“نشرة” الإنسان والتطور
8- 3- 2009
السنة الثانية
العدد: 555
التدريب عن بعد:
الإشراف على العلاج النفسى (38)
(سوف نكرر فى كل مرة: أن اسم المريض والمعالج وأية بيانات قد تدل على المريض هى أسماء ومعلومات بديلة، لكنها لا تغير المحتوى العلمى التدريبى، وكذلك فإننا لا نرد أو نحاور أو نشرف إلا على الجزئية المعروضة فى تساؤل المتدرب، وأية معلومات أخرى تبدو ناقصة لا تقع مناقشتها فى اختصاص هذا الباب).
عن ألم المعالج (والمشرف) إنسانا، وكيف يتعامل معه
تكرر الحديث فى هذا الباب عن كيف يتعامل المعالج مع مشاعره الخاصة، وكيف يشارك مريضه آلامه وهو يواكبه، كما حذّرنا كثيرا من الفرحة بالمبالغة فى الشفقة من أعلى، ومن التعامل على مسافة، وأيضا كم نبهنا إلى صعوبة ضبط جرعة هذه المشاعر، ما أمكن ذلك، وكان هذا من خلال الخبرة والإشراف وعرض الحالات.
ثم مررتُ مؤخرا جدا بخبرة شخصية، فتحت هذا الملف دون استئذان، وأنا أرد على خطاب خاص، جاءنى من صديق صدوق، طلب منى ألا يكون خطابه للنشر العام، فاحترمت ذلك فورا وتماما، إلا أننى لاحظت وأنا أراجع ردى عليه، أنه قد ورد فيه (فى الرد) ما لا يجوز أن أحجبه عن من يحتاج إليه، ذلك أننى تحدثت فيه عن ألمى شخصيا وكيف أتعامل معه. وجدت فى ذلك – فجأة – ما قد يفيد المتدربين هنا، ويكمل نقاشى معهم.
ألست معالجا مثلهم عندى نفس الضعف، أعيش نفس المشاعر؟
ألا أزعم لهم أحيانا، تلميحا أو تصريحا، أننى أعتبر معايشتى ألمى هى ثروة مهنتى، وجوهر ممارستى؟
وفى نفس الوقت: ألست أكرر – فى إشرافى هنا وفى الواقع- كيف أن علينا أن نتعلم أن الألم هو جزء لا يتجزأ من الحياة ونحن نحمل مسئوليتها؟
كما أنه علينا أكثر أن نتعلم كيف يمكن أن يكون الألم نفسه هو ورطة المريض حين يضنيه حتى العجز، أو وهو ينكره تماما، فيتشوه به، وبدونه.
تصورت أن المتدرب، وهو يشارك مريضه ألمه، يحتاج للاطلاع على حرفبية نص هذا الحوار الذى جرى بين صديقى وبينى، مما قد يسمح له أن يتعرف على مشاعر الذى يقوم بتدريبه، فيتأكد أن ما يسرى عليه متدربا هو هو ما يسرى على مدربه إنسانا ومعلما معا، لكننى لم آسف كثيرا على حجب النصين احتراما لتوصية صديقى، فرحت أتحايل حتى لا أحرم أبنائى وبناتى من صدق بعض ما جاء بينى وبين صديقى:
قررت أن أنشر مقتطفا محدودا من “ردى” دون رسالته، آمِلا أن يؤدى ذلك إلى النفع الذى نأمل فيه معا
فليسامحنى الصديق، فأنا أعرف كم هو حريص على نفع الناس بما ينفع الناس.
كان صديقى هذا قد نبهنى فى خطابه إلى ما لاحظه على شخصى أثناء ظهورى فى بعض البرامج، وهو أننى ما زلت أتألم وأندهش وأحتار، ولحبه لى، تمنى لى أن أكون أكثر تسامحا مع نفسى، حتى نصحنى بأن أستعين بما تيسر من تقنيات أحدث، لعلها تخفف عنى بعض ذلك، تعجبت كيف التقط كل هذا عنى عن بعد هكذا، ونحن لم نلتق وجها لوجه منذ سنوات، ثم تصورت أن ما بيننا من علاقة صادقة لا تنقطع بالبعد الجسدى، هى التى أتاحت هذا النوع من التواصل، حتى “شخّص حالتى”، (وهو ليس طبيبا)، بكل هذا الحب وهذه الطيبة.
لم أجد حرجا فى ألا أستأذنه، طالما أننى لم أذكره لا بالاسم ولا بالصفة، وليجزه الله عنا خيرا.
المقتطف (من ردّى عليه):
………………
……….. أنا – كما لابد أن تعلم يا صديقى – لا أشكو من ألمى هذا، ولا أرفض حيرتى أو دهشتى، أنا فخور بألمى ما تعلق برؤيتى، ودفعنى إلى الفعل، أما حيرتى ودهشتى فهى سر كشفى واستمرارى،
أنت تعرف كل هذا، دون أن نلتقى
الألم الإنسانى – كما تعلم– أرقى بكثير جدا من أن يلجأ من شرُفَ بحلوله فى وعيه، إلى التخفيف عنه بأية أداة من خارجِه، مهما بلغت قدرات هذه الأداة وانبهارنا بها .
هى لا يمكن أن تخففه،
ولا أريد منها أن تخففه،
هى أعجز من تحيط به
هى لا تستطيع أن تتناغم معه
الألم الإنسانى لا يخففه إلا ألم إنسانىّ أرقى، فأرقى، “معا”،
ساعتها لن يكون هو هو
هو الفْرْحُ بعينه، شريطة ألا نسميه كذلك
أنت تعلم – يا صديقى – أن هذا الألم بوجه خاص هو المحور الجوهرى الذى يعطى “لوجودنا معا” معنى نستحق به أن نكون بشرا بحق
نحن نسميه أحيانا الحب – هو هو الحب – لكنهم سرقوا اللفظ لاستعمالات استهلاكية سريعة
أنت تنكر علىّ أننى لم أتسامح مع نفسى، مع أننى فعلتها وأفعلها كل يوم وكل لحظة، وإلا كيف أستطيع أن أواصل حمل أمانتى، وجودى، وعيى بى وبهم.؟
لا أريد أن أراك
وسوف أدعو لك كما تدعو لى
أريد أن أراك
لا …!!!!
من البديهى أننى سوف ألتزم بتوصيتك ألا تكون هذه الرسالة للنشر العام
مع أنها يمكن أن تفيد من يحتاجها جدا
لكن من يحتاجها سوف يجدها داخله حتما
(انتهى المقتطف)
وبعـد
أدعو الله أن يصل بعض ما يغفر لى تجاوزى المحدود هذا إلى من يتصدى للألم الإنسانى، مما قد ينفع الناس: مرضى ومعالجين، وغير ذلك.
ولك الفضل – يا صديقى – من قبل ومن بعد.