“نشرة” الإنسان والتطور
2-2-2009
السنة الثانية
العدد: 521
يوم إبداعى الشخصى
خصاء .. وخصاء 1
مقتطف من رواية: ملحمة الرحيل والعود [الجزء الثالث]، من ثلاثية المشى على الصراط، الفصل السادس عشر: ص 366 : 371
(الآن بمعرض القاهرة الدولى للكتاب).
****
– 5-
ألقت بسمة قنديل الصحيفة التى كانت بيدها بعيدا، أبعد ما يمكن، ثم قامت إليها، وأمسكت بها ثانية، وفردتها أمامها، ثم جمعتها إلى بعضها بعصبية أكبر، ثم مزقتها، لكنها عادت فالتقطت جزءا كبيرا من بقاياها، الجزء الذى به صورة الجانى أو المتهم أو المشتبه فيه، وأخذت تتأملها وهى تردد: غير معقول!!، غير معقول، “ليس هكذا، غير معقول، لا”. هى تريد أن تصرخ، أن يكون معها أحد، أن تختفى، أن تثور، أن تكف عن كل شئ. الجريمة بشعة، غير مفهومة. يا ليتها كانت جريمة قتل، هى جريمة ألعن. ثم أن الجريمة بهذه الصورة تفتح أبوابا للقيل والقال، والشماتة والتشفى، والكذب والحقارة بلا حدود. ياليته مات، كان أرحم.
الذى حدث أن الدكتور جميل النشرتى اعتدوا عليه اعتداء مجرما كاد يودى بحياته، ويا ليته مات فعلا؛ فقد تمكن الجانى ـ أو الجانية ـ من بتر ما يميزه رجلا، كيف؟. من؟. متى؟. لاتوجد تفاصيل، ولا حتى أية إشارة لاتهامات معينة، كل ما أمكن عمله هو الإمساك بهذا الشاب صاحب الصورة المنشورة وهو يحاول القفز من النافذة، بعد سماع صراخ الدكتور. تجمع الناس على الباب حتى كسروه. قال شهود عيان إن امرأة شوهدت، وهى تنزل مهرولة على السلم، ثم اختفت، ولم يلحقها أحد، وقيل إنها رجل منقب، أما صاحب هذا الوجه القبيح المنشور.. ياه بسمة تتذكر الآن، هو ذات وجه الشاب الذى دخل يومها، وانتظر فى الصالة، ثم انصرف دون إذن، هو هو، فى الأغلب هو، بل هو – فى الأغلب.
لا يمكن أن تكون الجريمة من فعل الجماعات، فهى جريمة لم نعتدها من الجماعات. هى جريمة تبدو أنها تتعلق بالسلوك الشخصى للأستاذ الدكتور المرحوم، انتقام امرأة؟. ثأر زوج؟. تنافس غريم؟. قيل إنها جريمة ترتبط بآراء المجنى عليه وكتبه. وقيل إنها تتعلق بتجاوزات سلوكه، وإلحاح جوعه للقيام بدور بطولة ما. وقيل إنها لا تتعلق بأى من هذا، وأن الجانى مجنون. مهما كانت الأسباب والمبررات، فالجريمة تعلن مدى تدهور الحس الإنسانى:
المجنون لا يمكن أن يرتكب مثل هذه الجريمة.
اتصلت بسمة بحصة فلم تجدها. اتصلت بجلال وهى تعرف أنه لم يعد صحفيا، وبالتالى لم تعد عنده أنباء خاصة أو سرية، لكنها وجدته. طلبت أن تقابله من فورها، ولم تذكر السبب لكن كان باديا على صوتها أن أمرا جللا قد حدث. لم يكتشف جلال أنه لم يقابلها منذ مؤتمر العريش، حضر إليها بأسرع ما أمكنه.
ـ مالك يا بسمة؟. لم كل هذا الأسى، عمرى ما رأيتك هكذا؟.
ـ ألا تقرأ الصحف يا جلال؟.
ـ يعنى، أقرأها طبعا، هذا عملى، كان عملى، يموت الزمار وإصبعه يلعب.
ـ أين أنت من الجريمة المنشورة أمس؟.
ـ الجرائم كثيرة، تقصدين المدمن قاتل أمه أم الرجل الذى قتل أولاده الأربعة؛ قبل أن يموتوا جوعا، ثم رص رؤوسهم على طبلية فى أطباق؟.
ـ لا هذا ولا ذاك.
بدأ صبره ينفذ فأراد أن يرد لها غيظه قال:
ـ الجريمة الكبرى أننا ما زلنا أحياء، أليس هذا هو ما يردده البهوات المثقفون، وهم يتجشأون الحياة؟.
ـ كفى، ليس هذا وقته أنا ما لجأت إليك إلا بعد أن..، كدت..لست أعرف كدت ماذا؟.
ـ أفصحى:
ـ جريمة الاعتداء على الدكتور جميل النشرتى:
ـ آه.
ـ آه ماذا؟. كيف زحزحتها إلى أسفل القائمة هكذا مادامت قد بلغتـك.
ـ بصراحة لا أعرف. على أية حال هى ليست أصعب مما ذكرت من جرائم.
ـ ربما، لكنها الأبشع والأغرب.
ـ اسمعى يا بسمة، أنا لا أحتمل أن يـجرح إصبع طفل أثناء تقليم أظافره، وهذه الجريمة.. هذا الاعتداء على هذا الدكتور من أخبث وأدنأ الجرائم، لكنها ليست أبشعها، ولا هى أقساها كما تقولين. أنا مقدر موقفك; ربما لأنك عرفت الرجل شخصيا، أنا لم أره حتى يوم واعدتنى أن تعرفينى به، لم يحصل لى الشرف، وإلا ربما تغير موقفى عما أنا عليه الآن، ومع ذلك أنا رأيي….
ـ مع ذلك، ماذا يا جلال؟. ماذا تقول؟. رأيك؟. هل هى مسألة آراء؟. لا أريد أن أغير رأيى فيك، ومع ذلك ماذا يا أخى؟. ماذا تقول؟. هل فيها “مع ذلك” ؟.
ـ لولا أنك بسمة قنديل لمصمصت شفتيى معك، ولعنـت الجماعات والدين بالمرة، يا بسمة أنا أتألم لجرائم دعارة الأطفال بما لا تتصورين، لماذا ننساها ونتوقف عند اسم مشهور، أو رئيس مهفوف إذا ما أصيب بمكروه؟.
- مكروه !! هل تسمى كل هذه الجريمة البشعة مكروها؟. أنا آسفة، يبدو أنى اخترت الشخص غير المناسب.
ـ تريدينى أن أكذب عليك؟. الرجل مجروح، مهان، ولا أريد أن أقول رأيى فيه الآن، فى ما كتب، وفيما يمثله؟.ليس هذا من الشهامة فى شئ، الحادث بشع بكل مقياس، لكن ليس معنى ذلك أنه يستحق ماحدث. أشعر أننى يمكن أن أنتقم له شخصيا لو تمكنت، لكن لا ينبغى أن ينسينا بريق اسمه بقية الجرائم، بما فى ذلك الجرائم التى ارتكبها هو شخصيا دون مطواة قرن غزال، أنت التى حكيت لى كيف كان، وما زال، يقوم بكى العقول.
ـ أنا لم أقل كى العقول، لكنى قلت كى الزوائد التخريفية التى فى عقولنا بالرغم منا.
ـ ليكن، وهل ثبت أنها زوائد تخريفية أم أن هذا رأيه ومخاوفه؟. وهل ما يظهر لك وأنت تكتبين قصصك زوائد تخريفية؟.
ـ هو لم يهجم على أحد فى بيته ليزيل منه زوائد فكره، نحن الذين كنا نذهب إليه بأنفسنا، ونسمع منه ونقرأ له، مثلما يذهب المريض للجراح ليزيل ورما أو يفتح له خراجا.
ـ إن كان ذلك ينطبق على كل الناس فأنت أعلم بأن ما يصلك أثناء إبداعك ليس ورما يحتاج استئصالا، ولا زائدة تحتاج البتر.
ـ لم يكن الدكتور يغصبنى لأصدقه، وحين فشلت أدواته معى لم يحاول أن يمنعنى من المضى فى طريقي.
ـ و ماذا عن الذين لا يملكون أدواتك وصلابتك؟.
هل تحاول يا جلال أن تبرر ما حدث!؟. أنا أكرهك. قسوة هذه أم تشف، يا ساتر!! من أنت يا جلال؟ قل لى من أنت؟ يا ليتنى ما دعوتك.
لم يعتذر، ولم يحاول أن يخفى بشاعته كما وصلتها. راح يشرح لها وجهة نظره بإصرار عنيد غير عابئ بحساسية ما يقوله، راح يذكرها أنها ليست بالضرورة جريمة فكر، وأن علاقات الدكتور النشرتى النسائية ليست فوق مستوى الشبهات، بل إن هناك كلاما فى هذه المنطقة لا يجوز إعادته طالما الدكتور ما زال فى هذه الحال، وأن تحويل هذه الجريمة الشخصية الخبيثة إلى جريمة رأى يضر بكل الأطراف، وأن علينا أن ننتبه إلى خصاء العقول والوجدان وكل أدوات المعرفة التى خلقنا بها، بذات القدر الذى نهتم فيه بمثل هذه الجرائم، وأنه على يقين أن الحكومة والمؤسسات وأمريكا والإعلانات وبعض الأزهر وحزب شاس وبعض الانجيلين الأصوليين الأمريكيين يقومون بعمليات خصاء جماعية لخصوبة البشر الإبداعية، كاد يضيف، والإيمانية لكنه لم يقلها. الخصاء الجماعى جار على أذنه للرجال والنساء والأطفال والجميع. أضاف: إنه حين فكر فى مشروع تعليم اللغات لتنظيم الدماغ، تلك الحكاية الخائبة إياها، كان يتصور أن العودة إلى نبض اللغة الأصلى، وإحياء موسيقى الحروف، يمكن أن ينظم العالم ويحمى الأدمغة من أمواس الخصاء الكاوية بأنواعها.
نظرت إليه طويلا، ثم نظــرت إليه ثانية. وقالت فى نفسها، “هذا الرجل لا يـهمد”، برغم أنه لم يصل أبدا إلى ما يريد. بل إنه حتى لم يبدأ بعد، فمن أين له بهذا الإصرار؟.
عادت فتقززت منه حين تصورت أنها يمكن أن تزور الأستاذ الدكتور جميل النشرتي. لتقول له: حمدا لله على السلامة، واكتشفت ـ وكلها خجل ـ أن ذلك مستحيل، إذ كيف تتجنب أن تذهب نظراتها إلى حيث لا ينبغى؟.
-6-
بسمة لم تحب الدكتور جميل النشرتى أبدا، ولا هى حتى أعجبت بآرائه، هى كانت معجبة بإصراره. هو لم يحاول معها، لم يكن نذلا صريحا ولا متعجلا، سمعت عنه أشياء كثيرة ليست طيبة، لكن مهما فعل، ومهما كان فهو لا يستحق هذا، ليس هكذا، ليس هكذا.
قالت حصة لبسمة:
ـ طبعا ليس هكذا، ولا غير هكذا، ولكن لماذا أنت منفعلة بهذه الصورة يا بسمة وأنت لا تعرفينـه مثلنا؟.
ـ المسألة ليست مسألة شخصية، المسألة مسألة فكر. والفكر لا يصارع إلا بالفكر.
ـ الحمد لله أنك لم تعرفيه مثلنا، وإلا لكنت تصورت احتمالات أخرى غير حكاية الفكر هذه.
ـ ماذا تعنين؟. هل تشككين فى الفاعل مثل جلال؟.
ـ من جلال؟. آه.. الصحفى بعض الوقت الذى قابلناه فى العريش.
ـ هو ذاك، لقد كان موقفه غريبا، لولا أننى أعرفه من داخل الداخل لاعتبرته…..
قاطعتها حصة:
ـ أنت تحبينه يا بسمة؟.
ـ هل هذا وقته، أحبه يا ستى، وأحبك أنت أيضا.
ـ لابد أن تقبلى الاختلاف، ثم إن معلوماتك عن الجريمة هى من الصحف فقط.
استفسرت بسمة بتردد عما ليس فى الصحف، حكت لها حصة عما سمعته من بعض المقربين، وأن المسألة ليست لها علاقة بأية خلافات فكرية، وأنه قد وجدت ورقة لفت بها الأداة التى تمت بها الجريمة، وكذا جسم الجريمة، مكتوب فيها ما يفيد انتقاما نسائيا بشعا مثل الذى نسمعه حتى من زوجات يقترفن ذات الجريمة مع أزواجهن، أو من أزواج يثأرون، وأن أحمد عبد الغفار قد استدعى إلى الشهادة فى التحقيق، مع أنه ليست له دعوة، وأن المسألة ليست بالبساطة التى تتصورها بسمة.
هدأت بسمة قليلا، ثم قالت:
ـ أما كان على الصحافة أن تتريث فى نشر الخبر، أو حتى لا تنشره إطلاقا؟.
قالت حصة، وهى تشعر أنها استطاعت أن توضح الموقف ولو بالتقريب:
ـ الصحافة هى الصحافة، اسألى جلالا لم تركها، ثم جاوبى على سؤالك.
ـ ترى هل يستطيع الدكتور أن يكتب بعد الآن؟.
ـ قد يمضى فى عناده، وقد يتعلم، وقد ينسحب، وقد ينتحر.
ـ لكنه لن..، لن يؤمن؟.
ـ لن ماذا يا بسمة؟.
ـ لن يؤمن.
ـ حين تؤمنين أنت أولا.
ـ وهل تشكين فى يا حصة؟. ألم أقل لك يا حصة عن خبراتى أثناء الكتابة؟. ألم يصلك كيف أنى لا أملك حينذاك للإيمان دفعا؟.
ـ لا تضحكى على نفسك يا بسمة، الإيمان ليس طاقة نتزود بها بعض الوقت لزوم الدفع الإبداعي.
ـ وأنت يا حصة؟.
ـ أنت مالك.
[1] – هذا العنوان الفرعى ليس فى الرواية