يحيى الرخاوى طبيب نفسى
“يوميا” الإنسان والتطور
5-7-2008
العدد: 309
تعتعة
الامتحانات، وقيمة اسمها “العدل” !
ما معنى الامتحان؟ ولماذا توضع الأسئلة؟ ما هدف التقييم؟ تقييم من؟ وكيف؟ إلى أين؟ وقبل ذلك: ما هدف التعليم عامة؟ وما هدف هذا الذى يجرى فى مصر تحت اسم التعليم؟
زادت حيرتى وأنا أتابع العرض المستمر لمسلسل الدموع والجزع، والتعازى، ورحت أتعجب كيف اشتركت كل الأقلام بلا استثناء (وبينها ما يمثل لى قيمة رائعة) اشتركت فى هذا المهرجان الذى نصب للإشفاق على أولادنا اكبادنا التى تمشى على الأرض!! المنطق الذى خطر ببالى ألتمس به العذر لكل من شارك فى مهرجان الدموع والجزع، يقول: “والله مساكين، هذا جيل لم يتعلم أصلا، فلماذا نرهقهم بامتحانات ليس لها جدوى فى نهاية النهاية، يا راجل سهّل وقل يا باسط”.
علم التقييم (الامتحانات من بين ذلك) هو علم، له قواعده، ، ودراسة جدواه، ومتابعته للتأكد من تحقيق أهدافه، وبالتالى: لا ينبغى أن يصبح مجالا لفتوى كل من هب ودب، حتى المدرس النابه مهما بلغت مهارته ونبوغه فى التدريس، قد لا يكون مؤهلا لممارسة دور التقييم كما ينبغى.
حدث سنة 1950 أن حصلت شخصيا على 70 % فى امتحان شهادة التوجيهية، (الثانوية العامة الآن) أى أننى لم أستطع أن أجيب على 30 % من الأسئلة، أو أجبتها خطأ، أذكر أننا حين ظهرت النتيجة، قبلناها كلنا بلا تعليق، وانتظرنا نتائج قبول الجامعة (لم يكن هناك مكتب تنسيق) وقبلت شخصيا فى كلية الطب جامعة فؤاد الأول.
لماذا لم أجزع أنا وأهلى؟ لماذا لم تقم القيامة لصعوبة الامتحانات التى لم يتمكن طالب خائب مثلى من الإجابة على حوالى ثلثها، ثم ها هو يكافأ بأن يدخل كلية الطب الأولى فى مصر؟
أظن أن السبب هو أننى وأهلى، مثل كل الناس، كنا واثقين أنه ما دمت قد حصلت على هذا المجموع، فلا بد أن من هو أقل منى أداء واستذكارا سوف يحصل على مجموع أقل، أما من هم فى مستواى أو أكثر فسيحصلون على تقدير مثلى وأكثر، وخلاص. كنا غالبا نعرف أن التعليم هو التعليم، وأن الإنسان هو حيوان ناقص، وبالتالى لا بد أن يخطئ ويصيب، فالأسئلة الصعبة هى أسئلة صعبة، وهى للتمييز وليست للتعجيز (كما ندعى الآن)، كانت تلك هى القيم السائدة، نمارسها دون أن نناقشها فهى بديهية على ما يبدو: من البديهى أن الامتحان الصعب صعب، وبما أنه صعب على الجميع فسيتساوى فى فرص أدائه الجميع، وحين تظهر نتيجة الجميع، سوف يرضى الجميع بما جرى للجميع دون استثناء.
هذه القيمة يسمونها “العدل” (هل سمعتم عنه؟)، العدل الحقيقى هو الذى يخفف أى صعوبة، هو يخفف الصعوبة الاقتصادية، كما يخفف حتى صعوبات ومصائب الكوارث الطبيعية التى تحل على الجميع دون استثناء.
هذا بالنسبة للامتحانات
لكن هل هدف التعليم هو أن أجتاز الامتحان؟ أم أن له هدفا آخر، وما الامتحان إلى أحد وسائل تقييم استمرار مسار التعليم لتحقيق هدفه؟
حين يصير التعليم إلى ما صار إليه عندنا، تصبح المسألة مهزلة، بلا مهارة تبقى، ولا فكر يتحرك، ولا رغبة فى معرفة تصقل، ولا فرحة بمعلومة تمارس، ويصبح الامتحان الذى هو وسيلة لتقييم عملية التعليم، يصبح هدفا فى ذاته, الدول المحترمة الناضجة لا تعلم أبناءها ليجتازوا الامتحان، لكنها تعلمهم ليتعلموا فيبنون وطنهم، ويعيشون عصرهم، أما إذا خلا التعليم من هذا وذاك، ثم ابتعدت قيمة العدل كما حدث عندنا فى كل مجال، فلا بد أن تنصب مناحات الامتحانات كل عام وكأننا نبكى على ميت مات قبل أن يولد.
نحن لا نعلم ولا نتعلم كيف نواجه الصعب، الحياة كلها صعبة، وليس الحل هو أن نسهل كل صعب، وإلا كيف ننمو بالله عليكم؟ الحل هو أن نتعلم الصعب ونحترمه، كما نستسهل السهل ونفرح به، لكن هذه القيمة أيضا تراجعت، ربما نتيجة لأن أى واحد يتلفت حوله سوف يعرف أن الحياة صعبة على ناس دون ناس، وبالتالى فلماذا أتدرب أنا على الصعب وغيرى يسهلون له كل شىء، كل شىء، ليس فقط الامتحانات (دع جانبا الغش)، لكننى أقول كل شىء.(لو سمحت: إطلق لخيالك العنان، ولايهمك)
إذا اختفت قيمة العدل، وقيمة المعرفة لذاتها، وقيمة مواجهة الصعب كطبيعة بديهية فى الحياة، أصبحت الامتحانات بلا معنى إلا إعادة مسرحية معادة تخرج منها كما دخلتها وأجهل، وهكذا فهمت أخيرا سر هذه المهرجانات تجرى فى الهوامش هكذا.
ففيم كان الاستغراب؟