“يومياً” الإنسان والتطور
25-3-2008
العدد: 207
عن الإبداع التواصلى والإبداع الخالقى
مقدمة:
قلت أمس إن الاعتراضات والتحفظات التى وصلتنى شملت تساؤلات عن علاقة الجنس بالعدوان من ناحية، وعلاقتهما، أوعلاقة كل منهما، بما أسميته الإبداع التواصلى والإبداع الخالقى، فوجب التوضيح بأى قدر ممكن.
قبل ذلك نتذكر الاستطراد الذى استغرق يومية أمس ليرد على التساؤل القائل: لماذا يتناول هذا الموضوع (أو مثل هذه الموضوعات) طبيب نفسى، وهو يوجه الحديث إلى زملائه النفسيين قبل وبعد من يهمه الأمر؟،
هذا الاستطراد – أمس- جرنا إلى عرض فكرة أن البحث فى موقف الطبيب الأعمق من قضايا الحياة الأولية (أو حتى موقف أى شخص) هو أمر جوهرى أو على الأقل هو مفيد حتى تكون الممارسة على بينة، ولا ينتهى دور الطبيب إلى ما أسماه صديق لى (د. رفيق حاتم) فى فرنسا: موظف بدرجة مدير عموم آلة الطب المبرمج.
قبل ذلك أيضا أشرت إلى تسمية ما أفعله مع المريض النفسى طوال نصف قرن، حتى قبل كل هذا التنظير، وأننى اكتشفت أننى أقوم بقراءته، باعتباره نصا بشريا، (وليس تصنيفه تشخيصا) وفى نفس الوقت هو يقرؤنى فيسمح لى بإعادة قراءة نفسى، ثم أقوم، وهو معى، بنقد هذا النص (هو أساسا) ونعيد تشكيله معا، (ومع آخرين فى العلاج الجمعى وعلاج الوسط العلاجى خاصة) ، والمفروض أن يعاد تشكيل النص البشرى للمعالج نفسه، ما دام النمو مستمرا، والإشراف، على أى مستوى متواصلا.
من هذا المنطلق يصبح النظر فى الطبيعة البشرية بدءا من الغرائز إلى ما تعد به (من غيب لا نعرفه) هو من أساسيات ممارسة هذا التخصص (وربما الحياة لمن أراد المواكبة).
كل هذا فسر لى – بأثر رجعى – اهتمامى بقضية الإبداع من البداية، منذ كتبت عن مستويات الصحة النفسية على طريق التطور الفردى 20-1-2008، وكيف يمكن أن يحقق الفرد منا توازنه بالإبداع على مستوى متطور فائق، كما يتحقق التوازن للغالبية العظمى منا، بالعمى الجيد الرحيم (استعمال الميكانزمات العقلية) وفيما بين هذا وذاك، تأتى مرحلة تحقيق نوع أوسط من التوازن من خلال البصيرة الراضية المتألمة معا (بعد تراجع العمى نسبيا= الإقلال من استعمال الميكانزمات)، قبل أو دون الانتقال إلى تحقيق التوازن بالإبداع (وقد سبق أن نشرت ذلك فى اليومية20-1-2008، وهو موجود تفصيلا فى أماكن أخرى كثيرة من الموقع).
وفى مرحلة لاحقة تناولتُ الإبداع من منظور الإيقاع الحيوى، وربطت بينه وبين الجنون والأحلام، ثم تناولتُ الإبداع من منطلق جدليته مع الجنون على مستويات مختلفة، وأخيرا فى علاقته بالحرية (كل ذلك اجتمع فى الإصدار الأخير الذى صدر لى من المجلس الأعلى للثقافة هذا العام)، ثم ها نحن الآن ندخل إليه من جديد من باب العدوان، أما حقيقة التطور التاريخى لفكرى فهو أن هذا التناول لدور العدوان فى الإبداع هو سابق لكل ما سبق إلا المرحلة الأولى (الصحة النفسية على طريق التطور الفردى حيرة طبيب نفسى).
عن الإبداع التواصلى والإبداع الخالقى
من هنا رأيت أن الإجابة على التساؤلات التى وصلتنى وهى تطلب بوجه خاص إيضاح الفرق بين الإبداع التواصلى والإبداع الخالقى لا يمكن فصلها عن تطور فكرى كله، خاصة وأننى خلال هذه الرحلة الطويلة قد صنّفت الإبداع تصنيفات أخرى، مثل الإبداع الفائق و الإبداع البديل و الإبداع الناقص (المجهض) ..إلخ
بمراجعة كل هذا وجدت لزاما على أن أنبه إلى أن ما أسميته الإبداع الفائق من منطلق جدلية الجنون والإبداع هو هو (تقريبا) الإبداع الخالقى من منطلق العدوان والجنس، وأن ما أسميته الإبداع البديل من المنطلق الأول هو المرادف للإبداع التواصلى من المنطلق الثانى.
الفكرة الأساسية فى إيجاز شديد لا يغنى عن الرجوع للأصل هى كالتالى:
o لا الإبداع ، ولا أى نشاط مهذب مستنير، هو بديل كاف يحل محل الغرائز تمدنا ورقيا
o التطور الخليق بإنسانيتنا هو الذى يحتوى الأقدم ويتوجه به ، إلى الأحدث، فالأكثر وعدا مما لا نعرف (الغيب)
o الجنس بعد أن ارتقى للقيام بتسهيل التواصل الأشمل والأعمق والأقدر على إعادة تشكيل المتواصلين، يمكن أن يثرى ويشارك فى تخليق تشكيلات جديدة، فى الذات، أو فى ناتج خارجها، وهو ما يؤدى نفس الوظيفة الأحدث للجنس: أعنى “التواصل إبداعا” ومن هنا اخترت له هذا الاسم “الإبداع التواصلى”، وهو نوع لا يحتاج بالضرورة إلى إغارة وتحكيم واقتحام قبل إعادة التشكيل بطفرة مختلفة تماما. هذا النوع من الإبداع هو – بدرجة ما – بديل عن ثورة الطفرة المفزعة برغم أنها إبداع أصعب ومن ثم فهو الأقرب إلى الإبداع التواصلى المحتوى لـ (وليس المتسامى عن) غريزة الجنس البدائية.
o العدوان وقد احتوته مسيرة الإنسان تطورا أصبح يشارك فى كخطوة ارتقائية فى الإغارة على الجمود وتفكيكه، تمهيدا لجمع شمل ما تناثر منه فى تشكيل طفرى مغامر، فالعدوان إذن مسئول إيجابيا عن هذه الخطوة الاقتحامية المفكِّـكة لجمود السكون المانع لحركية التطور، كما أنه المسئول عن مثابرة السعى الإقدامى لإعادة التشكيل الطفرى.
(يمكن الرجوع إلى بعض ذلك تفصيلا فى “حركية الحياة وتجليات الإبداع”)
معالم متداخلة لتفرقة صعبة
قبل أن أعرض موجز ما يميز بين هذين النوعين من الإبداع فى صورة جداول غير مفيدة (بل مربكة لكنها قد تغرى بالرجوع للأصل لمن شاء) دعونى أبسّط الأمر بشكل يومى مباشر هكذا:
- إن موسيقى النهر الخالد لمحمد عبد الوهاب هى (أعنى أقرب ما يمكن أن يسمى) إبداع تواصلى
- أما السيمفونية الخامسة لبتهوفن فهى (أعنى أقرب ما يمكن أن يسمى) إبداع خالقى
- إن رواية السراب لنجيب محفوظ هى (أعنى أقرب ما يمكن أن يسمى) إبداع تواصلى
- أما ليالى ألف ليلة ، أومعظم أحلام فترة النقاهة، فهى (أعنى أقرب ما يمكن أن يسمى) إبداع خالقى
- إن أغلب شعر صلاح عبد الصبور أو محمود درويش هو (أعنى أقرب ما يمكن أن يسمى) إبداع تواصلى
- أما أغلب شعر أدونيس أو إبراهيم داود (أعنى أقرب ما يمكن أن يسمى) إبداع خالقى
- إن أغلب نظريات الرياضة الإقليدية هى (أعنى أقرب ما يمكن أن يسمى) إبداع تواصلى
- أما الرياضة الكموية الحديثة فهى (أعنى أقرب ما يمكن أن يسمى) إبداع خالقى
- إن اكتشاف زويل لوحدة الزمن المتناهية الصغر فى التفاعل الكيميائى هو (أعنى أقرب ما يمكن أن يسمى) الإبداع التواصلى
- فى حين أن اختراق أينشتاين بنظريته النسبية هو (أعنى أقرب ما يمكن أن يسمى) الإبداع الخالقى
- إن ممارسة طقوس التصوف الشعبى الطيب هو (أعنى أقرب ما يمكن أن يسمى) إبداع إيمانى تواصلى
- أما كدح النفرى وتحدياته فى المواقف والمخاطبات فهو (أعنى أقرب ما يمكن أن يسمى) إبداع إيمانى خالقى
وبعد
هل يحق لى الآن أن أقدم الجدول القديم دون تعديل ليبين الفروق بين هذين النوعين؟
ولعله من المناسب أن أرجوا ممن لا يتحمل قراءة الجداول دون شرحها أن يطرحها جانبا، ويواصل معنا ما يشاء، ربما مثلما دعوت من لا يحب الإنجليزية (مثلى) أو لا يتقنها ألا يقرأ ما جاء بها أول أمس؟
أرجوا أن تسمحوا لى بفعل ذلك مع اعتذار كاذب.
جدول (1) مقارنة بين الإبداع الخالقي
والإبداع التواصلى(دون فصل حاسم)
الابداع الخالقى (النابع x من العدوان أساسا) | الإبداع التواصلي(النابع x من الجنس أساسا) |
1 – تحطيم القديم فى مغامرة فردية صعبة 2-إعادة خلق الجديد من جزئيات القديم المـحـطـم بما يشمل المخاطرة بالوحدة والرفض
3-يتم هذا التحطيم وإعادة البناء عادة على حساب الآخرين- فى البداية وظاهر الأمر. 4-يلاقى المبدع من جراء إبداعه الخالقى هذا قدرا من الرفض والنبذ والقسوة والاضطهاد مما يجعله فى معركة حقيقية. 5- يقاوم المبدع كل هذا بالوحدة والإصرار والاستمرار، مما يحتاج إلى كل زخم إيجابية عدوانه تجاه الآخر ( الآخرين) وهى وحدة تصب فى النهاية فيما رفضته ( فى الآخرين) 6-لا يقتصر هذا النوع على الإنتاج الفنى أو الأدبي، وإنما يشمل ، التغيير الذاتى الإبداعى فى النمو الفردي، والإنشاء العلمى والثورة السياسية والاجتماعية والاقتصادية المبدعة المسئولة إلخ .. |
– لا يلزم تحطيم القديم، وقد يكتفى بتحسينه حتى القبول2- العملية الأساسية تهدف إلى تناسق الجزئيات القادرة على التناغم مع نفس المستوى عند المتلقي.3- تتم هذه العملية لحساب، وسعيا إلي، الآخر أساسا.
4- عادة ما يجد المبدع تقبلا واستحسانا من البداية
5- المبدع هنا لا يؤكد وحدته بنفس الحدة المطلقة -كخطوة أيضا- وإنما هو يأتنس بمن يتحدث -ويتلقي- على نفس موجته بشكل نسبى على الأقل، ومنذ البداية أيضا. 6- يمكن أن يكون هذا النوع مرادفا للإبداع ‘الموهبة’ المرتبط بتنمية القدرات الفنية الخاصة، وبالتالى فهو يشمل أغلب الإنتاج الفنى والأدبى بصوره المتميزة والمألوفة، دون القفزات الطفرية التى تغير مسار صوره وأشكاله، ومسار الحياة برمتها . |
جدول ( 2) الفروق بين الإبداع الفائق (الخالقى تقريبا)
والإبداع البديل (التواصلى تقريبا)
ثم بعد ذلك يمكن عرض أقرب الأنواع من تقسيمات أخرى مرادفة – تقريبا – لهذين النوعين كالتالى :
الإبداع الفائق | الإبداع البديل | |
العلاقة بالجنون | فى علاقة جدلية حركية نقيضية مواجهة ومحتوية | سلب للجنون وعكسه |
نوع التماسك | مرن فى قوة، مسامى فى تماسك مفتوح النهايات، فى تضافر، متعدد المستويات فى تواصل | متماسك، محكم، محدد المعالم. |
جماليات | يخلق الجمال بالكشف عن علاقات جديدة، قد تكون صادمة بداية، لكنها ‘هارمونية’ على مستوى أعلي | رائق الجمال، يؤكد التناسق التناسبى القائم، ويعمقه، ويحدده |
مستويات المعرفة | أكثر من تيار معرفى (مفاهيمي، بدائي، صوري، مكاني، كلي) فى تضافر يمنع فصل أى تيار بذاته لذاته | المستوى المفاهيمى للمعرفة يقوم بالواجب طوال الوقت، ويترجم إليه كل ما عداه (غالبا) |
اللغة | مفتوحة، مرنة، متجددة، كائن حي، ينمو باحتواء القديم، لا بديلا عنه (عن القديم) | قوية ، ضابطة رابطة، واصفة، ملتزمة ملزمة. |
الأثر على المبدع | يعرف جديدا من خلال ما يفاجأ هو به، يتغير بإبداعه فتتمدد ذاته، يلين وتتفتح مسامه لاختلاف أرحب، يتطور فى نفسه وفى إنتاجه | يؤكد ما يكاد يعرفه سابقا، لا يتغير بقدر ما يصقل ما هو، يزداد تمسكا بمعتقده، يتقن فى الموضع نفسه |
الأثر على الإبداع اللاحق | تطور معرفي، وتغير نوعي، ليس مطردا بالضرورة. | تكرار جيد، قد يكشف أبعادا أكثر للمستوى نفسه |
العلاقة بالنمو الفردى | هو الصورة المعلنة له، بعد اكتساب الإنسان الوعي، يدفعه ويتلقى منه، وقد يستغنى عنه، بحسب اطراد جرعة استيعاب النبض الحيوى للتغير الفردى (فالنوعي) وضبطها. | مؤشر لمساره أحيانا، ومعطل له (بوصفه بديلا كاملا) فى الوقت نفسه، كما قد يتلقى منه |
تبادله مع حالة الجنون | احتمال نادر، يقل باضطراد مع اضطراد الإبداع ونمو الذات. | احتمال أقل ندرة، أما إذا توقف الإبداع، فهو وارد، هو أو ما يكافئه وهو نفيه (بالابداع المحبط = جمود اللاإبداع) |
تبادله مع أنواع الابداع الأخري | وارد أحيانا (بما يفسر اختلاف مستويات الإبداع عند مبدع متميز; محفوظ، مثلا) | نادر ندرة تامة (بما يفسر رفض أغلب المبدعين على هذا المستوى لأى إبداع فائق أو ناقص (العقاد مثلا) |
دور النقد | التلقى المحاور، والإبداع الموازى. | التقويم المحكم، والتحريك (إن أمكن) |
المقابل التدهورى (المرضى) | الجنون المتناثر (الفصام، بخاصة التفسخى) | الجنون البديل (مثل: الاكتئاب الهوس – حالات البارانويا…) |
المقابل الحيوى:أ-المستوى اللينهارىب- المستوى البيولوجى لتطور الحياة | نبضات الحلم المتكاملة (تفكك – تعزيز – نمو..)طفرات التغير النوعى | الحلم المحكى وتفسيره الرمزى“تحسين صفات النوع الحالى (على المستوى الحيوى نفسه دون طفرة أو تغير نوعى) وتأكيدها. |
المواجهة:
دعونا نعترف ابتداء بصعوبة – أو استحالة – وضع العملية الإبداعية ذاتها تحت مجهر البحث العلمى، إذ كل ما هو متاح لنا هو فحصه هو : إما ناتجها، وإما مبدعها. إن الوحدة الزمنية التى تستغرقها العملية الإبداعية خاصة فى آخر مرحلة لانبثاق الإبداع ، هى لحظة شديدة التكثيف شديدة القصر (لا نبالغ إذا قلنا إنها جزء من ثانية رغم فساد قياسها بهذا المقياس العادى (من حيث المبدأ)، وقد تكون هذه الحقيقة فى ذاتها هى التى تسمح وتبرر بتنوع المداخل إلى العملية الإبداعية، مع اختلاف الرؤى ، الأمر الذى يؤدى إلى بعض ظاهر التباين.
ثم لابد من التدقيق فى الأبجدية المستعملة فى تناول هذه القضية المكثفة المعقدة، فلا يجوز الخلط بين نبض الإبداع، الذى ينتمى إلى جذور العملية الإبداعية، وبين ناتج الإبداع علما أو أدبا أو تشكيلا، أو بينهما وبين سمات المبدع ومواهبه وقدراته.
كما لابد أيضا من التمييز بين تناول ماهية الإبداع باعتبارها أحد محاور الحياة لكل الناس (بل لكل الأحياء، بلا استثناء، فى الحلم اساسا)، وبين تناولها فى حدود إنتاج المبدع ناتجا متاحا فى أى مجال من مجالات المعرفة علما أو أدبا أو تشكيلا.
ثم أخيرا: لا مفر من تصنيف الإبداع المنتـَج ( رمزا أو عيانا) فى أشكال متعددة، متوازية أحيانا، متبادلة أحيانا، مكثفة أحيانا، ومتصاعدة (هيراركيا) كثيرا.
فى محاولة توليف بين المراحل، وعودة إلى العدوان
فى محاولة الإلمام بأطراف القضية بدرجة تخفف قليلا أو كثيرا من التناقض المحتمل الظاهر بين مراحل تناولى للقضية ، أطرح آخر المحاولات للتأليف بين هذه المراحل على الوجه التالى:
استطعت أن أحدد أن دراسة الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع كانت تركز- كمنطلق- على أحقية الشخص العادى أن يكون مبدعا بالضرورة البيولوجية، سواء ظهر ذلك فى صورة الإبداع اليومى (الحلم) أوالإبداع الحياتى (تطور الحياة وارتقاء النوع) ، ثم ليكن الإبداع المنتـَج رمزا أو عيانا قابلا لتلقى آخر فى شكل أحد صور الإبداع لا أكثر.
لكن دراسة العدوان الباكرة قد ركزت على دور زخم العدوان الإيجابى فى تحطيم القديم واختراق الوعى والتقدم للآخر، ولا يظهر هذا أصرح ما يكون إلا فى نوع خاص من الإبداع المنتج رمزا، وهو ما أسميته الإبداع الخالقي، وإن كان فى نفس الوقت هو دفع جوهرى فى سائر الأنواع.
ثم جاءت دراستى عن جدلية الجنون والإبداع لتربط ما بين مرحلة التنشيط التلقائى (دراسة الإيقاع) وكيفية المحافظة على ناتج هذا التنشيط بمحاولة توظيف السماح بحركية التنشيط أن تبقى فى الوعى أو قريبا منه، ثم التأليف من ذلك اقتحاما للوعى ثم إقداما نحو الآخر.
أما الدراسة الأولى التى أشارت إلى حفز الإبداع من خلال فقد التوازن المرحلى بين مستويات الصحة فإنها تشير إلى العمليات المساعدة فى عملية التنشيط البيولوجى التلقائى من جهة ، وحركية الولاف الإبداعى من جهة أخرى، فيما يتعلق بهيراركية أزمات النمو خاصة.
وعلى ذلك: نعود فنؤكد أن ثمة فرقا ضروريا بين التنشيط البيولوجى العادى اللازم لحركية فعلنة المعلومات التى لم تتمثل فى الكيان الكلى تمثلا كافيا، وبين التفكيك الإرادى –نسبيا- اللاحق والمواكـِب، وخاصة تفكيك التركيب الجامد الذى يمكن أن يحول بين هذا التنشيط وبين إعادة التوليف.
وإذا كانت عملية التنشيط الأولى تنتمى إلى الإيقاعية البيولوجية، فإن عملية التحطيم والاقتحام تنتمى إلى إيجابية العدوان بدرجة مناسبة من الإرادة الغائية والوعى الفاعل النشط.
وبتعبير آخر فإن الانتقال من مرحلة الإمكانية البيولوجية المتاحة (فى فعلىْ التعتعة و البسط / إيقاعا)، لا تصبح ناتجا إبداعيا متميزا ومرصودا إلا إذا انتقلت إلى مرحلة الصياغة فى جرعة مكثفة مخترقة وكاشفة، وبإرادة حاسمة ووعى مسئول، وهذه المرحلة الأخيرة - مرة ثانية- هى التى تحتاج قدرا هائلا من الطاقة الملتحمة بالوعى والإرادة (وخاصة فيما أسميته الإبداع الخالقى أو الفائق) طاقة تكون قادرة على الحفاظ على جرعة التنشيط إلى غاية الإبداع المنتج.
وهكذا نرى أن الدور الإيجابى لغريزة العدوان بما هى، وليس بالتسامى عنها، ناهيك عن إنكارها ، إنما يسهم أساسا فى المساعدة على استيعاب التناثر (البيولوجى التلقائي)، ومن ثم الحيلولة دون العودة الساكنة التى تمحو تلقائيا كل ما يتيحه النبض الحيوى من حركية وتنشيط قادر على التمادى للخلق والإبداع (عند كل الناس – من حيث المبدأ).
وعلى ذلك يكون إسهام العدوان الإيجابى (فى الإبداع الخالقى بوجه خاص) ، كما جاء فى هذه الدراسة هو العمل على تكثيف جرعة التنشيط لاختراق طبقات الوعى الذاتى، وتأكيد الوحدة والتميز عن الآخر، وتحمل التهديد بالفناء كأحد مخاطر عمق التغيير.، ثم إنه يرتبط دوره أيضا بالحفز لاختراق وعى المتلقى (وليس الاكتفاء بدغدغته)، كما أن الأمر يحتاج إلى مزيد من الطاقة الاقتحامية للحليولة دون التناثر (كإبداع بديل مجهض أو سلبي، فى بعض صور الجنون والانسحاب والتجمد)
وأخيرا فإن زخم تقدم العدوان الإيجابى يمكن أن يساعد على المثابرة لإكمال وصقل حركية الإبداع وتصعيدها إلى أن يتم الناتج الإبداعي، خاصة من النوع الفائق.(1)
الخلاصة
ومن هذه المقدمة، فالمراجعة، نستطيع أن نخلص إلى ما يلى:
1- إن نظرية الغرائز بصورتها الجديدة من منطلق علم الإثولوجيا قد عادت لتأخذ حقها فى فهم سلوك الإنسان وتطوره.
2- إن التسليم بنظرية للغرائز يرتبط ارتباطا مباشرا بالتأكيد على إمكان وراثة العادات المكتسبة الغائرة ذات الدلالة التطورية (التعلم بالبصم ) وبذلك لايصبح الأمر تسليما للغريزة وإنما انطلاقا منها.
3- إن غريزة العدوان أعمق وأكثر خطورة من غريزة الجنس، ومع ذلك فهى لم تأخذ حقها فى الدراسة والبحث بالقدر المناسب.
4- إن الفرص المتاحة للتعبير عن العدوان فى حياتنا المعاصرة نادرة وواهنة ، بحيث تجعل إهمال دراسة هذه الغريزة خطرا أكثر تهديدا.
5- إن الصور المحورة للتعبير عن هذه الغريزة وتراكماتها شديدة الخطورة لافتقار الإنسان إلى الجهاز المناسب الصالح للتحكم فيها مباشرة.
6-إن إنكارها-أو إهمالها- هو استسهال خطر لا يتفق مع مسئوليات العلماء المعاصرين مهما كان التبرير مقنعا تحت وهم أى أمل أخلاقى أو حلم مثالي.
7- إن محاولة ترويض غريزة العدوان بالتعليم الشرطي، أوإبدالها بالإعلاء والتعويض السطحى بالنجاح والسيطرة هى وسائل مرحلية، إن نجحت فينبغى أن نؤكد على طبيعتها المرحلية وإلا أعاقت النمو فى النهاية.
8- إن التغافل عن حسابات غريزة العدوان وتأثيرها قد يكون مسئولا عن الحروب والتمييز الطبقى المعلن والخفى بين الأجناس والطبقات الاقتصادية والاجتماعية والأديان، الأمر الذى زادت مضاعفاته وتضخمت مخاطره وخاصة بعد تملك أدوات الدمار بلا حدود، مما يهدد السلام البشرى بل وبقاء النوع الإنسانى أصلا.
9- إن الحل المسئول يتطلب إعادة فهمنا لمراحل تطور الغرائز، فيما بعد الإبدال والتسامى نتيجة لتآلفها مع وظائف أخرى ومع بعضها البعض فى تصعيد مستمر.
10- إن الإبداع الخالقى بمواصفاته الفائقة وخطواته المميزة من تحطيم وإعادة صياغة، ثم ما يترتب على ذلك من نبذ واضطهاد وإصرار وتحد، هو أقرب الصور للعدوان الحضارى مباشرة دون إعلاء أو إبدال ولكن بالمعنى التوافقى والولافى الأعلى.
11- يبدو أن إتاحة الفرصة لمثل هذا الإبداع الخالقى بجرعات متزايدة ولأعداد متزايدة هو الوقاية الأولى من مخاطر الدمار الشامل أو الانقراض التى تهدد وجود الإنسان فى مرحلته الحالية (وهذا النوع مثل كل إبداع لا يقتصر على إنتاج الإبداع وإنما على معايشته أساسا).
12- إن توظيف طاقة العدوان فى الإبداع – بكل أشكاله ومستوياته- لا يتناقض مع نظرية التنشيط الدورى لأبجدية الإبداع، ولا مع الجدلية الضرورية فى مواجهة نقيض الإبداع (الجنون السلبى التناثري).
13- إن ثمة تعديلا قد أضيف فى هذه المرحلة من تطور فكر المؤلف، فقد عدل عن التركيز على دور طاقة العدوان فى تحطيم القديم – ما دام التنشيط الدورى يقوم بالتعتعة تلقائيا، لكنه يركز على قدرة طاقة العدوان على الاقتحام، اقتحام طبقات الوعى للمبدع ذاته، واقتحام استاتيكية السكون، ثم اقتحام وعى المتلقى.
14- إن دراسة أنواع الإبداع من منظور بيولوجى الجذور، وظيفى المحتوى، غائى الدافع.. يمكن أن تفتح آفاقا جديدة لبحوث تبنى على تفرقة جديدة تساهم فى مسار الإنسان وتكامله ولاتركز على سماته وإتقاناته الطرفية- على الرغم مما فى ذلك من إسهام إيجابى لاجدال فيه- إلا أنه يحتاج إلى أن يتكامل مع دراسات نوعية أعمق.
وبعد
لا معنى لاعتذار جديد،
ليس فقط لأنه كذب بشكل ما، ولكننى شعرت أن فيه قدر من الاستهانة بصبر وقدرة أصدقائى الذين يتحملون ما يلح على لتوصيله إليهم من خلال هذه النشرة ربما لأننى لا أتصور أن عندهم الصبر أو الوقت للرجوع إلى أصول هذا التنظير فى الموقع.
ثم إننى اكتشفت وأنا أنهى هذه النشرة اليوم أن الاحتجاج بأن هذا العرض هو للمتخصص فى الطب النفسى حتى يحسن التعرف على الطبيعة البشرية التى يتعامل معها هو أيضا خطأ منى لا أستطيع أن أتمسك به، إذ لم يعد أغلب الأطباء يهتمون بمثل ذلك أصلا.
فلمن إذن كتب كل هذا الكلام الصعب؟
لكل من يهمه الأمر
وهم كثر
وأخيرا أرجو أن أعود للرد على مزيد من التساؤلات التى أثرها نشر هذا الموضوع، وخاصة فيما يتعلق بعلاقة الجنس بالعدوان من منطلق تجلياتهما الإيجابية، وربما أيضا عن دور المرأة فى الإبداع بشكل خاص.
[1] – إن الدعوة إلى استيعاب العدوان فى حركية الإبداع لا يمكن أن تقتصر على تنمية المواهب, أو الحفز على الإنتاج الإبداعي، بقدر ما تشير, وتوصى بضرورة خلق محيط من الحرية والحركة والمحاولة فى كل مجالات الحياة تسمح باستيعاب هذه الطاقة فى مختلف أشكال، ومراحل، ومستويات الإبداع.