“نشرة” الإنسان والتطور
28-2-2009
السنة الثانية
العدد: 547
تعتعة قديمة (برجاء النظر)
28/3/2001
عن الغاية والوسيلة
الحديث عن علاقة الغاية بالوسيلة قضية جديدة قديمة، لا ينبغى أن نتردد فى معاودة النظر فيها، ذلك أنها تمثل محورا أساسيا فى وجودنا جميعا، يصدق ذلك بطول التاريخ كما يصدق بعرض الجغرافيا. وهى قضية تقع فى بؤرة اللحظة الحاضرة بعد أن تعددت الوسائل، وغمضت الغايات وخبـثت أيضا حتى أصبح الوعى البشرى تحت رحمة قوى ظاهرة وخفية لا ملجأ منها إلا إليها، إلا من رحم الرحمن وتحمل مسؤولية وجوده.
إن الإنسان المعاصر يحمل أمانة العصر كأشقى ما يكون، وأروع ما يكون، فى نفس الوقت.
منذ نبهنا الحق تعالى إلى صعوبة حمل الأمانة، وأننا إذا لم نكن عند مسؤولية ذلك فقد كتب علينا أن نكون جهلاء بالعمى والغرور، كما نكون قد عرضنا أنفسنا لظلم أنفسنا، منذ هذا التنبيه الكريم وتجليات الأمانة تتغير، بتغير اللغات والأحوال والأدوات.
بعض الأسئلة التى تطرح نفسها على الوعى المعاصر”هنا” و”الآن” تقول:
ماهى الغاية المعلنة لوجود البشر الآن، وما هى الغاية المستترة، وما هى الغاية الخفية؟ إلى أين نحن سائرون؟ ثم ماذا؟ يصاحب هذا وذاك سؤال أخطر هو: “كيف” يتحقق ذلك؟
هل بضاعة العولمة (وهى أيديولوجية وليست نظاما كما يزعمون) هى غاية المراد لكل العباد؟ تلك البضاعة المتمثلة – فى واقع الحال - فى قيم مثل “مجتمع الرفاهية”، وفرط الاستهلاك، وما ينتقون من أساطير الأولين يستغلون به المستضعفين.
هل يمكن، وسط كل هذا، أن نظل قادرين على السيطرة على ما أبدعت عقولنا، محسنين استعمال ما صنعت أيدينا؟ لخدمة غاية وجودنا التى خلقنا بها، وربما خلقنا لها؟ أم أننا نستدرج – بالقصور الذاتى، وعمى الوعى- إلى ما لا يمكن تجنب مخاطره؟
أقر وأعترف أن المسألة صعبة أشد الصعوبة، كما أصر أن كل إنجازات الإنسان من أدوات تحديث، ووسائل تعبير، وتواصل، ومتعة، وانطلاق، هى من حق كل إنسان معاصر، إذ هى تراكمات إنجازات البشر عبر التاريخ بغض النظر عن وضع اللمسات الأحدث فى كل مرحلة من مراحل التاريخ، مع رفض الزعم بأن واضع هذه اللمسات الأحدث، هو صاحب الإنجاز الأحدث.
نعم هو حق كل إنسان فى ما أنجزه أى إنسان
لكن
وفى مقابل هذا الحق، يحمل كل إنسان مسئولية استعمال ما أتيح له من وسائل.
يتصور البعض أن العلـم وسيلة معاصرة وظيفتها أن توصلنا إلى معارف جديدة، يمكن أن نستعملها فى صياغة أدوات جديدة، وهذه الأدوات هى بعض ما يسمى التكنولوجيا، وهى التى تقوم بتغيير كل نمط حياتنا، رضينا أم لم نرض.
يرد فريق آخر ينبهنا إلى أن التكنولوجيا تسبق العلم فى كثير من الأحيان، وأن الإنسان يستعمل أدوات مفيدة منذ العصر الحجرى حتى عصر الإنترنت، سواء كان إبداع هذه الأدوات نتيجة لاكتشاف علمى، أم نتيجة لخبرة نفعية (إمبريقية) لم يسبقها بالضرورة أى اكتشاف علمى يبرر استعمالها. ثم إن هذه الأدوات (من أول التكنولوجيا البدائية- كالفأس حتى التكنولوجيا الفائقة السرعة والصقل – كالإنترنت) إنما تتيح المجال للعلم أن يتقدم، وأن يفيد وأن يطبق. لا يعنينا أن نتوقف كثيرا عند قضية أيهما أسبق، وإلا وقعنا فى حلقة تشبه مثال البيضة والفرخة القديم. المهم أن ننتبه إلى صعوبة التفرقة بين الغاية والوسيلة، وإلى أن تبادل الحفز والنفع والحوار بينهما هو وثيق وعميق مثل تبادل الشكل والموضوع فى الإبداع الأدبى، حيث يصل الأمر إلى استحالة التفرقة بين هذا وذاك.
إن الأدوات الحديثة إذا استسلمنا لخداعها يمكن أن تعرض الإنسان لغرور أخطر وأخفى من الغرور الذى تعرض له فى عصر الصناعة. يترتب على هذا الغرور الأحدث خطران: الخطر الأول أن يجد الإنسان نفسه وكأنه استغنى عن علاقته المباشرة بالطبيعة، وبما وراءها، وقد يتمادى حتى يحرم نفسه من إيمان أعمق، هو الذى يعطيه ميزته البشرية الفائقة، أما الخطر الثانى فهو أن يستدرج الإنسان، من خلال غفلته أمام التكنولوجيا الأحدث، حتى يشوه طبيعته، إذ تصور له هذه الآلة غايات متفرعة تافهة وعابرة، لكنها تحل تدريجيا، أو تراكميا، محل الغايات الحقيقية التى خلقنا الله لها.
إن الآلة مهما بلغت فى دقة أدائها وفائق سرعتها وتنوع عطائها، لا تستطيع أن ترسم للإنسان ما يحتاجه وعيه الفطرى السليم من الاتصال المباشر بآفاق الغيب الممتد إلى وجه الله تعالى. وهو الأمر الذى يحدد غاية الإنسان إذ يعمر الأرض من جهة، وينقى فطرته ويطلق قدراتها من جهة أخرى. ليس معنى عجز الآلة عن الوفاء بتحقيق هذه الحاجات الأكثر غورا أنها عاجزه عن الإسهام فى ذلك، بل معناه أننا نستعملها لغير ذلك، أو لضد ذلك. إن حق من يحترم بشريته، ويحافظ على فطرته، أن يستعمل كل ما حقق من إنجازات لما يريد، وليس لما يراد به، أو يستدرج إليه.
لا يكفى فى هذا الصدد أن نحدد غاياتنا الأعمق بألفاظ وأسماء قد لا تكون كافية لغيرنا، ولا حتى لنا بعد أن انفصلنا عنها، ولا يكفى أن نتحدث عنها كأننا نحلم بها وفى نفس الوقت نتنازل عن إنجازاتها لمن يحذق تسخيرها لغاياته هو. إن علينا أن ننتبه إلى تمييز ما يعرض علينا من غايات، بدءا من تقديس الديمقراطية الغربية لصالح من يملك وسائلها، وليس انتهاء بالترويج لمفهوم مسطح عن حقوق الإنسان ومزاعم المساواة. والشفافية والاتصالات وكأنها غايات فى ذاتها.
علينا أن نحدد نحن غاياتنا التى تتفق مع تصوراتنا لوجودنا الخاص الذى نأمل أن يكون عاما بالتكامل الخلاّق،
إنها ما ينفع الناس، ويحقق العدل، ويطلق حرية الإبداع.
ثم بعد ذلك علينا أن نحدد المقاييس التى نقيس بها خطواتنا أولا بأول ونحن نستعمل هذه الأدوات الأحدث لتحقيقها.
إن مجرد تحديد الغاية يصبح خدعة يوتوبية ما لم تكن هناك معايير تضبط خطانا على أرض الواقع “هنا، والآن”. أعنى بذلك مقاييس تقيس نوعية وجودنا اليومى، وعمق إبداعنا الحقيقى، ونبض علاقاتنا الفعلية، ومساحة حريتنا معا إليه.