نشرة “الإنسان والتطور”
2-6-2009
السنة الثانية
العدد: 641
“فصامى” يعلمنا: (13)
“كيف” الفصام، “دون أن ينفصم”!!
بعض معالم للمناقشة
مقدمة:
بدا لى أن التعليق الختامى فى الحلقة السابقة (12) قد فسر حالة رشاد، رأى الفصام رأى العين (..الداخلية)، ووصفه كما نعرفه وكما لم نعرفه، ثم هو الذى حال دون تمادى التفسخ، أى دون أن ينفصم، حتى اختفت الأعراض إلا عرض واحد، هو نظرات الناس وكيف أنها ظلّت تخرق مخه (تعمل خروما فى مخه)، وقد تركزت نهاية الحلقة الأخيرة فى الرد على سؤال إحدى الزميلات، وقد استطردت فى هذا الرد لأقدم شرح كيف أنه لملم نفسه قبل أن يتفسخ بمزيد من الميكانزمات (العقلنة والكبت بوجه خاص).
تصورت أن هذا يمكن أن يغنينى عن مزيد من المناقشة، إلا أن ما وصلنى شفاهة- أكثر منه كتابة-أن هذا الاكتفاء بهذا التعقيب الأخير جعل الأمر أكثر صعوبة، وبالتالى تراجعت عن تراجعى لأقدم نشرتين خاتمتين متتاليتين:
الأولى (اليوم) بعض معالم للمناقشة، وكأنها عناصر ينقصها الاستشهاد
والثانية (غدا) وبها تعقيبات عامة لم تكتمل أيضا.
موجز (جدا)، سريع (أيضا):
هو “رشاد” (اسم مستعار) مرٍضَ، وتوقف سنة ونصف سنة عن العمل، وكاد يتوقف عن الحياة، جاء مريضا، وقد اكتملت له أعراض الفصام كما يوصف فى معظم – إن لم يكن فى كل – التقسيمات المتعارف عليها، الدليل الأمريكى الرابع، وإلى درجة أقل، فى التصنيف العالمى العاشر، وبشكل آخر: فى التقسيم المصرى (العربى) الأول.رَصَد رشاد حركية الانفصام فوصفها بكل ما عرفت به (وما لم تعرف به!) إمراضية(1) الفصام، لكن برغم وصفه ذلك لم تظهر عليه أية علامات تفكك سلوكى، أو عدم ترابط معرفى، أو تفسخ كيانى.
اختلف رشاد مع المعالج الأساسى حول ضرورة سفره للخارج لتحسين حاله ، وسافر بعد رفض صريح من المعالج ، ثم موافقة منه فى آخر لحظة ليحمله مسؤولية قراره كاملة، إلا أنه عاد بعد أسبوع
بعد عودته تم الاتفاق معه على علاج حاسم، أهم خطواته ومعالمه هو التأهيل للعودة إلى أرض الواقع (العمل والناس) بعد انسحاب طال أكثر من سنة ونصف سنة بدون عمل مع وجود وصف التفكك، والأعراض.
نفذ رشاد الاتفاق فعلا مع الامتثال للعقاقير الموصوفة فاختفت الأعراض إلا ما ذكرنا حالا فى المقدمة
الفرض وتطوره:
إن ثمة عين داخلية (آلة “حس” داخلية لها علاقة بالحواس وما حولها)، هى نوع محوّر من الإدراك القديم، عبر تاريخ التطور، تستطيع أن ترصد الداخل بما هو، وهى التى تنشط فى النوم أثناء النشاط الحالم أساسا (نوم حركة العين السريعة REM”ريم”)، كما تنشط فى بداية الذهان خاصة، وهى ترصد الداخل “بما هو” فى البداية، كما قد تتعامل معه بآليات الذهن الأحدث من خيال، ولغة، وتفكير، وذاكرة،
وقد تبين لنا فى الحلقة الأخيرة أن هذه العين الداخلية(2) (الحاسة الداخلية) هى بعض نشاطات ما يسمى العقل الأحدث (بمعنى مستوى الوعى)، وذلك برغم أنها داخلية ، وأننا يمكن نتبين معالمها من خلال العودة إلى أنواع إدراك بدائية حتى قبل أن تتميز أدوات وأعضاء الحس، إلا أن النقلة من هذا الإدراك إلى القدرة على وصفه هكذا، يحتاج إلى نشاط العقل الأحدث القادر على الوصف والتعبير اللغوى الذى تميز به رشاد بدقة بالغة.
ملاحظات حول المناقشة
أولا:
لم نناقش فى كل الحلقات الإثنى عشر علاقة النوبتين السابقتين اللتين أصيب بهما رشاد ، وشفى منهما الواحدة تلو الأخرى (اختفاء الأعراض والعودة للواقع وإلى العمل فى النوبة الأولى دون الثانية)، وبدا لى الآن أن هذا نقص ينبغى تداركه ذلك لأن علاقة هاتين النوبتين ببصيرته الحالية ونشاط العين الداخلية قد يكون ذا دلالة خاصة، لأن مثل هذه البصيرة بعد الخبرة قد نقابلها فى بعض الحالات فيما يسمى “البصيرة اللاحقة بعد الحدث”Hind-sight . المآل الذي يخرج به المريض من نوبة ذهان سابقة يختلف من أقصى العمى، إلى الناحية الأخرى: أى احتمال شحذ البصيرة، سواء كان ذلك بمعنى البصيرة الوقائية، وهى التى تتفهم الخبرة المرضية من حيث غايتها ولغتها، فتحول دون تكرارها أم البصيرة المعقلنة التى تتقن رصد ما كان على مستوى معقلن مغترب، قد يكون جزءًا مما نسميه اندمالا معيقا للنمو Scaring،
فى حالة رشاد لم نتطرق إلى مناقشة ذلك وما إذا كان قد نظر فى طبيعة مرضه السابق وغايته ولغته بعد أن شفى أم لا، ويبدو أنه لم يفعل، أنه لم يتطرق، تلقائيا إلى مثل ذلك، كما أن المعالج لم يسأله عن بعض ذلك أصلا طوال المقابلات التى دامت (حتى الآن) لأكثر من شهر ونصف، وسواء كانت بصيرته الحالية هى نتيجة خبرته الذهانية السابقة، أم هى بصيرة معقلنة ظهرت كجزء من الدفاعات التى حالت دون تفسخه، فإن هذه الدراسة الحالية تظل – بما ثبت منها فى كل الحلقات- بكل فروضها ومعطياتها صالحة أن تكون دراسة تركيبة تكشف عن طبيعة العملية الفصامية من الداخل بعيون صاحبها.
ثانيا:
تبين لنا – فرضا- أن هذا الرصد بعين رشاد الداخلية كان نتيجة لفرط نشاط العقل الأحدث القادر على استعمال لغة دقيقة شارحة تفصيلا، وهنا يبدأ التأكيد على أن هذا الرصد يبدأ بنشاط ما يمكن أن نسميه الآن “الإدراك الحسى الداخلى”، الذى يلحقه عادة غموض على مستوى التفكير التفسيرى المفاهيمى (وهو ما حدث لرشاد معظم الوقت)، أو قد يلحقه تكوين أعراض صريحة، خاصة على مستوى الهلاوس المصنوعة، أو الصور الخيالية، وإلى درجة اقل على مستوى الهلاوس الحقيقية.
بألفاظ أخرى: إن الهلاوس الحقيقية هى إدراك داخلى حقيقى لا يحتاج إلى أعضاء حسية خارجية، وإن كان يُـسْقَطُ أحيانا دون تحوير عبر أعضاء الحس المعروفة، ثم إنه يصاحبه -أو يلحقه أو يحل محله- تكوين ضلالات تفسيرية مسقطة غالبا أيضا، أو قد تتحور الخبرة الإدراكية بشكلك جزئى أو كلى إلى خبرة تخّيلية، وعلينا إذن أن نميز الهلاوس على طيف ممتد من الهلاوس الحقيقية (الإدراك المباشر بالعين الداخلية)، إلى الصور الخيالية (المسئول عن تشكيلها الفكر المفاهيمى والتخيلى مستقاة من الإدراك الداخلى المباشر للخبرة الأولى).
ثالثا:
إن هذه النقلة من الإدراك المباشر للواقع الداخلى، إلى العجز عن تفسيره (الغموض الذى اشتكى منه رشاد مرارا) إلى المسارعة بتحويره، فى صورة هلاوس مسقطة أو ضلالات مفسِّرة، هو مواز للنقلة التى أشرت إليها سابقا فى تشكيل الحلم المحكى مما تبقى من مفردات (معلومات من الصور أساسا) تحركت أثناء نشاط الحلم البيولوجى (إن صح التعبير)،(3)
ايضا يتراوح تكوين الأعراض المفسِّرة (مثل الضلالات والهلاوس الثانوية – إن صح التعبير- وأيضا الصور التخيلية) لهذا التنشيط المبدئى بهذا للإدراك الداخلى
رابعا:
تتراوح الضلالات (الأفكار القريبة والخاطئة بالنسبة لحكمنا) بين تشكيلات أصيلة مفككة نسبيا (الضلالات غير المتسقه Non-systeniatised delusions)، وبين تشكيلات مفاهيمية منتظمة systemetised delusions أقرب إلى التأليف الذى يصل أحيانا إلى ما أسميته “الإبداع المصنوع أو الزائف“(4)، الزيف هنا ليس مقصود به الكذب أو البعد عن الحقيقة، وإنما البُـعد قليلا أو كثيرا عن مستوى الإدراك الداخلى المباشر
خامسا:
أثبتنا من خلال حالة رشاد أن ما نسميه “الواقع الداخلى”، هو واقع فعلا من حيث أنه كيانات ومعلومات وخبرات موجودة ومتحركة بنظام نوا بّى دورىّ (الإيقاع الحيوى) أو بطريقة عشوائية تبادلية هى جزء أيضا من نظام (الإيقاع الحيوى أيضا)، لكن لا يمكن مواجهة واستقبال هذا الواقع بشكل مباشر إلا أثناء عملية الإبداع أو عملية لجنون،
سادسا:
فى حالة الإبداع، نفترض أن هذا الاستقبال (التلقى) مهما كان مباشرا، هو ليس استقبالا واعيا بالبساطة التى قد توحى بها كلمة مواجهة أو كلمة استقبال، أو تلقى، فهو يتحور فور استقباله (تقريبا: فور استقباله إذا كنا نتحدث بالوحدة الزمنية العادية) إلى إبداع تشكيلى، يتضمنه مع الواقع المتاح من الخارج، ليصنّع منه واقعا جديدا هو النتاج الإبداعى،
سابعاً:
أما فى حالة الجنون، فقد يذكره المريض بشكل مباشر، ويسميه بأسماء مختلفة ، مثل أصوات فى الرأس، أو أصوات داخلية، وأحيانا يستقبل المريض حركية المعلومات دون محتواها وهو ما يفسر ما أسموه قديما مراق الرأس الشاذ odd cephalic hypochondriasis سرعان ما لا يحتمل المريض إدراك هذه المشاعر والأحاسيس الغامضة فهو الأغلب يسقطه إلى العالم الخارجى، ثم يعيد استقباله على أنه مدرك من الخارج، أو يفسره دون أن يعرف أنه يفسره، أيضا بعد أن يسقطه، فى شكل ضلالات وهلاوس لكن فى حالة رشاد استطاع أن يحتمله مدة أطول، وظل معه طول الوقت
ثامنا:
تم التعامل مع رشاد -مثلما ننصح أن يحدث مع معظم المرضى- على أن المسألة لم تعد أن ما يقوله المريض (الذهانى خاصة، والفصامى بوجه أخص) هو “حقيقته“، وإنما هو الحقيقة الماثلة بداخله، أى الواقع الداخلى، ويختلف دور المريض فى تحوير هذه الحقيقة إلى ما هو “حقيقته” بقدر ما تتدخل عملية التفكير (الخيال الذى هو نوع من التفكير) فى تحوير إدراك perception هذه الحقيقة (كإدراك حقيقى للداخل) بتأويلهاإلى (ضلالات) أو إسقاطها (كهلاوس) أو إعادة تشكيلها بالخيال (صور خيالية Image)
تاسعاً:
حين تنشَّطَ المخ القديم –عند رشاد- ونتج عن ذلك انسحابه من الواقع الخارجى، وأيضا كان ذلك من أسباب تذبذب القرار لدرجة إشلال الإرادة الفاعلة من الناحية العملية، لم يُزِحْ المخ القديم فى حالة رشاد نشاط المخ الحديث تماما، بل إن الأخير (المخ الحديث) تنَشطَ فى نفس الوقت، غير منافِسٍ للنشاط المرضى، وإنما اكتفى بأن يزاح ليتفرغ لرصد هذا الفصم الجارى، ربما بين المخين، كما ذكر رشاد وهو يحكى عن كيف أن مخه انشق إلى نصفين،
عاشراً:
على عكس ما يحدث فى أغلب حالات الفصام، يتنحى المخ الحديث ويفشل فى أداء وظائفه العادية وخاصة وظيفة التجريد Abstraction، والتربيط، لكن فى حالة رشاد احتد نشاط المخ الحديث مغتربا، أى لم يعد يوظفه رشاد فى حسابات الواقع الذى يترتب عليه القرار المناسب، وإنما توجه نشاطه إلى رصد الجارى، عقلنةً سواء مرضيا (تكوين الهلاوس والضلالات الثانوية أو عاديا (فعلنة المعلومات)
حادى عشر:
يبدو أنه لكى تنشط العين الداخلية، تقوم بدورها هكذا، لا بد من عمليات متداخلة معا تكمل بعضها بعضا، وقد أمكننا من حالة رشاد أن نضع لها فرض فرعى كما يلى:
1) يتم تنشيط عملية الإدراك خارج الحواس المعروفة extrasensory)) فى هذه الحالة هو تنشيط بدائى لمرحلة الادراك (قبل الحسى pre-sensory)
2) يتم فى نفس الوقت تنشيط المخ الأحدث بقدراته المعرفية واللغوية والإدراكية والتجريدية تعويضا ومواجهة
3) يرصد المخ القديم الواقع الداخلى (وأحيانا الخارجى) بطريقته الحدْسية اليقينية
4) تُتَرْجِمُ المستويات الأحدث (المخ الحديث) هذه الخبرة فى صورة إعلان ووصف مارصدته المستويات الأقدم باللغة الأحدث، فتعجز حينا (مش عارف ، مش فاهم، مش قادر)، وتنجح أحيانا فى وصف العمليات العادية (اعتمال/فعلنة المعلومات) بما فى ذلك الصعوبة التى طرأت على العملية، سواء كانت التباطؤ أو الانشقاق أو عدم الهضم (والتمثل) أو التزاحم أو المُراق الرأسى Cephalic Hypochondriasis (آلام الرأس : الصداع الغامض غير المألوف وكل ما وصفه رشاد من امتلاء وشد، ومجرى، وتحويل ، وكسر أبدا وأخرام)
5) تساعد المظاهر الأخرى للمرض بعيدا عن الاضطراب الجوهرى للفكر Formal Thought Disorder والتفسخ، أن تقوم بتحقيق غائية المرض (غائية الفصام) من حيث الانسحاب من الواقع، والتوقف عن النمو، وتكون نشاطات العين الداخلية مشاركة فى هذه التسوية التى تؤجل التفسخ ربما بصفة نهائية
ثانى عشر:
تسهم هذه الوقفة فى محطة “الحلْوسط”(5) أن تعطى فرصة لتأهيل نشط – من خلال العلاقة العلاجية – يمكن أن يستعيد به المريض مسيرة نموه وتكيفه
ثالث عشر:
إن الاستعانة بعقاقير مضادة للذهان هو أمر مهم بشكل خاص، ويتبع فى ذلك وصف الأدوية حسب هيراركية دقيقة، تتغير مع تغير حركية العلاج مقاسة بمحكات نمائية شاملة، وليس فقط باختفاء الأعراض
رابع عشر:
إن التفرقة بين استعمال العقل (الموضوعى)، والعقلنة (الدفاعية) أمر صعب، وهو لا يقاس إلا من خلال تقييم فاعلية المنطق الذى يبدو سليما فى دفع عملية النمو
خامس عشر:
إن استعمال الحيل النفسية لإخفاء الأعراض هو جيد فى ذاته، شريطة أن يكون مرحلة قابلة للتحريك المناسب حين تحين الفرصة ، وتتوثق العلاقة العلاجية أكثر، ويتواصل التأهيل.
وغدًا:
نقدم ما هو تعقيبات ختامية.
[1]– Psychopathology
[2] – سوف نتكلم بعد ذلك عن الحاسة الداخلية باختصار على أنها “العين الداخلية”، ولا نقصد بها العين بمعنى البصر ، وإنما نقصد كل ما يمت إلى الإحساس والإدراك بصلة (قبل التفكير والتجريد).
[3] – أنظر : الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع
[4] – أنظر: جدلية الجنون والإبداع
[5] – سبق أن أشرت أننى نحتُّ هذه الكلمة “إضغاما” (مثل السرنمة= السير نائما somnambulism ، والجدلغة Neologism ) لكى أحقق بها موقفى من سلبية ما يسمى “حلا” وسطا، اللهم إلا كمرحلة، وإلا فهى وقفة قد تطولحتى النهاية. فكرة الوقفة، وهذه الكلمة الجديدة هى أقرب إلى الكلمة الواحدة بالإنجليزيةCompromize التى لا تعنى بالضرورة Intermediate Solution