“نشرة الإنسان والتطور”
15-12-2008
السنة الثانية
العدد: 472
يوم إبداعى الشخصى
مقال فى قصة،
قصة فى مقال
تقرير عن “بحث علمى”
… كتب هذا النص فى اليوم التالى لمذبحة إسرائيلية جرت فى جنوب لبنان، فى أوائل الثمانينيات، …قامت إسرائيل بعد الحادث بعرض بعض المجاهدين المحتجزين لديهم فى أقفاص حديدية مدلاة من طائرات الهليوكوبتر، تخويفا وامتهانا
وصلتنى هذه الأخبار وأنا أكتب تقريرا على بحث علمى تقدم به أحد المدرسين بالجامعة للترقية إلى وظيفة أستاذ مساعد، وصلنى ما بالبحث من اغتراب وأنه على أحسن الفروض: “تحصيل حاصل”، فكتبت هذه القصة المقال، ونشرت بالأهرام، كتبتها وكأنها التقرير الأوْلى بالتقديم للجنة الموقرة للترقية التى أنا عضو بها جدا.
هل تغير شىء بعد ثلاثة عقود إلا ما أصِبتُ به شخصيا من “داء التفاؤل المزمن”، برغم كل ذلك؟!!!.
-1-
الصليب الأبيض معلق خلف الظهر لتمييز الجنس الأدنى استعدادا للانقضاض، لكن الوجه لا ينم عن ألم مفرط كما كنت أتخيله منذ سمعت الإذاعة تبث هذا العار، يتلاشى الألم إذا زاد. لماذا يتألم الناس إذا كان الألم لا يقتلهم، ولا يدفعهم إلى القتل؟ (الآن – وليس بعد؟).
-2-
أُمـْسـِكُ بالقلم لأكتب التقرير. قاضٍ أنا؟.
العدالة معصوبة العينين وأنا مـُفـَتـَّحـُهـُمـَا
محنةٌ أن يُضطرُّ المحكِّـم أن يعرى ضميره، أن يتعرى أمامه.
لا أستطيع أن أوقـِّـعَ على هذا الشئ. كيف أوقع على شئ “ليس بشئ”؟.
بمجرد أن أمسك بالقلم تتدلى من السقف بدلاً من النجفات النادرة، أقفاص من طائرات الهليوكوبتر المغيرة، سجون معلقة، تتراقص الصلبان البيض فوق الصفحة السوداء، فتستحيل الكتابة من حيث المبدأ، ألمح أحد السجناء الفلسطينيين فى الأقفاص وكأنه يلوح لى بيده، مودِّعا أو متوعدا، يتحدانى أن أُوَقـّع، كل شئ يتحدى، يتحدانى شخصياً هذا الذى يجرى يتحدى وعى البشرية، ويبصق فى وجه تاريخ الإنسان جميعاً.
السلام حتمى، والتقرير الفردى حتمى كذلك.
كيف حكم السادات أنها آخر الحروب؟ نحن نستطيع ـ بالكاد ـ أن نحدد تاريخ بعض ما فات من حروب، فكيف استطاع هو أن يحدد آخرها؟ ربما كان يقصد آخر الحروب التى سيخوضها هو، ومع ذلك فقد خاض حربا قذرة، قُتل فيها جدا. رحمه الله.
أتمنى لو أستطيع أن أحذو حذوه فأقرر أن هذا التقرير هو آخر التقارير؟ حتى لو كانت نهايته تنتظرني.
-3-
ليكن….
المجاملة واجبة، والكون لا ينصلح دفعة واحدة، والكل فى الإساءة سواء، الظلم الشامل عدل…، والأبحاث كلها مثل بعضها؛ إما كلام فارغ أو كلام مفروغ منه، وأنا مالي؟ مالى أنا؟ أنت عضو فى اللجنة الموقرة يا أخى، ليكن، مثلى مثل غيرى، أمــّا بارد.
جـُرْ ياغراب وأفسِد لن ترى أحداً.. إلا مُسيئاً وأى الناس لم يـَجـُرِ”.
يا شيخ المعـرّة؟ هل هذا وقته؟ تبرر لنا الظلم وأنت لم تظلم إلا نفسك بكل إباء !
الصليب أبيض، والسجون معلقة، والبشر هنا وهناك فقدوا الشئ.
الباحث الذى ينتظر مَـلءَ هذه الأوراق ليترقى ينظر لى من خلف “شيش” النافذة فى لهفة مفهومة غبية، وهو لا يلتفت لينظر فى السماء ليرى ما أراه، “قال رب لم حشرتنى أعمى، وقد كنت بصيرا؟”، أنا لم أحشُر شيئا فى دمـّاغ أحد، هم الذين حشرونى فى هذه اللجنة حشرا بحكم الأقدمية، ملعون أبو الأقدمية، والأكثرية بالمّرة.
مجتمع الرفاهية، المجموعة الاقتصادية الجديدة على وشك التنحى، العقل الشاب، شابَ وانتهى، لم يكن شابا أبدا.
ما الطزاجة؟ أين الدهشة؟.بحثٌ علمى بلا طزاجة أو دهشة ينبغى أن يبحث له عن اسم آخر؟ عقولٌ مخزونة فى برودة غير ملائمة.
عقول انتهى عمرها الافتراضى، عقول لا تصلح للاستعمال الآدمى، لماذا إذن؟ !!
لماذا التقرير؟. ولماذا الفردى؟. ولماذا الجماعي؟ ولماذا التوقيع؟
-4-
لست مثل غيرى، هكذا أزعم، يلاحقنى ظِ،لّى أينما تلفتُّ، يلاحقنى باستمرار، يحاسبنى، يقهقه أحيانا قبل أن أرد، يريد حلا حاسما :”الآن”، دائما “الآن”، وليس بعد، أطلب التأجيل..،يرفض.
“توقيعي” يشحذ السكين التى تذبح الأطفال، يـُحكم قـَفـْل السجن المعلق المدّلى من الهليوكوبتر.
متى أتوقف عن كل هذا؟.
-5-
لا مفرمن التكــُّيف مع الواقع ، التشكّل، التعقّل، نحن دولة نامية. وأى شىء يكفي.
أمسك القلم وأهم بالتوقيع، أحس بسائل بارد لزج يتسحّب على ساقى اليمنى حتى فخذى، أرعب فأقوم كالملسوع، أتلفت فيخيل إلى أنى أتخيل، أمد يدى أتحسس فتتأكد اللزوجة وأتأكد أنه خيالٌ أوقع من الواقع، تغمر أصابعى اللزوجة لكن دون سائل ودون دماء.
أحسست ـ فى جزء من ثانية ـ أن ساقى قد غاصت فى بركة دماء تجمعت من أشلاء أطفال بين الثالثة والسادسة، كانوا يغنون ـ قبل القصف مباشرة ـ “وحوى يا وحوى، إيوحه،…وكمان وحوى إيوحة”، كانوا يغنونها مع أننا لسنا فى رمضان !! وحين قالوا “.. وحوينا الدار” دمعت عيناى، يتراجع خيالى السوداوى السخيف، لكن اللزوجة لم تفارق أصابعى التى تتجمع بجوار بعضها فى كتلة هلامية هى الأخرى، أحاول أن أمسك بالقلم فتعجز أصابعى المتلاصقة داخل الكتلة المتشكلة عن الامساك به، أتبين اختفاء أصابعى، كتلة رخوة من لحم مدهنن، كيف أمسك القلم بلا أصابع؟. داخلنى فرح أقرب إلى الخجل ـ حين تصورت أن الامتناع عن التوقيع يمكن أن أبرره بأسباب مرضية كهذه.
ليس على المـُعـَاقِ حرج.
-6-
لابد من التوقيع، حتى لو وجهوا إلىّ مباشرة تهمة قتل أطفال لا أعرفهم، ليكن التوقيع بماء النار أو بمسحوق النابالم، سأوقع هذه المـرّة بشرط ألا يتكرر مثل ذلك أبداً، لكنى على يقين أنى بمجرد أن أوقع سينسى الكل كل شئ، كل شئ، لا بل سيكتفون بنسيان الجانب المؤلم من كل شئ، وخاصة الدماء والأطفال، وصوت تكسير العظام، وإهانة الشيوخ، وجرح حياء العذارى، ومنظر الأشلاء.
قال يعنى كانوا تذكّروا أيا من ذلك أصلا؟
ما هذا الربط الفارغ؟. البحث العلمى شئ، والحرب شئ آخر. لابد أن أفيق وأن أوقع، وأن أصدّق أنهم قبلوا شروطى ولو مستقبلاً.
عيونهم مركزة على القلم والورق ومكان التوقيع، وافقوا على شروطى دون أن ينظروا فيها أصلا، أتوهم أنهم يستحيل أن ينسوا الشروط ماداموا يحتاجون توقيعي.
أقاوم رعشة يدى وقد تخلّقت لى أصابع قصيرة جديدة من كتلة اللحم الرخوة اللزجة، أهم أن أوقع، تقفز ابتسامات التهانى فوق برك الدماء، وتطمئن وجوه الباحثين النجباء أننى عقلت، فوقعت..
تـُشـَلّ أصابعى عن الحركة مع تنميل متسحّب بطئ كله إغاظة فى استرخاء يحيط به غثيان لا يزيد، ولا أتقيأ.
-7-
كان علىّ ألا أقبل، كان لا بد أن أعتذر من البداية، ولكن من أدرانى بتوقيت ظهور طائرات الهليوكوبتر هذه هكذا الآن وهى تحمل أقفاص هذا السجن المدَلَّى ؟
هل ثَمَّ جديد؟.
لم يحدث إلا أنهم جسَّدوا الجارى فعلا، الجارى فى كل مكان وليس فقط فوق سماء جنوب لبنان.
أستقيل? !!
نعم، لا بديل.
يفرحون: تـُمصمص الشفاه، يزداد عدد هذه الأبحاث، وعدد الأطفال المبتسرين، تتكسّر كرات الدم الحمراد والبيضاء خجلا وانتحارا، تتراكمُ الأرقام، والأشلاء، وصفحات الدوريات، وبقايا الكلمات، والوظائف الشاغرة على الرغم من شاغليها، تتجمع جثث الأحياء فوق بعضها البعض، لا أستطيع أن أتنفس من تحت كل هذه الأكوام اللزجة ذات الغازات إياها، يشكـّون فى سلامة عقلى مع قليل من مشاعر العطف وكثير من كلمات الرثاء، جنبا إلى جنب مع لسع سياط الشفقة من بعيد دون أن تظهر الأيدى الممسكة بها، كل ذلك على خلفية فرحة سرية تعم كل الباحثين الأصغر.
أرفض..؟!.
هذا بحث لا يرْقَى،
أبحاث هذا الباحث لا ترقَي. ليس لأنها أبحاث سيئة ولكن لأنها ليست أبحاثاً أصلا.
يرفضونني جميعا.
شخصٌ صعٌب، دعـُوه.
شخصٌ لا يوافق إلا من وافقه، دعوه.
دعـُوه… دعوه…. دعوه.
يا ليت!!!!
لا هم يدعونى، ولا أنا أدعهم.
-8-
دعـُوه، دعـُوه، دعوه.
-9-
“أناوِر..”؟
فرقٌ بين التكتيك والاستراتيجية.
هذا هو.
أوقع هذا “التقرير” “الآن” حتى يحين الوقت الذى أملك فيه مقاليد السلطة، فأغير كل شئ، كرسى السلطة – حينذاك – سوف يسمح لى بتعديل الكون بما فى ذلك أنظمة البحث العلمى وقواعد الترقية، وساعتها سوف أرفع عنهم الصليب الأبيض وأطلق سراح سجناء الأقفاص المعلقة فى الهواء، وأيضا المعلقة على الأرض، وهكذا أحرر الأرض المحتلة؛ حين أحرر النفوس المحتلة، والعقول المجمدة، سوق أتحدى بذلك كل شرور العالم المتغطرس، وأوراق العلم الزائف، والعلم الردئ، والعلم “كنظام” العلم، والعلم اللاعلم.
كلام فارغ، حتى هذا الذى أتمنظر به أمام نفسى الآن، أصبّرها خداعا، ليس إلا كلام فارغ،
ليس تماما، سوف يحصل.
.. متى؟.
بعد سنة؟ عشرة؟.
وحتى ذلك الحين: كم طفلا سوف تتناثر أشلاؤه؟.
وكم باحثا سوف تفسد أخلاقه ويتفسّخ عقله؟.
كيف سيكون كل شئ، بعد أن ينمحى كل شئ؟ !!
متي؟.
لا..
-10-
هأنذا أضيف إلى نذالة التوقيع جبن التبرير.
الأشرف والأحزم أن أوقع دون غنج قبيح.
أن أشترك فى الجريمة علانيةً وبشجاعة الأنذال خير من أن أضحك على نفسى وأؤجل إلى مالا نهاية.
“أوقَّع” دون تبرير.
أوقِّع.. دون تكتيك أو استراتيجية.
أوقِّع.
وأنتظر دورى لتسليم بيتى ووعيى وعِرضى لصاحبهما المتغطرس،
رافعا ذراعىّ الاثنتيْن إلى أعلى.
لم يعد عندى أى شئ “أبيض” يمكن أن أرفعه.