“يوميا” الإنسان والتطور
الأحد 8-6-2008
العدد: 282
استشارات مهنية (3)
ثم نرد فقرة فقرة،
ثم نعقب إجمالاً.
شكرا.
يحيى
مقدمة:
د. أميمة رفعت:
أنا سعيدة بهذا الباب الذى ليس لى أى فضل فيه، فقد أخذتَ سؤالى وجعلت منه مادة مفيدة للجميع فشكرا لك، ولدى استشارة أخرى لو سمحت
د. يحيى
بل الشكر لك، ولكل من رحب وساهم وسوف يساهم فى إثراء المعرفة العلمية العملية هكذا، يارب تنفع!!
ماذا عندك اليوم؟
د. أميمة رفعت:
(هى) مريضة فصامية، 60 سنة، بدأ المرض منذ كان عمرها 15 عاما، غير متزوجة، أمية، من إحدى قرى البحيرة، لديها أختان مصابتان بالإضطراب الوجدانى وجد- ذهانى لا أعلم عنه شيئا . سأسميها (ف).
فى تاريخها المرضى باختصار (من الأرشيف): هياج ،كلام كثير غير مترابط، مزاجها فى معظم الأحوال غاضب، تتبول وتتبرز فى مكانها، ضلالات إضطهاد وتأثير وإشارة، هلاوس سمعية مهينة وآمرة، أعراض قهرية مثل تكرار غسيل اليد وإرتداء كميات من الملابس فوق بعضها حتى القفازات فى الصيف، ولم تتحسن أبدا على مر السنين بالعلاج الكيميائى.
منذ سنوات قليلة ما تبقى من هذه الأعراض: العزلة والإنطواء، ضلالات إضطهاد بقصص بعينها لا تتغير ناحية أناس بعينهم لا يتغيرون، تنكر أى هلاوس، منظمة ونظيفة، كلامها قليل وليس لديها لا أفكار ولا قصص تحكيها سوى تلك ما يخص ضلالاته وهى تكررها بلا ملل (هذه القصص تكررها منذ 1982) مشاعرها ضحلة بدرجة كبيرة إلا حينما تحكى عن مضطهديها فهى تتنهنه و كأنها تبكى وتأخذ صورة الضحية.
أعالجها منذ سبعة أشهر وأدخلتها العلاج الجمعى منذ ستة أشهر.
(ف) مهذبة بشكل يغيظنى أنا شخصيا، فتهذيبها أشبه بالقناع الخائب الذى تلبسه بمناسبة وبدون مناسبة، وهى لا تشكو ولا تتكلم عن نفسها أبدا وإنما تشكو بالنيابة عن أختها المحجوزة معها فى المستشفى وتدعى دائما أنها تقوم برعايتها.
فى العلاج الجمعى أشعر أنها قابعة وحدها فى سرداب عميق، لايصلها صوتنا، وبالتالى لا تشترك فى الحديث، إذا كررت لها كلامى ربما يصلها منه كلمة أو إثنتين فترد بإجابات لا معنى لها المهم أن تكون مهذبة جدا.
إحدى الجلسات كانت قوية وصادمة للمريضات فقد وصلهن أن عليهن نوع من مسئولية إختيار إستمرار المرض من عدمه، وكان رد فعل الجميع: قدرا متفاوتا من المقاومة والعدوانية السلبية تجاهى وعلى مدى أيام كاملة، إلا (ف) لم يبد عليها اى تغير هذا اليوم…
فى اليوم التالى أخرجها أخوها من المستشفى دون علمى، بعد 10 أيام أعادها – لا أعلم لماذا- فى عدم وجودى أيضا، كل ما أعرفه أنها لم تتناول دواءها طوال هذه المدة. المريضة لم تتغير صورتها ولكن فى العلاج الجمعى فوجئت بـ(ف) أخرى: منتبهة، خارج السرداب تماما، لها رأى ليس بالضرورة مهذبا، ويا للعجب .. تأخذ أدورا فى المينى دراما. ما زالت مشاعرها إلى حد ما ضحلة (وإن كنت ألمح شرارة غضب ولغة جسد متحفزة لا تزيد عن ثوان معدودات إذا ما حاصرتها مريضة فى الحوار)، وكلامها ليس كثير ولكنها لم تعد تنكر أن لديها هلاوس… هذه الصورة داخل المجموعة العلاجية فقط وليس بين الآخرين فى القسم…
الآن السؤال: ماذا حدث لمريضتى؟ ما الذى غيرها فى 10 أيام.
يقولون لى وماذا يهمك فى سبب تغيرها المهم الإستجابة. نعم .. ولكننى مرتبكة، كانت رؤيتى واضحة إلى حد ما، ثم تغير كل شىء ولم تعد لى رؤية واضحة، وكأننى أفقت فوجدتها فى يدى ولا أعلم أين أذهب بها. فهل تقترح على ما يربط لى الصورة ببعضها…
أعتذر بشدة على الإطالة ( إذا رأيت أن إستشارتى أطول من اللازم، أرجوك لا تنشرها) شكرا.
د. يحيى:
يا شيخة حرام عليكى، أطول ماذا؟ وأنشر ماذا؟ ربما كانت أقصر من اللازم.
دعينى أشكرك أولا على موقفك الإكلينيكى العلاجى هذا، وأنا لا أريد أن أبالغ فى وصف إيجابياته، مع أن ذلك ضرورى حتى إذا قلتُ بعد ذلك ملاحظاتى المتواضعة، وبدا أن فيها غير ما تشتهين، أو تنتظرين، فيمكن أن تتقبلينها من خلال هذا الاعتراف الصريح بتقديرى وشكرى على كل ما تفعلين وتحاولين.
والآن إسمحى لى أن أعلق على فقرة فقرة كما تعهدت بالنسبة لهذه الاستشارات، ثم نرى فى النهاية إن كان ثم تعليق عام ختامى .
(1)
(هى) مريضة فصامية، 60 سنة، بدأ المرض منذ كان عمرها 15 عاما، غير متزوجة، أمية، من إحدى قرى البحيرة، لديها أختان مصابتان بالاضطراب الوجدانى الذهانى، لا أعلم عنه شيئا . سأسميها (ف).
ياه !! هذا طيب مزعج،
هل معنى ذلك أنها مريضة منذ 45 سنة، أم أن بداية المرض كانت منذ 45 سنة، ثم دعينى أذكر نفسى أنها فى سن الإحالة على المعاش، وأنها لم تتزوج، (لأننى سوف أعاملها – بعد إذنك – أنها على وشكل تعيين جديد فى الحياة بشكل ما، (سامحينى لهذه البداية) ؟
الأرجح أنها بدأت مسيرة المرض منذ 15 سنة ثم مرت عليها أطوار إفاقة Remissions سواء كانت كاملة أو ناقصة، ثم أطوار طِباق Relapses إلخ أما إذا كانت ظلت فى المستشفى طوال هذه المدة، فهذا يجعل المسائل أكثر صعوبة.
لا بد من معرفة كم سنة قضتها من هذه المدة فى المستشفى؟ وكم مرة خرجت، ولمدة كم؟ إلخ
أنا لا أطالبك أن تذكرى لى، ولا حتى فى رسالة لاحقة هذه المعلومات، فقط أسأل لأن علينا أن نستعد أن يكون موقفنا مختلفا حسب كل إجابة.
أما أنها أمية لا تقرأ ولا تكتب ، فهذا جيد أيضا، لأننى كثيرا ما اتهمونى أننى ألقن مرضاى أفكارى بشكل أو بآخر، مع أننى تعلمت من الأميين إمراضية Psychopathology أكثر ألف مرة مما تعلمته من المثقفين المعقلنين حتى إذا مرضوا، ناهيك عن النفسيين أبعد الله عنهم كل مكروه !.
أما أنك لا تعلمين عن تفاصيل مرض إخوتها سوى هذا الاسم الغامض (وكل التشخيصات غامضة بالمعنى العلاجى الحقيقى، لأنها مجرد نقطة بداية إلى ما ينبغى أن نعرفه بعد لصق اللافتة) فهذا نقص كبير.
المهم أنه مرض ذهانى (أى مرض عقلى كما يحب الناس تصنيفه، بل إننى أفضل أن أسميه جنونا لمن يفهم علاقتى بالجنون)
التعرف على وجود هذا التاريخ العائلى الإيجابى للجنون بهذه الكثافة فى هذه العائلة هو أمر شديد الأهمية كبداية، لا لندمغ الأسرة بوصمة لا تنقصها، ولكن لأنه فى خبرتى قد يهم فى تحديد مسار المرض، وأيضا فى التكهن بمآله، ويساعدنا فى عدم التسليم وحسن التوقيت ومقدار الجهد المطلوب وأشياء أخرى!!!!! (الله يسامحك يا أميمة!)
(2)
….. فى تاريخها المرضى بإختصار (من الأرشيف): هياج ،كلام كثير غير مترابط، مزاجها فى معظم الأحوال غاضب، تتبول و تتبرز فى مكانها، ضلالات إضطهاد و تأثير وإشارة، هلاوس سمعية مهينة و آمرة، أعراض قهرية مثل تكرار غسيل اليد وإرتداء كميات من الملابس فوق بعضها حتى القفازات فى الصيف، ولم تتحسن أبدا على مر السنين بالعلاج الكيميائى.
هذه الحزمة من الأعراض حصلتِ عليها من الأرشيف، أعتقد أنه يصعب الحكم الدقيق على دلالتها إلا إنْ تحدد التاريخ ولو بالتقريب، لكنها بصفة عامة تدل على ما يسمى أعراض إيجابية Positive symptoms للفصام خاصة، ثم إنى توقفت عند قولك “أعراض قهرية فى هذه الحالة”، أنا أعلم أنك لا تقصدين الوسواس القهرى، ومع ذلك وجب التوضيح: غسيل اليدين برغم أنه يكثر فى الوسواس القهرى، إلا أن وجوده مع هذه الأعراض الذهانية الصريحة يجعله أقرب إلى التكرار الذهانى stereotype الذى يحدث دون وعى المريضة أو محاولة مقاومته أصلا.
أما أن يصل الأمر إلى التبول والتبرز فى مكانها، فهذا يدل على تدهور شديد من ناحية، (وقد يدل على حاجة أكثر إلى مزيد من العناية التمريضية والتأهيل الملاحِق، وهذا ليس فقط من باب النظافة، وإنما هو نوع من العلاقة العلاجية الرائعة التى أنصح الأطباء بممارستها وليس فقط التمريض).
ثم إن ما ذكرت يلفت النظر أيضا إلى أن غسيل اليدين هنا هو ليس من باب النظافة القهرية، لتناقضه الشديد مع التبول والتبرز فى مكانها.
ثم تثار قضية أخرى:
هل مجرد وجود أعراض إيجابية (مثل الضلالات والهلاوس) هو دليل على نشاط المرض مما يبشر بتكهن فمآل أفضل؟ أم أن تثبيت هذه الأعراض وتكرارها، هى هى، بنفس مصادرها ومحتواها، يمكن أن يعتبر علامة سلبية تلغى إيجابية دلالاتها كما اعتدنا؟
إن علينا ألا نكتفى برصد الهلاوس والضلالات، بل نبحث فى ثباتها والأهم فى تكرارها لنعرف أين نحن من مسار المرض وتوقعاته، ومن جمود الشخصية وتكساتها.
أما عدم تحسن المريضة على العلاج الكيميائى فهذا وارد ومتوقع بعد ثبات الحالة بما يشير إلى انتقالها إلى الشكل السلبى للمرض أكثر فأكثر، وهذا فى حد ذاته – عدم استجابتها للعلاج الكيميائى- قد يكون مدعما للفرض الذى طرحته حالا من حيث أن وجود الضلالات بهذا الشكل هو سلبى وليس إيجابيا، ومن ثم لا يمكن أن تستجيب لأية عقاقير بما ذلك العقاقير الأحدث العملاقية الثمن.
لا يوجد عقار يا أميمة يعالج الأعراض السلبية أصلا كما تزعم شركات الدواء، الذى يعالج هذه الأعراض ليس إلا التأهيل النشط المثابر – ومن ضمنه ما تقومين به – لفكّ التليفات والترسيبات الأسمنتية التى كلّست الشخصية وأماتت التلقائية وسحبت المريض إلى السراديب المظلمة كما تقولين
حين يأتينى مندوب شركات الأدوية الحديثة الباهظة الثمن ويزعم أنها تعالج الأعراض السلبية أقسم له أنه لا يعرف ماهى الأعراض السلبية (مهما عدد أسماءها كما حفظوه)، بل أؤكد له أن العالِم الجالس فى معمله فى سويسرا، أو على مكتبه فى النمسا، وكتب هذه التقارير التى يقدمها لى فى صورة الأبحاث التى هى، هذا العالم – غالبا- لم ير فى حياته مريضا فصاميا واحدا يعانى من أعراض سلبية (مثل مريضتك هذه)، وحين يستفسر منى الشاب بحسن نية، أفهمه أن هذا العالم ليس كاذبا أو جاهلا بالضرورة، لكن كل علاقته – غالبا- هى مع الأرقام التى تأتيه من هنا وهناك، والتى يحكم عليها من خلال حسابات الإحصاء ومعادلات الارتباط و ما شابه، بكذا وكيت، ثم يصدر حكمه العشوائى (العلمى!!!) دون ممارسة إكلينيكة مباشرة تتجاوز مجرد التعليم أمام خانة كل عرض بصح أو خطأ، أو بنعم أو لا ، أو بما يشبه ذلك. وقد أشفق على الشاب المندوب، فأضيف: لعلهم يا إبنى يقصدون أن هذا الدواء الذى ثمنه هو الشىء الفلانى قد يسمح لنا أكثر بتأهيل المريض ذى الأعراض السلبية، إذ يسمح لنا بذلك أكثر من غيره ذى الأعراض الجانبية المعيقة للتأهيل، فلا يفهم الشاب طبعا، ومعه حق، وقد أخفف عنه مازحا وأنا أقول له: إن الفائدة الحقيقية لهذه الأدوية هى أنها تحافظ على أن يستمر فى قبض مرتبه كل شهر.
المهم أن استجابة المريض أو عدم استجابته لعقار بذاته، تدعونى عادة إلى إعادة النظر فى مرحلة المرض، وفى طبيعته السلبية أو الإيجابية، وأحيانا فى تشخيصه حتى بشكل تقليدى.
q على فكرة أنا من أكثر الممارسين استعمالا لجرعات هائلة من العقاقير والجلسات المنظمة للإيقاع (التى يسمونها خطأ الصدمات الكهربية)، تكاملا مع العلاج الجمعى للذهانيين طول الوقت، ويمكنك الرجوع يا أميمة إلى وثيقة” العلاج التكاملى من منظور تطورى، من منطلق العلاج الجمعى، مع الذهانيين خاصة “ وإن كانت فى شكل شرائح PP فحسب.
(3)
….. منذ سنوات قليلة ما تبقى من هذه الأعراض: العزلة و الإنطواء، ضلالات إضطهاد بقصص بعينها لا تتغير ناحية أناس بعينهم لا يتغيرون، تنكر أى هلاوس، منظمة ونظيفة، كلامها قليل وليس لديها لا أفكار ولا قصص تحكيها سوى تلك ما يخص ضلالاته وهى تكررها بلا ملل (هذه القصص تكررها منذ 1982) مشاعرها ضحلة بدرجة كبيرة إلا حينما تحكى عن مضطهديها فهى تتنهنه و كأنها تبكى وتأخذ صورة الضحية
هنا هو،
انغلق عالمها الداخلى على ضلالاتها هى هى، بعد أن انفصلت عن العالم الخارجى فلم تعد نشطة كما تبدو ظاهرا، وهى تتكرر منذ أكثر من عشرين عاما، فأين الإيجابية فى هذه الأعراض التى أصبحت مثل عواميد خرسانية داخل التركيب البشرى المندمل باضطراد.
أما كونها عادت نظيفة فهذا أيضا ليس دليل تحسن فى ذاته، بل قد يكون دليلا على استقرار المرض، تماما مثلما تعود العادة الشهرية للانتظام لبعض المريضات بعد أن تكون قد ارتبكت فى أول المرض، تعود للانتظام برغم استمرار المرض النفسى وتفاقمه، فنعتبر أن عودة العادة إلى انتظامها هو دليل على أن التكهن بمسار المرض صار أسوأ، باعتبار أن هذا دليل على أن الوظائف الفسيولوجية قد استقرت على الوضع المرضى، وانتظمت تحت مظلته
أما أن مشاعرها ضحلة فهى كذلك كما تبدو لنا فعلا، وأنا لا أستثنى نهنهتها من الضحالة المزعومة حتى لو هطلت الدموع من عيونها مدرارا، هذه النهنهة المرتبطة بالحكى عن مضطهديها قد تكون أكثر ضحالة من تبلد الظاهر، أو من ابتسامتها الفاترة الغامضة.
وبالرغم من كل ذلك علينا أن نراجع هذه الأحكام المتسرعة بالحكم على وجدان مريض ما بالتبلد مهما بدا عليه ذلك، الفصامى يسحب وجدانه إلى الداخل بكل ثقة وتحد، باعتبار أننا – فى العالم الخارجى- لا نستأهل منه أن يمنحنا أية مشاعر ظاهرة أو صادقة، ويمكنك يا أميمة أن تراجعى فرض د. أسامة عرفة يوم الجمعة الماضى “يومية حوار/بريد الجمعة” وردى المقتضب عليه. أنا أميل إلى رفض ما يسمى فقد المشاعر apathy فلا أحد يفقد مشاعره إلا بالموت، وربما هو لا يفقدها حتى بالموت.
(على فكرة يا أميمة، يبدو أننى قد أعدل عن هذه الطريقة فى الرد بعد أن تشعبت منى هكذا، ربما الآن وأنا أكمل التعقيب، أو ربما فى الحالات القادمة لأننى أشعر أننى قد أقول الطب النفسى كله فى حالة واحدة)
(4)
…..أعالجها منذ سبعة أشهر وأدخلتها العلاج الجمعى منذ ستة أشهر.
(ف) مهذبة بشكل يغيظنى أنا شخصيا، فتهذيبها أشبه بالقناع الخائب الذى تلبسه بمناسبة وبدون مناسبة، وهى لا تشكو ولا تتكلم عن نفسها أبدا وإنما تشكو بالنيابة عن أختها المحجوزة معها فى المستشفى وتدعى دائما أنها تقوم برعايتها.
فى العلاج الجمعى أشعر أنها قابعة وحدها فى سرداب عميق، لايصلها صوتنا، وبالتالى لا تشترك فى الحديث، إذا كررت لها كلامى ربما يصلها منه كلمة أو اثنتين فترد بإجابات لا معنى لها المهم أن تكون مهذبة جدا.
منذ أرسلتِ إلىّ أول رسالة يا أميمة، وأنا معجب بتجربتك فى العلاج الجمعى، ومحاولتك تدريب نفسك بكل هذا الإصرار والصبر (والحب للناس ولمهنتك)، وأظن أننى قلت لك أنه ليس عندى أى اعتراض على أن يعلّم الواحد نفسه، وأن يتخذ من نتائجه ومرضاه وضميره مشرفا على نفسه, وأن ذلك جدير بأن يجعله يتقدم باستمرار، وأذكر اننى ذكرت بعض مثل ذلك فى تقديمى لباب “الإشراف عن بعد“، ربما بشأن تصنيف أنواع الإشراف (لست متأكدا وسوف أعود لليوميات)،
المهم الآن أننى أنتهز الفرصة لأقول لك إن العلاج الجمعى الذى أمارسه هو مع الذهانيين أيضا، لكنهم ليسوا مزمنين إلى هذه الدرجة، ولا هم سلبيون غالبا. حتى الذهانى (الفصامى خاصة) الذى يبدأ العلاج الجمعى سلبيا قد يحتاج شهورا من الصبر والتحريك وزجزجة (من zigzag ) النيورولبتات neuroleptics بشكل عنيف حتى يتحرك تركيبه الذى تكلس وتجمد، ثم حينئذ يبدأ التداخل الشط أكثر فأكثر. لهذا فقد تعجبت لك من أول لحظة، وربما أعجبت بك، وأنت تمارسين العلاج الجمعى بهذا الصبر مع المزمنات الذين أغلبهم فصاميون على ما أعتقد، هذه مهمة إما أن تكون تسكينية سلوكية غالبا، وإما أنها تحتاج لجرعة من النبوة لا أستبعدها على أى أحد، إن كان يهدف من عمله أن يحيى نفسا بوجه حق فكأنما أحيا الناس جميعا، ربنا يعينك يا رب.
كون المريضة مهذبة لا تشارك، لا يعنى أنها لا تشارك فعلا، ثم وجود المريضة بتشخيصها الذى ذكرتيه يا أميمة هو دافع لك حتما للتعرف على التركيبة الجينية لهذه الأسرة، وهو قد يضيف إلى آليات علاجك شيئا ما،
وأنا لا أستطيع أن أطيل فى هذه النقطة لأن المعلومات لا تسمح.
(5)
….إحدى الجلسات كانت قوية و صادمة للمريضات فقد وصلهن أن عليهن نوعا من مسئولية إختيار إستمرار المرض من عدمه ، وكان رد فعل الجميع: قدرا متفاوتا من المقاومة والعدوانية السلبية تجاهى وعلى مدى أيام كاملة، إلا (ف) لم يبد عليها اى تغير هذا اليوم.
طمأنتنى هذه الفقرة كثيرا على أن ما تمارسينه ليس مجرد تسكين أو تعديل سلوك، فالوصول إلى مرحلة تفعيل الوعى بدور اختيار المرضى لما هم فيه، أى للحل المرضى – دون اتهام – ومن ثم التوعية بدور الإرادة فى اختيار الصحة، هذه المرحلة الرائعة التى تبدو لغير الممارس أننا نظلم فيها المريض إذ نحمله مسئولية مرضه (ومن ثم مسئولية شفائه) هى دليل رائع على المستوى الذى تمارسين به هذا النوع من العلاج.
ثم إن ما ظهر على بقية المرضى من مقاومة وعدوانية وسلبية تجاهك، هو دليل آخر على صحة توجهك عامة
ثم إن عدم ظهور أى تغيير على مريضتنا (ف) بالذات مثل زميلاتها، ليس دليلا على أنه لم يصلها شىء، بل لعله دليل على العكس كما حدث من تسلسل الأحداث بعد ذلك.
(6)
…. فى اليوم التالى أخرجها أخوها من المستشفى دون علمى، بعد 10 أيام أعادها – لا أعلم لماذا- فى عدم وجودى أيضا، كل ما أعرفه أنها لم تتناول دواءها طوال هذه المدة. المريضة لم تتغير صورتها ولكن فى العلاج الجمعى فوجئت بـ (ف) أخرى: منتبهة، خارج السرداب تماما، لها رأى ليس بالضرورة مهذبا، ويا للعجب .. تأخذ أدورا فى المينى دراما. ما زالت مشاعرها إلى حد ما ضحلة (وإن كنت ألمح شرارة غضب ولغة جسد متحفزة لا تزيد عن ثوان معدودات إذا ما حاصرتها مريضة فى الحوار)، وكلامها ليس كثير ولكنها لم تعد تنكر أن لديها هلاوس… هذه الصورة داخل المجموعة العلاجية فقط وليس بين الآخرين فى القسم
لا ..لا..لا..هذا علاج جمعى حقيقى محترم،
إن رصدك لخروجها من السرداب بهذه الصورة، التى قد تعد سلبية بالقياس الأخلاقى التقليدى، ورصدك لتحرك مشاعرها ، ولو ثوان، بما يشمل ملاحظتك تعبير الجسد عن الغضب والتحفز لهو رسالة واضحة أن التغير الذى يحدث لمرضاك – ولك– من خلال مثابرتك العلاجية هذه هو تغير نوعى بالضرورة.
ثم لعلك تلاحظين كيف أنك رصدت – بمهارة إكلينيكة متميزة – تحسنها بظهور الهلاوس (أو العودة للاعتراف بوجودها) واعتبرت ذلك تحسنا (عكس ما يفرح به عامة الأطباء حين تختفى الهلاوس دون أن يلاحظوا لماذا اختفت، ولا أين، ولا على حساب ماذا؟ المهم أنها اختفت تحت أى حاجز خانق، أو دواء كاتم، وحلت محلها – ربما – أعراض سلبية غالبا ..إلخ).
كما وصلنى أيضا أنك اعتبرت خروجها عن فرط التأدب الزائف هو أيضا دليل تحسنها حتى لو بدت غير مهذبة مرحليا.
أعتقد أنه من حسن الحظ أن هذه المريضة خرجت دون علمك هذه الأيام العشرة، والأرجح عندى أنهم لو كانوا استشاروك فربما كنت أجلت خروجها بعض الوقت نظرا لأنه لم يظهر عليها أى تغير فى الجلسة الأخيرة مقارنة بزميلاتها، أو ربما حرصا على الاطمئنان على حسن توقيت خروجها بعد إعداد مناسب،
عدم أخذها الأدوية أثناء هذه الأيام العشرة ليس أمرا جيدا نصفق له دون تحفظ حتى لو اعتبرنا أنها تحسنت، لكنه أمر له دلالته فى مفعول هذه الأدوية إذا دامت حتى أخمدت كل شىء، بما فى ذلك قرار الشفاء (لهذا كثيرا ما أستعمل طريقة الزجزجة كما ذكرت ، أعطى وأوقف، ثم أعطى وأوقف باستمرار)
مثل هذه الصدف الطيبة التى حدثت لمريضتك أضافت إلى علمنا ومهنتنا الكثير، كما أن مثل هذه الملاحظات الدقيقة أنارت قضايا ما كانت تبدو بهذا الوضوح لولا التفتح التجريبى المثابر مثلما تفعلين…
(7)
الآن السؤال: ماذا حدث لمريضتى؟ ما الذى غيرها فى 10 أيام.
يقولون لى وماذا يهمك فى سبب تغيرها المهم الإستجابة. نعم .. ولكننى مرتبكة؟
تعلمين يا أميمة أن اسم الفصام Schizophreniaصكه بلويلر Bleuler وأعلنه فى العقد الأول من هذا القرن، ليحل محل الاسم الذى كان يستعمل أيام كريبلين والذى أطلقه موريل على هذه الحالات وكان “العته المبكر” Dementia Precox حدث ذلك نتيجة ملاحظات كالتى ذكرتيها الآن فى حالتك.
مثل هذا الذى حدث لمريضتك لاحظ بلويلر على مرضى كان تشخيصهم العته المبكر (لأنه يبدأ مبكرا فى سن مريضتك تقريبا، سن المراهقة)، وأنت تعرفين أن العته هو تدهور عام فى الشخصية، خصوصا فى القدرات المعرفية، تدهور لا رجعة فيه وإلا لما سمى عتها، لما لاحظ بلويلر هذا التحسن على مرضاه بعد عشرات السنين قكر أنه: مادام المرض قد تحسن حتى الشفاء أحيانا بعد كل هذه المدد هكذا، فهو ليس عتها، فراح يبحث له عن اسم آخر وصك له اسم الفصام Schozophrenia: وكان يعنى أن المخ انفصم ولكنه لم يتدهور إلى غير رجعة، وأن ما انفصم يمكن أن يتجمع، وقد كان، وقد أثبت كل ذلك فى كتابه المرجع حتى الآن وأصدره سنة 1911، ، ثم بدأ الاسم الجديد “فصام” يصبح أرضا بلا صاحب، فيدخل العامة (وأهل الدراما) فيه ازدواج الشخصية، أو يصفونه كأنه تقلب الطباع من أقصاها إلى اقصاها، حتى جاء التقسم الأمريكى الرابع بأسخف المحكات وأسطحها التى تسمح بدخول الصورة الإكلينيكية ونقيضها تحت نفس الاسم…إلخ
الذى حدث أن بلويلر لاحظ التحسن الفجائى لهذه الحالات بعد عشرات السنين من المرض إثر تغيرات بسيطة غير مفسرة مثما حدث فى حالتك هذه، مثلا : تغيير العنبر، تغيير الممرضة، الخروج فى إجازة، (مثل حالتك)، كل ذلك أدهشه حتى تأكد أنها ليست مسألة عته، بل هى إجازة طويلة من “الواحدية ONENESS (أن أكون واحدا فى لحظة بذاتها) ، تلك السمة الأساسية المسئولة الواجب توافرها حتى يمكن لأى شخص أن يقوم باتخاذ قرار ما، وأن يتفاعل ككل واحد فى وقت بذاته..إلخ.
هذا من الناحية التاريخية، علما بأن بلويلر لم يضع تفسيرا واضحا لمثل هذا الذى حدث، ولاحظه، لكنه استلهم منه هذا التحول الجذرى فى مفهوم هذاالمرض.
بالنسبة لحالتك فالأمر مرتبط – ولو جزئيا ، بالجلسة المتحدية السابقة لخروجها، طبعا بعد التمهيد الطويل بجلسات سابقة ورعاية ممتدة، أوصلت للمريضة الرسالة التى تحدثتِ عنها، حتى لو لم تتفاعل المريضة بحرف واحد، الرسالة تقول لها (وللأخريات) : إنك تستطيعين أن تختارى الصحة بعد أن فشل الحل المرضى هكذا، هيا وإلا …..
اختيار المرض، وبالذات الفصام، يسمى “الحل المرضى”، وهو اختيار فعلا لكنه اختيار على مستوى آخر من الوعى، وتقريب ذلك إلى المريض بأسلوب علاجى فى الوقت المناسب هو فن جيد، لأنه ينبغى ألا يكون فى صورة اتهام له، بل هو غاية الاحترام ودعوة للعودة.
لا شك أنك يا أميمة تعرفين “ألفرد أدلر” تلميذ فرويد الذى انشق عنه هو وكارل يونج، لقد استلهم فكر أدلر أحد أتبعاه من المحدثين “نسبيا” اسمه شولمان Shulman وكتب كتابا رائعا اسمه “مقالات عن الفصام”، Essays on Schizophrenia وصف فيه كل طور من أطوار الفصام على لسانٍ يتكلم من داخل المريض، ووضع ذلك ببنط مائل فى هامش واسع طول الكتاب حتى يثبت أنه اختيار منذ البداية، ,
أصور لك بعض الهوامش البداية بصورة كاريكاتيرة مصرية هكذا،
يقول داخل المريض مثلا (فى البداية):
– لأ مش لاعب
– عن إذنك أن راجع إلى قوقعتى
– ماذا أفادنى واقعكم؟
– أنا أتنازل عن نفسى ذاتها حتى لا تذلونى
…إلخ
وقد كنت أستعمل هذا الأسلوب أحيانا ومن البداية مع بعض مرضاى، حين يدور حوار بينى وبين مريض فصامى منذ سنوات أرسمه “شرحا مبسطا أيضا ” (وليس بالنص طبعا) ، على الوجه التالى:
= مش كفاية كدة
– كفاية إيه؟
= ما هى ما نفعتشى
– لأ نفعت.
= بذمتك؟؟؟!
– يعنى
= ما شبعتش مرض؟
– شبعت بس ما فيش حل تانى
= طب ما نجرب يمكن
– حيـعكمونى أدوية
= الشىء لزوم الشىء ولو فى البداية
– وانا إيه ضمّنى
..إلخ
طبعا هذا الحوار لا يدور هكذا بالضبط، ولا هو يدور فى جلسة واحدة، وحين يشاهدنى من لم يعتد مثل ذلك ، يتصور أننى والمريض نتكلم ألغازا.
الأرجح عندى يا أميمة أنك مهدت لمثل ذلك مع مريضاتك حتى وصلت إلى تلك الجلسة التى سمحت لك بما ذكرت.
ثم إن ما قالوه لك (ربما زملاؤك وؤبما المرضى) هو صواب تماما، حين قالوا: “وماذا يهمك فى سبب تغيرها المهم الإستجابة“
هذه القاعدة البسيطة هى أساس ما يسمى “الممارسة الإمبريقية” التى هى أساس الطب النفسى، بل الطب كله، قبل أن يتشوه على أيدى شركات الدواء والعلم التعليلى الكيميائى الزائف، و أيضا على يد سوء فهم فرويد والتركيز على السببية الحتمية بديلا عن الجارى هنا والآن إلى أين ….،
(ولهذا حديث آخر طبعا).
(8)
…. كانت رؤيتى واضحة إلى حد ما، ثم تغير كل شىء ولم تعد لى رؤية واضحة، وكأننى أفقت فوجدتها فى يدى ولا أعلم أين أذهب بها.
فهل تقترح على ما يربط لى الصورة ببعضها…
الذى يربط الصورة ببعضها أتصوره على الوجه التالى:
- إنك الآن أقرب إلى الفهم عنك من أيام أن كانت رؤيتك واضحة (أعنى أيام أن كنت تعتقدين أن رؤيتك واضحة)
- إنه قد وصل لمريضتك منك، ومن زميلاتها، رسائل كثيرة كثيرة، وهى رسائل صامتة متسحِّبة حتى لو كات المريضة لا تتفاعل بنشاط، وصلت هذه الرسائل فى اتجاه إعطائها بصيرة فى احتمال استعادة قدرتها على اختيار آخر (الصحة، أو الطريق إلى الصحة) بعد أن أبلغتها المجموعة بقيادتك أن ذلك ممكن، حتى لو كان يشمل ضمنا اتهام بأنها سبق أنها اختارت المرض، وهاهو قد ثبت أنه اختيار خائب، أن ثمنه باهظ.
- إن هذا التراكم الذى لم يظهر أبدا فى صورة سلوك يمكن رصده علانية قد تجمع بشكل خاص فى تلك الجلسة الأخيرة قبل خروجها
- إن المصادفة التى ألقت بها إلى الواقع حين أخرجها أخوها دون علمك – أحسن– جعلتها فى مواجهة ما سبق أن رفضته بالمرض، كما أعفتها لبعض الوقت من سجن الدواء (برغم ضرورته من حيث المبدا) وهى إما أنها قد اكتشفت أن هذا الواقع الخارجى ليس بهذه البشاعة التى صورها لها المرض، أو أنها اكتشفت أنها اصبحت أقدر على مواجهته والتعامل معه كما تعلمت فى العلاج الجمعى (وغير الجمعى)
- إن تعبيرك “فوجدتها فى يدى ولا أعلم أين أذهب بها” هو تعبير أدبى جميل، لكنه يدل على أن مهنتنا (الحقيقية) هى فن أصيل، إن العلاج النفسى هو نقد النص البشرى إبداعا مع فارق أن النص البشرى، بعكس النص الأدبى، يشارك فى النقد بنفسه لإعادة الإبداع،
وبعـد
فأظن أن عليك يا أميمة أن تتصورى أن هذا كله لا يشير أو يؤكد بأى درجة موضوعية أن هذه المريضة قد شفيت أو سوف تشفى بعد كل ذلك،
مريضتك يا أميمة لا تحال إلى المعاش فى سن الستين، بل هى تعاد إلى المعاش فى هذه السن، أبشرى.
أنا معتاد على الإحباطات منذ واحد وخمسين عاما، والعقبى لك،
ولكن كما ترين، الإحباط مهما بلغ تواتره، غير قادر على إلغاء الحقائق لحساب التجارة والتسطيح والعلم الزائف.
أليس كذلك؟