الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / تعتعة الوفد: نجيب محفوظ “بالله عليكم: هل رحل هذا الرجل..؟!! (1 من 2)

تعتعة الوفد: نجيب محفوظ “بالله عليكم: هل رحل هذا الرجل..؟!! (1 من 2)

“نشرة” الإنسان والتطور

6-9-2009

السنة الثالثة

 العدد: 737

 

   تعتعة الوفد

نجيب محفوظ “بالله عليكم: هل رحل هذا الرجل..؟!! (1 من 2)

ثلاث سنوات على رحيله، ولم، ولن يرحل أبدا

..صاحبت هذا الرجل من 16 نوفمبر 1994 وحتى قرب رحيله الجسدى عنا 30 /8/ 2006، يوميا، ثم ثلاث مرات أسبوعيا، ثم مرتين ثم مرة، فى البداية كنت متحمسا منبهرا ألتقط كل ما يصلنى وأسجل بعضه بعد كل لقاء، حتى شعرت أنها ثروة أكبر من سعة خزائنى التى أعرفها، والتى لا أعرفها، فتوقفت، رجعت إلى أوراقى فوجدت أننى سجلت بعض ما دار بيننا من ‏11 / 12/ 1994 –   ‏حتى‏ : 17 / 8 /1995‏ فقط لا غير،  ثمانية أشهر كتبت فيها ما كتبت. لماذا توقفت ؟!!!  لست أدرى، أنا آسف، وفيما يلى بعض ذلك:

الأحد‏ 8/1/1995‏

….غبت عنه مضطرا  ‏لمدة‏ 48‏ساعة‏، ‏ذهبت‏ ‏مساءا‏ ‏إليه‏، ‏ووجدته‏ ‏يمشى ‏فى ‏الصالة‏، ‏وحين‏ ‏رآنى ‏هتف‏ “‏مش‏ ‏معقول‏”، ‏وأخطرنى ‏كيف‏ ‏راح‏ ‏يبحث‏‏عن‏ ‏رقم‏ ‏تليفونى ‏ليسأل‏ ‏عن‏ ‏سر غيبتى، وعن صحتي، اعتدت‏ ‏مثل هذا‏ ‏الاستقبال‏، فهو سمة ‏طبعه‏ ‏الدمث الكريم، وليس‏ ‏لأهميتى ‏الخاصة‏، ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏لم‏ ‏أستطع‏‏ ‏أن‏ ‏أكتم‏ ‏فرحتى – ‏عن‏ ‏نفسى‏-، وأنا أتصور – خطأ – أنه يخصنى به.

جلست بجواره، ملت على أذنه اليسرى استفسر ‏منه‏ ‏عن‏ ‏الرأى ‏الذى ‏أرسله‏ ‏لندوة‏ – “‏نحو‏ ‏مشروع‏ ‏قومى ‏حضارى‏” ‏والذى‏ ‏عقد‏ ‏بالأهرام، والذى ‏يقول‏ ‏فيه‏ “‏إن‏ ‏السبيل‏ ‏إلى ‏نهضتا‏ ‏هو‏ ‏الإسلام“‏، سألته هل قال ذلك فعلا؟ أجابنى بالإيجاب، وقد وصلته دهشتى من هذا التصريح الذى لا يتناسب – ظاهرا على الأقل- مع ما لحقه باسم الإسلام بشكل أو بآخر، ذلك الإسلام المطروح على وعى هؤلاء الشباب كصفائح مسنونة من شظايا سامة ليست لها أدنى علاقة بالإسلام، وصلته دهشتى بحجمها، سألته: أى إسلام يعنى؟ قال لى ‏إنه‏ ‏إنما قال‏ ‏ذلك‏ ‏رابطا‏ ‏إياه‏ ‏بأن‏ ‏يتم‏ ‏هذا‏ ‏فى ‏حوار‏ ‏مع‏ ‏معطيات‏ ‏العلم‏ و‏الإبداع وجميع مناهل‏ المعرفة المعاصرة ‏الأخرى‏، ‏قلت له يبدو أن كلمة‏ ‏الاسلام‏ ‏تعنى ‏عند‏ ‏كل‏ ‏واحد‏ ‏من المسلمين وغير المسلمين معنى ‏مختلفا‏، ‏وكيف أننى أجادل‏ ‏إبنى ‏وزملاءه‏ ‏منذ‏ ‏أعوام وهم يعارضون زعمى أننى‏ ‏مدين‏ ‏للغتى ‏ودينى ‏بأغلب‏ ‏معرفتى‏ بكل تنويعاتها‏، وهم ينبهوننى أننى أتكلم عن إسلامى الخاص، وليس عن الإسلام، فأى إسلام كان يعنى بتصريحه هذا؟، سألنى: ‏وهل‏ ‏كنتَ‏ ‏مشاركا‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الندوة‏، (ندوة الأهرام) فأجبت‏ ‏بالنفي‏، لكنها كانت مثار تعليقات مختلفة مع زملاء فى المجلس الأعلى للثقافة فى لجنة ما، سألنى ماذا قالوا؟ قلت إن ‏أحد زملائنا فى هذه اللجنة، وهو قبطى، ذكى، شجاع، علمانى، مستنير، خائف، يسارى (سابقا)، عقـّب تعقيبا هو الذى جعلنى أفتح الموضوع معه الآن، سألنى شخيى: ماذا قال؟ قلت إنه عقب، ‏ماطا‏ ‏شفتيه‏، بأنها ‏”…‏كانت كلمة‏ ‏”ماسخة‏”، لم تزد عن إعلان محفوظ: أنه مسلم”.

أطرق شيخى صامتا فترة ليست قصيرة، ثم رفع رأسه قائلا: ‏ماذا‏ ‏يريدون؟‏ ‏وكأنى بهم لن يشعروا بالأمان إلا إذا أنكر عشرات الملايين الذين يمثلون أغلبية شعبنا  دينهم، أو تنكروا له. إن علينا أن نبدأ من الواقع، ‏إن‏ ‏الأمان‏ ‏لا‏ ‏يأتى ‏إلا‏ ‏حين‏ ‏يمارس‏ ‏الناس‏ ‏ما‏ “‏هم‏”، ‏وأغلب‏ ‏ناس‏ بلدنا مسلمون، ‏فليمارسوا‏ ‏إسلامهم‏، ‏وحين‏ ‏يمارسونه‏ ‏بطريقة‏ ‏صحيحة‏، ‏فإن‏ ‏الأمان‏ ‏سيعم‏ ‏كلا‏ ‏من‏ ‏الأغلبية‏ ‏والأقلية‏، هذا هو الواقع الواجب احترامه”‏.‏ قلت‏ ‏له‏، “‏إن‏ ‏المشكلة‏ ‏تتمثل‏ ‏فى ‏حكاية‏ ‏التطبيق‏ ‏السليم‏ ‏هذه، ‏من‏ ذا ‏الذى ‏سوف يطبق‏ ‏أحلام ووعود ديننا الحنيف كما ينبغى ويستحق؟”، قال لى: ‏”هذه‏ ‏هى ‏مشكلة‏ ‏كل‏ ‏النظريات والقوانين، ألم يحدث مثل ذلك فى تطبيق الماركسية فى الاتحاد السوفيتى؟”

فهمت، وتعجبت، وصمت، وأجلت استكمال اعتراضاتى وتحفظاتى، كان على أن أنصرف، وأنا أحدد له الميعاد التالى، قلت إننا ‏غيتّرنا‏ ‏ميعاد‏ ‏الثلاثاء‏ ‏إلى ‏الأربعاء‏ ‏بمناسبة‏ تحفظات بعض الأصدقاء بعد ‏إعلان‏ ‏الحكم‏ ‏على الجناة، ‏قال‏ ‏ليكن‏، ‏ثم‏ ‏صمت‏ ‏قليلا‏ ‏وأردف‏ “‏أليس‏ ‏بعيدا‏ ‏يوم‏ ‏الأربعاء؟” ‏أدركت‏ ‏لتوى ‏حاجته‏ ‏إلى ‏الهواء‏ ‏والناس‏، ‏قلت على الفور: سوف أحاول أن أتصل بمن تيسر، ‏ثم نخرج غدا دون أن ‏ ‏نعرف‏ ‏إلى ‏أين‏.‏ فتهلل‏، ‏وطلب‏ ‏أن‏ ‏أكلم‏ ‏زكى ‏سالم‏ ‏وتوفيق‏ ‏صالح‏ ‏ومن‏ ‏أستطيع‏.‏

(اليوم التالى) الاثنين‏ 9/1/1995‏

اتصلت‏ ‏بكل‏ ‏الناس‏ ‏ولم‏ ‏أستطع‏ ‏أن‏ ‏أوفق‏، ‏ذهبت‏ ‏وحدى مترددا‏ ‏ ‏خائفا‏ ‏من‏ ‏عجزى ‏عن‏ ‏ملء‏ ‏الوقت‏، ‏دخلت‏ ‏عليه‏ ‏قبل‏ ‏السادسة‏ ‏ويدى ‏على ‏قلبي‏، هو الذى فتح لى ربما قبل أن أدق الجرس، ‏وجدته‏ ‏مرتديا‏ ‏جاهزا‏، ‏سأل‏: ‏معك‏ ‏أحد؟‏ ‏قلت‏ ‏لم‏ ‏أعثر‏ ‏على‏ “‏زبائن”‏، ‏قال‏ ‏حتى‏ ‏محمد‏ (إبنى) ‏قلت‏ ‏إنه يحضر‏ ‏مناقشة‏ ‏رسالة‏ ‏زميل‏، ‏قال‏ شيخى ‏إن‏ ‏زوجته‏ ‏عندها‏ ‏واجب‏ ‏عزاء‏، ‏ابنة‏ ‏أخته‏، ‏وذكر‏ ‏لى ‏آسفا‏ ‏أن‏ ‏ثلاثة‏ ‏من‏ ‏أبناء‏ ‏إخوته‏ ‏قد‏ ‏ماتوا‏ ‏منذ‏ ‏أن‏ ‏دخل‏ ‏المستشفي‏، ‏إبنة‏ ‏أخ‏ ‏وابنة‏ ‏أخت‏ ‏وهذه‏ ‏هى ‏الثالثة‏، ‏كان‏ ‏حزينا، يقرن الموت بقضاء الله  دون أن ينتقص ذلك ذرة من زخم الحياة الذى يملأه، ‏لا‏ ‏أدرى ‏لماذا‏ ‏كنت‏ ‏أتصوره‏ ‏دائما‏ ‏بلا‏ ‏أخ‏ ‏ولا‏ ‏أخت‏، ‏وهأنذا‏ ‏أكتشف‏ أنه –مثل البشر- له إخوة وأخوات، ينجبون صبيانا وبناتا، يكبرون فى السن، وها هم يموتون الواحد تلو الآخر،فيحزن لفراقهم،  ما الغريب فى ذلك ؟ فيم دهشتى؟ ، ويبدو أنه لاحظ إسهامى، فأقبل يتأبط ذراعى مندفعا وهو يقول كأنه يأمر “هيا بنا” ،فتصورت أنه خشى أن أرجع فى كلامى لافتقارنا إلى أصدقاء آخرين، أعدت تذكرته بأنه لن يحضر غيرنا، فلم يرد، وزاد اندفاعه وهو يكاد يدفعنى دفع  ‏ ‏المشتاق‏ ‏دائما‏ ‏إلى‏ ‏الهواء‏ ‏والناس‏، ‏وقال: ‏”ليكن‏، ‏فلنمض‏ ‏الليلة‏ ‏رأسا‏ ‏لرأس‏ (‏قالها‏ ‏بالفرنسية  ‏Tete a  tete) ‏، وفرحت‏ ‏ومضينا معا….

بالله عليكم: هل رحل هذا الرجل ؟؟!!!  (نكمل الأسبوع القادم).‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *