الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / تعتعة: برغم كل الجارى، مازال فينا: “.. شىءٌ مـَا”

تعتعة: برغم كل الجارى، مازال فينا: “.. شىءٌ مـَا”

“يوميا” الإنسان والتطور

24-5-2008

العدد: 267

تعتعة

برغم كل الجارى، مازال فينا: “.. شىءٌ مـَا

ضد كل الجارى حالاً : حولنا، وبنا، وعلينا، ضد هذا الواقع المؤلم المزعج المنذر المخيف، أطلت علىّ عيون مصرية: طفلة، وشاب، وفلاح، وعامل نظافة، ومجنون. كل تلك العيون قالت “لا”،… و”لكن…”: “هناك شئٌ ما” لا ترونَه أيها العميان الجبناء. نفس الكلمات قيلت فى نفس اللحظة. هذا الشئ ليس جديداً علىّ، سمعته من “خواجاية” محجبة اختارت أن تعيش فى مصر جداً، فهمته منها دون أن تقوله ردا على تعجبى من أنها تترك بلادها الحرة جداً، لتعيش معنا، ونحن “هكذا”، ورأيته فى شعر الأبنودى، وتشكيلات وتاريخ أحمد نوار، وتقشف وصوفية رمضان بسطاويسى، وابتسامة وقبلة هالة عزب، وتعقيبات وحضن هالة نمر، وطيبة غباء إبراهيم السهران، ونبض شعر عبد الصبور، وآلام ابنته، وفى كل نجيب محفوظ،، وفى صوت “نور” وهى تنادينى لأول مرة “جدى”، وفى أمانة حافظ عزيز، وفى طفولة واندفاعات ابراهيم عيسى، وصوت دقّات حذاء كلاكيت “هنَاَ” محمد الرخاوى، ورقص وغناء أطفال الأوبرا، ومثابرة وذكاء خالد صقر، وعناد وتدين مها عصام، وعند بائعة “الخضار” على الناصية، وفى حِجر ثوب زوجة البواب، وفى لؤم منادى السيارات، وخبث الولد الشقى يبحث عن كرته فى شرفة جارتنا. كما سمعت حفيف احتكاك هذا الشىء على طول كل الطوابير، وفى جوف أنين الأطفال يتقلبون جوعا قبل أن يغلبهم النوم، سألت نفسى سرًّا: هل مازال “هذا الشىء” موجودا حقيقة، أم أننى أصبّر نفسى؟

شىءُ ما فى داخل داخل هذا الشعب يدعو للحمد والتفاؤل برغم كل الجارى، والذى سيجرى، نعم هو نفس الشئ الذى أطلّ علىّ من تعقيبات وتساؤلات، وتداعيات الأصغر على نشرة ” الإنسان والتطور” اليومية فى الموقع الخاص بى،  وهو الذى رأيته فى عيون بعض المصريين فى الخارج حين تطول بهم الغربة (الجيل الأول) وهو الذى يجعل مرضاى يثقون فى أنى أصدقهم، فيصدقونى، هو نفس هذا الشئ الـــ.. ما”!.

أعرف ما يمكن أن يصوّب إلىّ حالا من قذائف، تتهمنى أننى لا أدرى ماذا يجرى فى قاع المجتمع، وأننى أجلس فى برجى العاجى أكتب هذا الكلام، سوف تمّر القذائف الأرحم بجوارى دون أن تصيبنى وهم يفوّتون لى باعتبار أننى أهذى أو أحلم، أو لعلها تصفنى بشفقة حانية: بالطيبة أو بالغفلة أو بالخيبة البليغة، وهى توصينى أن أترك  “… الهَمّ لأصحابه”، لأتفرغ لمجانينى الذى يبدو أنهم أعدونى، لكن كل هذا لا ينجح أن يحول بينى وبين أن أظل أرصدّ “هذا الشئ الـ ماً”.

أعرف أننا شعب يتصف بالكسل، وأننا لا نعمل حتى وإن كان أغلبنا يذهب للعمل يوميا، وأننا لا نحترم الأرصفة، ولا إشارات المرور، وأننا نعيش بالتقريب، ونادراً ما نحترم الاختلاف، وأننا نحكم على بعضنا البعض بسرعة وسهولة لدرجة لا تسمح بتبادل أية آراءٍ حقيقية، وأننا نحب الاعتمادية، ونحذق كيف نلاعب الحكومة من أول الموظف الصغير  بعلبة سجائر مالربورو، حتى المسئول الكبير الذى بيده خرائط الأراضى القابلة “للتسقيع، وهو يفوّتها  للحيتان من تحت المكتب، أو فى لقاء خاص، بفندق خمسة نجوم، وهو يحمل تحت إبطه أيضا الدليل السرى لحركية  البورصة هذا الأسبوع. أعرف كل ذلك، لكن  يظل هذا “الشئ الـ … ما” يلاحقنى. كيف يستطيع أن يظل فى موقعه هكذا مخترقا كل ذلك؟ !!

أعرف ما آل إليه التجهيل المتمادى المسمى التعليم، كما أعرف أين موقعنا من البحث العلمى الحقيقى، ومن صراع التكنولوجيا، أعرف ما وصل إليه تهريج الجامعات، وضعف الانتاج، وتشويه الدين ولفظنته، أعرف قانوننا الخاص بخلود الفراعنة على الكراسى، والمساجين فى الزنازين، أعرف ما وصل إليه توحش الأثرياء وجشع الاحتكار، وترويج التبعية والاستسلام، لكننى لا أعرف – للأسف – لماذا لم يختف ذلك “الشئ الــ …ما “. وراء كل هذا!!!

وبعد

المساحة محدودة والحمد لله، وهى لا تسمح لى إلا أن أكمل التعتعة: بقسَـم صادق وشهادة تبرئة.

أما الشهادة فهى أننى أعرف إسمى، وأننى أكتب الآن “تعتعة” الأسبوع، وأننا فى شهر مايو، ولم يبق على خمسة يونيو “المجيد” سوى أسبوعان، وأن الجنيه هو أقل وحدات العملة المتداولة حاليا، وأن رئيسنا باق حتى لو تغير، وأننى أعتبر اليأس رفاهية الكسالى، وخيانة المنسحبين.

أما القسَـم الصادق، فهو أننى أقسم بالله العظيم ثلاثا أننى رأيت وأرى هذا الشئ بعينْى رأسى موجودا غصبا عنى وعنك، وأنه سوف يتجلى “بنا” فى يوم ما، ليفرض نفسه علينا.

هل عندك مانع؟!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *