“يومياً” الإنسان والتطور
8-4-2008
العدد: 221
الصحة النفسية و”الأيديولوجيا المفتوحة”
كانت ندوة جمعية الطب النفسى التطورى – (مستشفى دار المقطم للصحة النفسية) 4إبريل 2008 حول نشرتىْ الإنسان والتطور يومى 23 & 24 مارس 2008 ) فيهما قدمنا موجزا لموقف عدد من مدارس علم النفس حتى سنة 1980، من تحديد “ماهية الإنسان”، و“مفهوم الصحة“، ثم “مفهوم المرض”، وبالتالى “كيف العلاج“، وقد أنهينا اليومية الثانية “مدارس ومدارس” بهذا التعقيب:
(1) إن مزيدا من المدارس يمكن أن تزداد في كل مجموعة أو في مجموعات منفصلة
(2) إنه يمكن إعادة تنظيم وجدولة النظريات بعدة طرق أخري
(3) إن ثمة اتفاق عام يشمل أغلب النظريات (لا كلها) يؤكد على قيم مشتركة مثل : التوازن (الداخلي) ، والتكيف (مع الآخر)، وتحقيق الذات، واستمرار النمو .
(4) إن كل ما قدمنا ليس إلا مجرد عينات، والمقصود هو التنبيه على المبدأ الذى ذكرناه أمس واليوم من حيث استحالة فهم المرض النفسي، ومن ثم ممارسة التطبيب النفسي، بدون نظرية (ولو لا شعورية) ، وأن ادعاء ذلك هو من أخطر ما يكون على الممارسة.
(5) إن تبنى نظرية ما لا يعنى الاعتقاد فى أيديولوجية ساكنة، وإنما هو اعتراف بالموجود – كبداية- وهو قابل للتحور والتعديل والتطوير من خلال الممارسة.
(6) إن من يتنازل عن فكرة الاستهداء بنظرية ما بدرجة ما من الوعى، إنما يستسلم لنظرية خفية، يديرها هو دون أن يعلم، أو يدار من خلالها من وراء ظهره (عادة لغير صالح المريض، ربما لصالح شركات الدواء).
(7) إن بعض أبجدية بعض النظريات يمكن أن تترجم (بتحفظ) إلى أبجدية أخري
(8) إن الانتقائية تتسع وتنشط كلما زادت مساحة الإلمام بعدد أكبر فأكبر من النظريات
(9) إن الانتقائية ليست هى التلفيقية، بل هى تكاد تكون نقيضها كما أشرنا، وهي تحدث تلقائيا من جانب الممارس صاحب الخبرة.
وقد جاءت التعقيبات لبريد الموقع إيجابية أكثر من اللازم (أو على الأقل : أكثر من توقعى)، بمعنى أن أغلب الذين عقبوا قالوا ما معناه أن هذا الإيجاز وهذه المواجهة قد أوضحا ما كان غامضا وملتبسا، وأن ذلك مفيد، وقد سهّل عليهم الأمور.
راجعت نفسى قبل بداية الندوة، وكنت المكلف بتقديمها، فشعرت بخطأ ما، أو خطر ما، خاصة بشأن ما جاء فى بند (5) و(6) و(9) من التنبيه على خطورة تبنى المعالج أيديولوجية ساكنة، أو الزعم بالحياد المستحيل باعتباره لا ينتمى إلى أى موقف أيديولوجى، محدد, وأيضا إلى ضرورة التفرقة بين التلفيق والانتقائية.
تجربة:
فى بداية الندوة قمت بتجربة محدودة مع الحضور من أطباء، ومعالجين، وغير ذلك، على الوجه التالى:
وزعت على الجميع – من قرأ النشرتين ومن لم يقرأهما- استبيانا عن الموضوع ليثبت كل منهم، موقفه الآنى من هذه المفاهيم، دون الالتزام – ماأمكن ذلك- بالرجوع إلى مرجعية محددة، حفِظَهَـا أو سمِعَهَـا، وذلك فيما لا يزيد عن ثلاثة أسطر، على الوجه التالى:
الإنسان هو:
…………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………. …………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………
الصحة النفسية هى:
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
المرض النفسى هو:
…………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………. ………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………….
العلاج هو:
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(فكرت الآن أن أدعو من يشاء من زوار الموقع للمشاركة فى مثل هذه الإجابة الفورية، وياليتنى أضيف لهم ما يلى :
فى مدة لا تزيد عن ثلاث دقائق ما أمكن ذلك، مع تذكر تجنب الرجوع إلى مرجعية نظرية يعرفها مسبقا.
والدعوة عامة، بمعنى أن الامر معروض على المعالج، والطبيب، والمريض، والسليم على حد سواء
لعبة مقترحة، والدعوة عامة أيضا:
ثم إنه قد خطر ببالى الآن أن أعيد صياغة الاستبار لزوار الموقع على شكل لعبة من ألعاب “سر اللعبة” ، لعبة لم تخطر على بالى من قبل، وإليكم التجربة بصفة مبدئية:
(أكمل ما يلى من فضلك، كتابة سريعة، أو تسجيلا بصوتك ثم فرّغه وأرسله لنا ، شكرا)
- أنا رأيى هو إن البنى آدم (الإنسان يعنى) باختصار هو يعنى …………………..
- عشان الواحد يبقى بنى آدم (يعنى إنسان يعنى) بحق وحقيق الأصول ………..
- الإنسان الصحيح نفسيا هو إللى …………………………………………………
- ما هو الصحة النفسية حاجة نسبية برضه، بس يعنى أنا ………………………
- أنا أعتبر نفسى مريض نـَفسى بصحيح لمّا ……………………………………..
- ما هو كل الناس مرضى نفسيين ، أنا قصدى ………………………………….
- يبقى بقى العلاج لازم يكون ……………………………………………………..
- بصراحة حكاية المرض النفسى دى بقت يعنى ………………………………….
- طب هما الدكاترة النفسيين بجلالة قدرهم هما يعنى …………………………….
- لا يا عم المرض النفسى حاجة تانية خالص، قصدى إنه ……………………….
لم نعرض هذه اللعبة فى الندوة،
وقد كتبتها لتوى (فى انتظار اقتراحاتكم وتعديلاتكم)
استجابات المنتدين وانطباع مبدئى
لم أقم بعد بتفريغ الاستجابات التى جمعناها فى الندوة، وإن كنت قد قلبت فى الأوراق ووجدتها – كالعادة – أكثر دلالة مما كنت أتصور وأفترض.
ذلك أننى رجحت افتراضا:
- أن كثيرا من الإجابات قد تعتمد على مرجعية نظرية (وهذا لم يحدث غالبا)
- وأنها سوف تتأثر بالذاتبمقولات دينية تقليدية أو رسمية، (وهذا لم يحدث غالبا)
- وأنها سوف تميل إلى المثالية (وهذا لم يحدث غالبا)
وسوف أعود – فى الأغلب – إلى تحليل النتائج تفصيلا فيما بعد.
تحذير
حذرت فى بداية الندوة بوضوح من عاقبة تبنى هذا الموقف التنظيرى مسبقا الذى يحدد ماهية الإنسان بالذات، فأشرت إلى ما ما جاء فى البند (5) من التعقيبات، مؤكدا أن من يمارس الطب النفسى أو العلاج النفسى، وعنده مفهوم محدد عن الإنسان وما ينبغى أن يكونه ليكون سليما نفسيا، هو داعية أو مصلح أو ربما سياسى حتى، وهذا من أخطر ما يكون على الممارسة الطبية النفسية.
قلت بعد ذلك أنه يبدو :
- أن علىالطبيب والمعالج أن يركز على ما دفع المريض (هو أو أهله) أن يأتى لاستشارته.
- وأن تقصر مهمته على مساعدة المريض على التخلص من معاناته أو إعاقته، لا أكثر ولا أقل.
- وليترك المريض بعد ذلك، كما كان قبل ذلك، يدبر أموره بطريقته، وقيمه، ومنظوماته.
- وأن هذا هو المعنى الحقيقى والعملى للحياد المهنى.
لكننى عدت وتراجعت، فى الندوة، وقمت بمناورة “نعم….. ولكن…..” هكذا:
“نعم” على الطبيب النفسى ألا يفرض بطريق مباشر أو غير مباشر أيديولوجيته – الظاهرة أو الخفية (!!!؟؟؟) على المريض، ولكن عليه أن يلاحظ تأثر مريضه بالأيديولوجيا السائدة (فى الإعلام وأيضا فى المجتمع العام، وكذلك فى الوسط الطبى والعلاجى) لخدمة أغراض أخرى غير صحة المريض وسلامته،
كذلك عليه أن يضع فى اعتباره، مع وبعد التخلص من الأعراض، ما يراه مناسبا للصحة من حيث “نوعية الحياة”، كما يراها المريض، وأيضا كما يراها الطبيب بعيون المريض بشكل ما، وذلك لكى يساهم فى “منع النكسة بشكل أو بآخر”.
الحيرة تزداد
وجدت نفسى قد وضعت الحضور ونفسى فى حيرة أكبر
- إذ كيف يعرف المعالج “أيديولوجيته” الكامنة فى لا شعوره؟ (خاصة إذا ارتبطت بموقف دينى تقليدى جاهز لم يخترْه، وربما لم يختبرْه) ؟
- وكيف يمكن التوفيق بين موقفه الأيديولوجى المعلن (حتى لو زعم موقف الحياد) وبين الموقف الأيديولوجى الكامن الفعّال طول الوقت ؟
- وكيف يمكن أن يحدد ما يسمى “نوعية الحياة” دون أن يحدد موقفه من ماهية الصحة الإيجابية وما هو (من هو) الإنسان؟
- ومن الذى يضمن أن شركات الدواء – بكل عنفوانها وضغوطها(وهى تمثل –مثلا- اللوبى الثانى فى الكونجرس الأمريكى المؤثر فى السياسة والحروب قبل الصحة والمرض)، من الذى يضمن أن تفرض هذه الشركات وعلماؤها (بوعى أو بدون وعى) على كل من المريض والطبيب أيديولوجيتها التى لا تخدم إلا مزيدا من المكسب الذى يصب فى جيوب وكروش من لا يهمه الأمر، على حساب من تهمه الصحة والبنى آدميين(1).
مرحلة ضرورية، ومستمرة :
بعد كل هذه التساؤلات والتحذير والحيرة، استنتجنا أن كل ما علينا، كأطباء ومعالجين، ولو مرحليا، أن نكتفى بالتركيز على “ماهية الصحة النفسية” دون التعرض “لماهية الإنسان”، أو حتى “لنوعية الحياة“،(إلا فيما يتعلق بمنع النكسة) ، وذلك حتى إشعار آخر،
وفى نفس الوقت علينا أن نحذر من تلك الأيديولوجيات التى تفرض علينا، تحت عناوين ليست بالضرورة طبية مثل “العولمة”، بل عناوين تبدو أحيانا تنويرية إنسانية مثل ما شاع عن “حقوق الإنسان” (المكتوبة) وليست حقوقه الحقيقية أو الكاملة..إلخ
علينا أن نحذر من كل ذلك،من حيث أن أغلبها قد تكون أيديولوجيات منحازة إلى القرش لا إلى الحياة ولا إلى الإنسان.
نحن – كبشر أيا كان موقعنا معالجين أو مرضى- مسئولون عن ذلك بشكل أو بآخر أمام ضمائرنا، ومن ثم أمام الله إلى غاية الوجود ، إليه.
الإيمان بالغيب والأيديولوجيا المفتوحة:
رؤية أخرى خطرت لى من خلال هذه الحيرة وذلك الحوار:
كنت دائما أفهم الإيمان بالغيب، وأوصل فهمى هذا لمن يريد، باعتبار أنه الباب الواسع لتجدد الإبداع ، وليس كما شاع، للتسليم بالخرافة
خطر ببالى الآن أن الإيمان بالغيب يشمل كذلك ما يمكن أن يسمى “الأيديولوجيا المفتوحة”، حتى لو بدا فى التعبير مغالطة أو تناقضا، فأنا أعنى به ما يلى:
- ما دام أى إنسان لا يمكن أن يعيش إلا وفى داخله (يتجلى او لا يتجلى فى خارجه) ، برنامجٌ ما، يحدد خطواته وأهدافه وطريقه فى مرحلة ما،فعليه أن يقبل ذلك ويجتهد فى التعرّف عليه دون تعسف أو تعصب أو جمود،
وهذا ما يخص الكلمة الأولى “الأيديولوجيا”
- وما دام الإنسان – فى نفس الوقت – كائن ينمو باستمرار، ومن ثم يتغير باستمرار، فعليه أن يسمح لموقفه السالف الذكر (تحت اسم الأيديولوجيا) أن يتحرك بمسئولية لا تقل أبدا عن ما يسمى الحرية أو الاختيار، أن يتحرك فاتحا وعيه لكل الاحتمالات
وهذا ما يخص الكلمة الثانية “المفتوحة”
هل هى مدارس علم نفس؟
أثار البحث فى هذه القضية (القضايا) تساؤلا يقول:
هل هذه المدارس التى عرضناها، وناقشناها، وسنعرضها ونختلف حولها، هى مدارس علم نفس ، أو طب نفسى (الإمراضية النفسية Psychopathology) أم فلسفة؟ أم غير ذلك؟
هذا ما سنراه معا قريبا
ملحوظة :
كنا قد أشرنا إلى أن هذه المداس تمثل بعض الموجات المتلاحقة والمعاصرة حتى سنة 1980 ، وقت كتابتها الأولى،
فماذا حدث منذ ذلك الحين وحتى الآن؟
وهل ثم مدارس أخرى يجدر بنا التنويه عنها ولو بنفس الإيجاز؟
وصلتنى مداخلة بهذا الشأن أرجو أن نعرض لها غدا.
[1] – لتوضيح هذا الموقف عدت فذكرت الحضور بما أستشهد به كثيرا لشرح هذا الموقف الخبيث، حين أضرب مثلا بحكاية التحكيم بين عمرو بن العاص وأبى موسى الأشعرى، – بالرغم من شكى فى مدى مصداقية تفاصيل هذا الحدث – وذلك أنه بعد أن خلع أبو موسى علياً رضى الله عنه، ثبّت عمر بن العاص معاوية فى موقعه خليفة بغير سند إلا لعبة أطفال لا تصدق)، وقياسا قلت كيف نتخلى نحن عن أيديولوجية نتصور – أو نتيقن – أنها الأصلح لنا وللمريض، وأنها الأكثر أمانا، والأطول عمرا، وإذا بنا نجد أن شركات الدواء بكل ثقلها وإعلامها وضغوطها، ورشاواها، بالعلم الزائف والعلم الغافل، تواصل فرض أيديولوجيتها (إحدى النظريات الأربع والعشرين) على مجتمع الطب والعلاج عامة؟