وقفة فاحصة ناقدة، تغرى الطبيب، أو تضطره، فى كثير من الأحيان، أن يتقدم نحو ما يسمى “إعادة التعاقد” بمعنى أن يعتبر أن العقد الثنائى السابق قد استنفد أغراضه فى ظروفه التى كانت حتى الآن، وأن الأمر يحتاج نوعا آخر من العلاقة، ويمكن إيجاز بعض ذلك كما يلى :
يسمح الطبيب أن تتخلخل العلاقة أكثر، ولو مرحليا، لإعطاء الفرصة للانتقال إلى مستوى أخر من الحب، وهو مستوى القدرة على الحب : حب الآخرين، وليس فقط الآخر، فلا يعود هذا المحبوب محبوبا بديلا عن كل الناس، بل يصبح ممثلالكل الناس، وهو ما عبرتُ عنه ذات مرة ، بأن المرأة – مثلا- تحب زوجها بالأصالة عن نفسها والنيابة عن حب كل الرجال، (وقس على ذلك).هنا تصبح المسألة أقل احتكارا وأكثر حركية وحرية، تنتقل حركية “التواجد الاستبعادى” “معا”: من “أنا أحبك دون غيرك“، إلى “أنا أستطيع أن أحبك أنت وغيرك“، لكننى أمارس الحب معك لأنك أقرب وأطيب، وتقوم بنفس ما أقوم به، أو على الأقل أنا أتوقع منك ذلك، وأعمل على تحقيق ذلك، وأنت كذلك،، تقوم به بدورك معى.(…وكلام من هذا، وهو كلام “كبير” هو الذى حذرتْ منه الحالة – القصيدة- وشككت فى إمكان تحقيقه)
هذا النوع الأخير – مهما زعم المحبون أنه مقبول من حيث المبدأ – هو مرفوض من داخلهم، إلا نادرا، إذ يبدو الأمر لكل المحبين والخائفين والمحتاجين والجائعين أنه مبنى على أمل بعيد، ومنطق خائب فاتر مرفوض غالبا فى داخلنا مهما بدا علينا الحماس نحوه، وعلينا أن نعترف بأن النقلة من تخصيص الحب وتركيزه على فرد واحد طول الوقت، إلى القدرة على الحب، تبدو أكبر من قدرات أغلب الناس، ثم إنها قد تختلط بنقلة إلى الخلف نكوصا.
نشأت المؤسسة الزواجية (وهى الممثلة الأكثر شيوعا للحب الثنائى، فالأسرى)، كحركة تطورية لتنظيم الجنس، وتربية الأولاد، وتكوين المجتمع الأحدث، وقد أدت وما زالت تؤدى، وظيفة اجتماعية، وعلاقاتية، شديدة الأهمية، كما لم يوجد بديل لها أثبت قدرته على الاستمرار والنجاح بشكل يبرر تجاوزها أو إزاحتها أو الاستغناء عنها حتى الآن. من هنا نفهم مشروعية منطق هذه الحالة فى هذه القصيدة وهى تصر على حقها فى الحفاظ على الاستمرار فى هذه المؤسسة، الأكثر أمانا، حتى لو لم تكن الأكثر إبداعا، أو امتدادا فى الآخرين، حتى لو كانت مبنية على مبدأ الاحتياج المتبادل بعد التعديل !!، بمعنى أن يحتاج طرف طرفا آخر، فيسعد هذا الطرف بهذا الاحتياج الذى أشعره بأن له وجودا ما، فيحتاج هذا الاحتياج أكثر مما يحتاج صاحبه الذى احتاجه، وهذا ما يعبر عنه المتن بشكل مباشر فى النص السابق الاستشهاد به: “أنا نِفـْسِى حد يعوزنى، وأعوز عوزانه. الاحتياج غير مرفوض فى ذاته، ولكن أن يظل هو الذى يحافظ طول الوقت على العلاقة، فهو أعجز من ذلك عادة.
الطبيب النفسى المعالج لا يملك – ولا هو من طبيعة عمله - أن يتصدى لهذا النوع البسيط الشائع من الحب، فبرغم أنه ليس غاية المراد إلا أنه يعلن بوضوح أن هذه هى المرحلة التى يعيشها أغلب الناس حاليا، تلك المرحلة التى تعلن نقص الإنسان حين يلح عليه احتياجه فيتبادله مع آخر، ولكن يبدو أن لهذا النوع عمره الافتراضى المتوسط أو القصير، خاصة إذا اضطرد نمو أحد الطرفين أو كليهما، حتى تتخلخل العلاقة، وتظهر الأعراض على أحد أو كلا الأطراف، فيجد الطبيب نفسه فى مأزق جديد من حيث أن عليه أن يصحح وضعا انكسر فعلا، وهو ينتبه إلى أنه بين أمرين:
إما أن يعيد الوضع إلى ما كان عليه دون إعادة تشكيل فيصبح أكثر عرضة للكسر من جديد، أو أكثر دفاعية وجمودا،
وإما أن يعرض، من خلال العلاج عامة، والعلاج الجمعى خاصة، (أو الخبرة الحياتية خارج سياق العلاج) يعرض تجاوز هذه المرحلة من الحب الثنائى السكونى المستقل إلى القدرة على الحب مع التنظيم الضرورى،
إن دفع الشخص أو المريض فى اتجاه هذا النموذج الأكثر نضجا يهدد الشريك (الأكثر اعتمادية بالذات، وقد يهدد الشريكين) بالتخلى عن نوع من العلاقة، كان يقوم بوظيفته بكفاءة ما، وبضمان معقول، مضمون، برغم فشله الأخير، ومن هنا تبدأ المقاومة لأى احتمال آخر، حتى لو لاح أنه نموذج للحب أكثر نضجا وأطول عمرا، لكن “إيش ضمّنى”، هذا ما تقوله القصيدة،
المقاومة هنا تبدأ بإعلان التمسك بالقيم السائدة (زى بقيت الناس) حتى ولو فشلت هذه القيم برغم أنها السائدة عند أغلب الناس، وأنها قد أعلن فشلها بظهور الأعراض عند هذين الشريكين بوجه خاص، فإن الدفاعات – فى البداية على الأقل- لا تطلب إلا الرجوع “كما كنت”، “زى بقية الناس”!!
الإشكال أن هذه النقلة، من الحب الخصوصى المنغلق “عليهما”، إلى القدرة على الحب فى سياق جماعة (علاجية أو غير علاجية)، قد تـُـعلن كثيرا من بعض أفراد المجموعة، وأيضا فى العلاج الفردى، وهى قد تعلن من أحد الشريكين (مع احتمال أن يكون هو الأقل نضجا)، وعادة ما تصدر مزاعم النضج المعلنة هذه من أبعد أفراد المجموعة عن النضج، فيزعمون أنهم فاهمون وقادرون وكلام من هذا، وقد يصل الأمر ببعضهم أن يزعموا أنهم فعلوها بالفعل، وينتظرون، أو يطلبون، من شريكهم أن يلحقهم، الإشكال يصبح أكثر وأصعب حين يكون المعالج نفسه هو هذا الشخص الدفاعى المعقلن، بمعنى أن تكون درجة نضجه أقل بقليل أو كثير من هذه النقلة، وربما من مرحلة نضج بعض مرضاه، وهنا تصبح المقاومة التى ترد على لسان راوية هذه القصيدة فى محلها، ونستطيع أن نفهم سخريتها اللاذعة، مِنْ مَن يزعم تجاوز مازق النقلة إلى موقف أقرب إلى مثالية “لم تختبر”،
يقول النص فى ذلك:
أنا مالى بْكلّ الناسْ؟
ما تحبّوهمْ.
هوّا انا قلتلكُو انَا باكْرَه حَدّ؟
حـِبُّوهم بكلامْكُمْ يعنى،
مش حا يخسّــرْ.
ما انا بَرْضُهْ باحِبّ انِّى اتكلِّم،
لكنّى مِشْ قد كَلاَمِى
دا كَلام كِدَه بسْ
ولا عايزهْ أصلّحْ حَدْْ،
ولاّّ واخْدةْْ كَـلاْمْكم جَدّ،
ولاّّ نفسى أعدّل فى الكونْ،
ولا شَايْلَه هَمِّ المطحون،
ولاْ قادرة أصاحب المجنون
ولاّ نَاوية أبطَّل بَصْ ورَصْ.
واهُو كُلُه كَلاَمْ.
ادعاء – أو تصور- النمو بمجرد إطلاق الكلمات الرنانة شائع فى كثير من الممارسات الناقصة فى العلاج النفسى عامة، والعلاج الجمعى بوجه خاص، وأيضا فى الحياة العامة، وتنبيه الحالة هنا فى القصيدة، للمعالج، وللمشاركين فى نفس الوقت، هو تنبيه مشروع ومهم، حتى لا تصبح المسألة “مكلمة” مثالية لم تُختبر ذكرنى، “مكلمة”، تتمادى على حساب هدم مؤسسات فى مأزق حقيقى، مثل المؤسسة الزواجية التى لم يجد لها الإنسان بديلا أفضل حتى تاريخه.
تعلن هذه الحالة أيضا أسلوبا آخر للمقاومة، وهو الاستمرار الصورى مع الحذر المتمادى، “ما انا بَرْضُهْ باحِبّ انِّى اتكلِّم، لكنّى مِشْ قد كَلاَمِى، دا كَلام كِدَه بسْ“، لا يحتاج الأمر إلى التذكرة بأن هناك أكثر من صوت تتكلم به هذه الإنسانة ، أو أن هذه القصيدة إنما تترجم داخلها وليس خطابها مثل كل – أو معظم- قصائد الديوان.
كانت صاحبتنا هنا شديدة الحماس للكلام عن الناس والمطلق والحرية، وحين دخلت الاختبار الحقيقى هربت بكل ما عندها من قوة، وكان لسان حالها يردد هذا المنطق.. أن الكلام يمكن أن نساير به الشائع، بما فى ذلك ان نزعم اهتمامنا بالكل وحبنا لهم على حد سواء، وأننا تخلينا، أو قادرون على التخلى عن الامتلاك والخصوصية .. الخ ولا يهم بعد ذلك أن نحقق شيئا من هذا أبدا
(3)
أنـــا عايزة حد يعوزْنِى،
وأعوز عَوَزَانُهْ،
إشمـِعـْنى حسن ونعيما؟ْ
إشمعنى بتوع السِّيما؟
أنا مشْْ قدّ الحب التانِى
وانْ كان لازم نتطوْر؟!!
نتطوّرْ…!،
ما يـْضـُرّشْْ.
بس ارجع تانى لْعشّى،
ولَفَندى بتاعى،
يطوينى تحت جناحهْ،
وانا ماسكةْ الخيط بالجامدْ،
تعبانة إنما راح اعاندْ
ما هو لو سبته حايطير
وانا مش قد التغيير
لهجة السخرية هنا، برغم قسوتها تقوم بوظيفة التعرية المأمول الاستفادة منها بأكبر قدر من المسئولية، هذا المقطع ” أنا عيزة حد يعوزنى، وأعوز عوزانه” وهو الذى استشهدنا به فى البداية، هو مفتاح سر الأمر الواقع، وهو برغم واقعيته ليس مقبولا ولا ناجحا على المدى الطويل، خاصة فى الحالات التى واجهت الصعوبة بأمانة حتى الألم أو الشقاء أو المرض، ومع ذلك، ونظرا لصعوبة النقلة، يمكن قبول الدفاعات – التى تتعرى بهذه السخرية هنا – كمرحلة على الأقل.
أن القدرة على حب الجميع (الصنف كله)، وهو الذى تسخر منه راوية هذه القصيدة بصدق صادق، هو أمر واقعى –حتى لو كان نادرا- ومهما بلغت السخرية أو التعرية، فهو يتمثل فى القدرة على الحب الشامل (مركزا فى أفراد من لحم ودم) ثم فى ممارسة هذا الحب الشامل مع من تتعامل معهم فى الحياة اليومية (ممثلين لسائر البشر) وهو نقيض التقديس والذوبان والاعتمادية الرضيعية، إذ يحتاج إلى درجة من المسئولية والرفض الواعى، بقدر ما يتجلى فيه ما ينبغى الود والتراحم والشوفان, هذا النوع الذى يطرح على المريض (وعلى الطبيب) هو حب أيضا، بل لعله الحب القادر على الاستمرار باستمرار المحاولة والالتزام.. وهو مرحلة صعبة صعبة إلى أبعد الحدود.
من أصدق خبراتى فى العلاج النفسى أن يعلن أحدهم انسحابه من هذه المحاولة (مواصلة النضج)، لأنها أكبر منه (مثل صديقتنا هنا). ولكن هذا لا يبرر التنازل عن الأمل فيه، والسعى لتحقيق ولو درجة منه، فأكبر فأكبر طول الوقت،
إن مجرد السعى إلى إمكانية تحقيقه، ولو على المدى الطويل هو حركية علاقاتية وعلاجية واردة، مع احترام الوقت اللازم حتى تكون المسألة جدا، مما يتطلب تكرار الاضطرار للتأجيل أحيانا، شريطة ألا يكون التأجيل مهربا دائما،
ومع ذلك، فنظرا لندرته، فإن المعالج لا يعرض هذه النقلة نحوه إلا مضطرا، من حيث أن ما ألجأه إلى هذا العرض هو “فشل ما ليس كذلك”.
لا مفر من أن نشير إلى بعض المحكات التى تبين أن هذا الصعب هو شىء عادى برغم ندرته، واحتمال تشوهه، وما دمنا مضطرين إلى المضى قدما فى طرق بابه، فعلينا أن نتعلم كيف نقيس مصداقيته أولا بأول، مثل أن يقاس:
بالقدرة على الابتعاد عن الشريك للاقتراب منه عل مستوى أنضج باستمرار(برنامج الدخول والخروج In and out Program) .
ثم بالتغير النوعى لطبيعة العلاقة ومسارها وإيقاعها
ثم باختبار القدرة على معايشة توجه المشاعر نحو “موضوع” (آخر) مع اختلاف ظروف التنفيذ الواقعى
ثم بمدى تواجد الآخرين المحيطين المحبين حول أصحاب هذه العلاقة الثنائية … بما يمارسونه شخصيا فى مجالاتهم، وأيضا بمباركتهم وتكافلهم. …إلخ
فى العلاج النفسى (الجمعى خاصة)، وفى الروايات وفى الأفلام, وفى النظريات الباهرة، يكثر الحديث عن التطور – كما أفعل الآن حالا وكثيرا- وقد لا ينتبه المحاورون أن وفرة الحديث عن التطورهو ضد التطور، (مثلما أن الحديث عن الجدل، هو ضد الجدل)، السخرية فى المتن من هذه العقلنة هنا شديدة الدلالة، “وانْ كان لازم نتطور؟! نتطور!، ما يضرش!!!!!”،
هذا النوع من السخرية ليس مرفوضا على طول الخط، وقد واجهتُ فى خبرتى مثل ذلك وأقسى من مرضى ينبهون بعض زملائهم الذين يتحدثون عن التطور وكأنه فنجان شاى، أو نزهة ترفيهية، دون حركة أو ألم، وأحيانا ما ينبهون المعالج إلى ما فى هذا الموقف من “طق حنك”!!!. قال أحدهم ذات مرة ما يوازى سخرية هذه الحالة، حين راح ينبه زميله أن المسألة ليست بمثابة: ‘ادينى واحد تطوّر وصلّـحه .. مثلا’
حين تتعمق مرحلة النمو فى العلاج الجمعى وتلوح صعوبة التطور وما يصاحبه من مخاطر مرعبة، أتذكر فأعلن لنفسى إعادة اكتشاف أنه “…لن يتطور إنسان باختياره” .. وإنما بإلزام داخلى ..نتيجة حركة مضطردة، و ورطة موضوعيةتجعل الرجوع إلى الحالة السابقة أملا مستحيلا.
وحتى لو رضى المريض (أو المريضة) بالرجوع، فكثيرا ما يكون الأوان قد فات، فإما التقدم، وإما التدهور،
أما الرجوع “كما كنت” فهذا هو مطلب يتكرر عادة بلا طائل عادة.
اعتدت فى مثل هذه المآزق أن أواجه المريض -ونفسى- بأن عليه أن يراجع نفسه ولا يسير فى الزحمة والسلام، فإما أن يتحمل آلام المرض ومصاعب النمو، وإما أن يخبئ الأعراض بمعرفته: بالتسكين أو بالتنازل عن أية آمال إنسانية أنضج أو باليأس، فتختفى الأعراض دفاعيا، ولا مانع من هذا الاحتمال ما دام هذا هو المتاح مرحليا!!!
وإما أن يضطر لمحاولة طرق باب الطريق الآخر، الأندر، والأكثر نضجا لأن المسألة ليست عرضا (أو عزومة).. فقد أعلن المرض، أو المعاناة، أو الشقاء، انتهاء العمر الافتراضى لمرحلة لم تعد تصلح، ولنوع من التواصل فشل برغم نجاحه النسبى لفترة ما.
* * *
ثم نختتم النشرة بهذه القصيدة مجتمعة كما اعتدنا:
(أقدمها وأنا أعتذر لها، لعلها تغفر لنا ما فعلناه بها)
(1)
عايزين إيه منـِّى؟
أنا مالِى؟
أنا عايزهْْ أعيشْ،
زىّ الباقْيِيِن،
يبقَى لى عشْ صغيّر، وعْيالْْ.
ولـَفَندى بتاعِى (أيوه بتاعى ملكى)،
يرجعلِـى تملّى.. زىّ حمام الزاجل.ْ
يحضنّى أنا وعيالِى،
يطوينٍى تحت جناحُهْ،
وراح اربُطْ رجلُهْ بـْـفتــلَةْ لـَيْـــطير
(2)
أنا مالى بْكلّ الناسْ؟
ما تحبّوهمْ.
هوّا انا قلتلكُو انَا باكْرَه حَدّ؟
حـِبُّوهم بكلامْكُمْ يعنى،
مش حا يخسّــرْ.
ما انا بَرْضُهْ باحِبّ انِّى اتكلِّم،
لكنّى مِشْ قد كَلاَمِى
دا كَلام كِدَه بسْ
ولا عايزهْ أصلّحْ حَدْْ،
ولاّّ واخْدةْْ كَـلاْمْكم جَدّ،
ولاّّ نفسى أعدّل فى الكونْ،
ولا شَايْلَه هَمِّ المطحون،
ولاْ قادرة أصاحب المجنون
ولاّ نَاوية أبطَّل بَصْ ورَصْ.
واهُو كُلُه كَلاَمْ.
(3)
أنـــا عايزة حد يعوزْنِى،
وأعوز عَوَزَانُهْ،
إشمـِعـْنى حسن ونعيما؟ْ
إشمعنى بتوع السِّيما؟
أنا مشْْ قدّ الحب التانِى
وانْ كان لازم نتطوْر؟
نتطوّرْْ،
ما يـْضـُرّشْْ.
بس ارجع تانى لْعشّى،
ولَفَندى بتاعى،
يطوينى تحت جناحهْ،
وانا ماسكةْ الخيط بالجامدْ
تعبانة إنما راح اعاندْ
ما هو لو سبته حايطير
وانا مش قد التغيير