11-5-2008
العدد: 254
باب جديد
استشارات متبادَلَةْ
مقدمة:
حين وصلتنى استشارة الزميلة د. أميمة رفعت التى سنناقشها فى نشرة اليوم، وصلتنى فى بريد الجمعة، فضلت أن أفرد لها نشرة اليوم مستقلة فقد، وجدت علاقة وثيقة بينها وبين ما أسميناه “التدريب عن بعد”، والذى لقى ترحيبا وتشجيعا من معظم الزملاء، وخاصة الأصغر، لكن يبدو أن المسألة لاتقتصر على الأصغر، قد سبق لى أن أشرت إلى أننى استشير من هو أصغر، كما أستشير المريض فيما يصعب علينا، وأيضا أستشير مريضا آخر بشأن مريض زميل يشاركانا جلسات العلاج الجمعى، ثم إنى قد آخذ رأى مريض ثالث حتى فى جرعة الدواء فى العلاج الجمعى بعد أن نكون قد تعلمنا سويا تحديد المطلوب من كل عقار بمحكات إكلينيكية عملية (النوم، والعمل، والعلاقات) فنتعلم من بعضنا البعض، وحتى المرضى يقيسون بعضهم بعضا معنا، ونتحاور ونقرر ونتابع.
الحمد لله، صحيح أنه لاخاب من استشار ولا يوجد كبير على الاستشارة.
لكننى ترددت أن أدرج هذا النوع من التشاور تحت بند “التدريب”، فالتدريب (حتى عَنْ بُعد) يكون بين مدرب ومتدرب، أما الاستشارة (حتى عَنْ بُعد) فهى للاستشارة والاستزادة من زملاء وقرناء، وهى متجددة ومتناوبة.
اخترتُ العنوان “استشارات متبادلة” مؤقتا، وأعنى بذلك أنها بين الزملاء أساسا، وإن كان الباب مفتوحا لكل من يريد الإسهام، فقط اعتذر مسبقا أن أرد على الاستشارات الخاصة بمعاناة أو اضطرابات فردية، يمر بها بعض الأصدقاء بشأن ما يعانون هم أو ذويهم، وأحاول فى هذه الحالات أن أردّ ردًا خاصا، كلما أمكن، على عنوان بريدهم مباشرة.
نبدأ بالتجربة مع د. أميمة معترفين لها بفضل السبق والمبادأة.
د. أميمة رفعت: العلاج النفسى للذهانيين
إذا توفر لديك الوقت، فهل يمكنك أن تجيبنى على هذه الأسئلة:
*لدى مريضة 51 سنة فصامية، أعالجها منذ عام وقد كانت فى مجموعة للعلاج الجمعى. تمر بمرحلة من الاعتمادية الشديدة على، أو الطرح، و تعاملنى مثل معاملة طفلة لأمها. و برغم توقعى حدوث ذلك منذ بداية العلاج، إلا أنهأصابنى نفور شديد من المريضة لا أعلم سببه، حتى أنه فى يوم من الأيام وجدتنى أتجنب النظر إليها. هذا الشعور بالنفور كان يصاحبه أيضا شعوربالذنب، فقررت الابتعاد عنها وعن علاجها فترة حتى أسيطر على نفسى. وبعد أشهر قليلة قلّ هذا النفور كثيرا و حلت محله رؤية أوضح لعلاجها، و أنا أعمل معها الآن واحتوى اعتمادها برفق دون أدنى ضيق.. أريد أن أفهم ما حدث لى…..
د. يحيى:
أولاً: أكرر شكرى على ثقتك وأمانتك.
ثانيا: لست متأكدا إذا كانت هذه الطريقة التى حددتُها فى المقدمة سوف تكون مفيدة أم لا، فأنا لم أجربها من قبل، وحين أشرف أو أناقش زملائى وجها لوجه لا أكتفى بما يقولون، لكن أيضا “كيف” يقولونه .. وغير ذلك..
ثالثا: أرجو أن تتحملى المسئولية معنا، ونحن نجرب –تماما مثل النشرة التى لم أستقر بعد على استمرارها – فى أن نتوقف إذا لم نحقق ما نريد.
رابعا: بالنسبة لهذه الحالة بالذات: أنا لا أحب كلمة “الطرح” ولا حتى ما يقابلها بالانجليزية Transference، وأتساءل لماذا العلاقة بينى وبين المريض هى “طرح” بمعنى تكرار مطروح على العلاقة العلاجية الحالية من علاقة سابقة؟
أنا أفضل دائما أن أعتبرها علاقة “بادئة” لها مواصفاتها المستقلة التى تحددها ظروف بدايتها ونموها، صحيح أن أية علاقة لاحقة تتأثر بما قبلها، لكن هذا لا يلزمنا أن نرى العلاقة الحالية من خلال العلاقات السابقة طول الوقت مهما كانت الدلالات، وقد لاحظت أنك لم تلتزمى بأن هذا طرحا واستعملت أيضا كلمة “اعتمادية” وهى أفضل لهذه الحالة.
خامسا: فى الفصام بالذات، وفى هذه السن(51سنة)، ولا أعرف مدته (كم سنة استمر المرض) لا تكون المسألة طرحا بقدر ما تكون اعتمادية رضيعية infantile dependence تصل إلى حد النكوص إلى الرحم (أنتِ)
سادسا: فى تحمل ذلك – قبول هذه الدرجة من النكوص وهو وارد- مشقة هائلة، لأن الولادة من جديد، وهى المأمولة على مسار العلاج الممتد والمكثف، تصبح أكثر عسرا من الفطام (وهو التعبير الذى يستعمل فى التعامل مع “الطرح”)
سابعاً: أن تلتقطى مشاعرك هكذا هو أمر جيد جدا فى العلاج النفسى عموما أنتِ –مثل أى ممارس أمين- ، من حقك أن تضيقى وأن تكرهى، وأن تنفرى من أى مريض فى أى وقت، ثم إنك حين تطلقين لمثل هذه المشاعر العنان لتصل إلى وعيك، لا تكون إلا نقطة بداية مهما طالت، (أسابيع أو شهورا)، ثم إنك بعد ذلك تتعاملين مع هذه البداية لصالح المريض، وهذا أكثر فائدة له على المدى الطويل.
إن اعترافك بمشاعرك لكِ هو أفضل الف مرة من أن تخفيها عن نفسك أولا ثم عن المريض الذى باستطاعته – خاصة إذا كان فصاميا- أن يدخل داخل داخلنا دون استئذان، ويعرف كل شئ تقريبا، وتنبنى الثقة بقدر اتفاق ما يعرف مع ما هو نحن من داخل داخلنا (عادة دون ألفاظ) وأنت سيدة العارفين.
ثامناً: أنا أكره الشعور بالذنب ولا أعتبره مفيدا بأية درجة، تحت أى ظرف، وقد كتبت فى ذلك كثيرا “يومية الشعور بالذنب (1)”، لكننى أقبل التألم للخطأ، والتعلم من الخطأ، واحترام القصور، والمبادرة بالاستفادة من كل ذلك، وكل هذه آليات ليس لها علاقة بالشعور بالذنب الذى عادة ما نعبر عنه بالكلمات، والنعابة، بعيدا عن فعل الألم، وحركيّة التعلم. وأعتقد أن ما مررت به هو ليس من قبيل الشعور بالذنب، وإلاّ لما تعلمتِ، ولمّا تغيّرت ، ولما تصالحت معها ومع نفسك، ولما عادت العلاقة هكذا أفضل (دون أى داع للاعتذار حتى لنفسك، ودون مبرر للتكفير)
تاسعا: الابتعاد عن المريضة فى مثل هذه الظروف اضطرار مقبول، لكن باعتبار أنها فى رحم المعالج، فهو يصبح أمرا محفوفا بالمخاطر، وربما كان يلزمك الاستعانة بزميل أو زميلة (معالج أو مريض) خاصة فى سياق العلاج الجمعى، تستعينين به للوقوف معكما أو معها، حتى تستعيدى تلقائيتك إليها
عاشرا: لابد أن أتساءل معك؛ وأدعوك للتساؤل معى، وهذا حقك: إلى متى عليك أن تحتوى اعتمادها الرحمىّ الشديد هكذا؟ إلى متى ستبقى فى المستشفى؟ إلى أين ستذهب حين تخرج من المستشفى؟ إلى مَنْ؟ لابد من ادخال الزمن والواقع فى التخطيط العلاجى، بشكل مسئول ممتد، وأن نضبط الجرعة بحيث يتناسب ما نفعل مع ما ينتظر المريض على أرض الواقع، أى مع مايمكن!.
حادى عشر: إعادة النظر فى بقية أبعاد التأهيل – غير العلاج النفسى المباشر الجمعى أو الفردى- مهمة جدا فى مثل هذه الحالات عبر كل المراحل، بما فى ذلك إعادة ضبط جرعة العقاقير من منظور تطورى وعملى وإمبريقى معاً (برجاء الاطلاع على شرائح العلاج الجمعى والعقاقير)
وأكرر شكرى،
والدعوة عامة لكل من يهمه الأمر، إن صلح ما نحاوله معاً.