“يومياً” الإنسان والتطور
30-4-2008
العدد: 243
“نحن” و فرويد “الآن” (3 من 3)
تفسير الأحلام، وتشريح الشخصية، وما هو الأنسب لنا !؟!
فى يوم الأربعاء 24 يوليو سنة 1895 كان فرويد يجلس فى مطعم يمسك بالسكين بيده حين هبط عليه ما حسبه أهم حدس فى حياته, حتى أنه سجل التاريخ حفرا على مائدة الطعام, وقد عرض فرويد أمورا كثيرة بسيطة وصحيحة فى هذا الشأن, مثل أن الحلم يحقق رغبة الحالم بشكل ما, وهو أمر قديم ليس لفرويد فضل فيه (الجعان يحلم بسوق العيش), أو مثل أن الحلم يحرس النوم, من حيث أنه يتضمن المثيرات التى تصل إلى مجال الحس فيقلبها حلما حتى لا توقظ النائم. كذلك قدم فرويد أفكارا أعمق مثل أن ثمة مستويين للحلم, الكامن والظاهر, كما تناول العلاقة بينهما بشكل رائع. وأيضا استطاع فرويد أن يحدد ما أسماه “العمليات الأولية” باعتبارها عمليات كلية متداخلة هلامية يتصف بها كل من الحلم والجنون، تستعمل فيها التكثيف والإزاحة وفرط التداخل والرمزية بعيدا عن الواقع. وقد قابل هذه العمليات بما أسماه العمليات الثانوية, و هى التى يستعملها الفكر الناضج أثناء اليقظة بما يسمى المنطلق المسلسل الذى يحترم “مبدأ الواقع”, ويكون فى متناول النقد والمراجعة. هذه هى الإضافة الأهم وراء حدس فرويد ورؤاه لتفسير الأحلام, وإن كان هو شخصيا لم يضعها على قائمة كشفه. فقد تصور أن كل ذلك يخدم تفسير محتوى الحلم أكثر من تقدير دوره فى وضع وظيفة عملية الحلم ذاتها – بغض النظر عن محتواه – فى مكانها الصحيح.
التعقيب:
إن الذى ثبت لى، بعد أكثر من قرن من الزمان أن هذا الحدس فيما يتعلق بتفسير الأحلام، ربما كان أضعف حلقات نظريته، وقد بالغ فرويد فى حماسه له، كما أسهب فى تنظيره حتى تعسف، وفى نفس الوقت نفسه اضطر للتسطيح ليحشر بعض التفاصيل قسرا لتكتمل رؤيته.
أما ما تسطح منه فهو التركيز على أحلام تحقيق الرغبة, وأيضا أن الحلم إنما هو حارس للنوم إذ يستوعب المؤثرات الخارجية التى تهدد النائم بالتيقظ فيدخلها فى نسيج حلمه كجزء منه فيتواصل نومه, وعلى الرغم من أن هذا وذاك جائز أحيانا وجزئيا, إلا أنه ليس كافيا لتفسير ظاهرة الحلم, ولا لقراءتها. فإذا أضفنا إلى ذلك مبالغاته فى ترجمة رموز الحلم العامة والخاصة، تبينا كم ابتعد بحدسه هذا عن جذور طبيعة الحلم وحركية الإيقاع الحيوى .
اعتراضات ماكجين على منظور فرويد للأحلام كانت أسطح من قصور مفهوم فرويد وأقل بكثير من الإضافات اللاحقة فى عالم دراسة الأحلام لمعرفة النفس الإنسانية والتنظيم الإيقاعى الحيوى لتركيب الدماغ ووظائفه, فقد اعترض ماكجين على فرويد أنه جعل الأحلام لتحقيق الرغبة فقط, وهذا غير صحيح,
- يقول ماكجين:
” لماذا الإصرار على أن كل الأحلام هى أحلام لرغبات غير مشبعة فى وقت يبدو كثير منها مشبع بوضوح، إن هذا الإصرار هو الذى يؤدى بالناس إلى البحث عن الرغبات اللاواعية التى تميز بها الحلم، فلماذا لا نتقبل ببساطة أن بعض الأحلام تمثل رغبات واعية, وبعضها الآخر يمثل مخاوف واعية.؟
- و يتساءل ماكجين أيضا:
” لماذا تكون آلية القمع ضعيفة إلى هذا الحد أثناء النوم, فى الوقت الذى تكون غاية فى القوة خلال ساعات اليقظة,؟. . . . هل معنى هذا أن الرقيب نفسه قد دخل فى سبات أثناء النوم فسمح بالمرور لرغبات كان من الطبيعى أن يمسك بها ويقمعها؟
- ويعترض ماكجين على أنه ليست كل الأحلام تحقيق رغبة، فبعضها يمثل مخاوف واعية؟
- وأخيرا يعترض على أن بعض الأحلام توقظنا, فكيف يحدث ذلك إذا كان وظيفتها الإبقاء على النوم واستمراره ؟
كل هذه الاعتراضات لا تحتاج إلى رد أصلا, لولا أنها نشرت حديثا, إن ثمة اعتراضات أهم وأوضح وأكثر دلالة سوف نوردها بعد التنبيه على اعتراضنا على اعتراضات ماكجين.
نبدأ بالرد على ما أورده ماكجين قائلين:
إن فرويد لم يعمم أن كل الأحلام هى مجرد تحقيق رغبة.
ثم إن التساوى بين الرغبة والخوف هو من أولويات الفهم الدينامى للغة اللاشعور, وهو أمر معروف قبل فريد بزمن بعيد.
إننا نخاف مما نرغب فيه, كما أننا نخفى رغبتنا فى الشيء بإعلان الخوف منه.
ثم إن مقولة أن الحلم حارس للنوم هى مقولة لم يطلقها فرويد تعميما ليفسر بها كل الأحلام, وأخيرا فإن ضعف قبضة الرقيب أثناء النوم هو أمر وارد ومنطقىّ دون حاجة إلى السخرية باعتبار الرقيب قد راح فى سبات عميق.
إن هذا الدفاع عن فرويد فى مواجهة نقاده السطحيين لا يعنى أن نظرية فرويد سليمة على طول الخط, أو أنها بالعمق المناسب التى يمكن أن نفهم من خلالها ظاهرة بكل هذا العمق, أعنى الحلم. إن تجاوز ما قاله فرويد عن الأحلام قد بدأ ثم تطور حتى اختلفت رؤيتنا لهذه الظاهرة نتيجة لما تحقق بعده من إنجازات نيوروفسيولوجية من ناحية, وأيضا نتيجة لرؤى كارل يونج الأعمق, وأخيرا، فقد قدم كاتب هذه السطور سلسلة من الفروض لفهم الحلم والإبداع من مدخل الإيقاع الحيوى
إن نظرية تفسير الأحلام ومتعلقاتها رغم فرحة فرويد بها ليست أهم اكتشافاته، بل لعلها أضعف حلقات نظريته.
إشارة موجزة (جدا) لنظرية الكاتب فى الأحلام والإيقاع الحيوى
- لم يعد محتوى الحلم هو الأهم بالنظر فى ظاهرة الحلم.
- إن حدوث الحلم – فى ذاته- هو الذى يحظى بالاهتمام حاليا.
- إن ظاهرة الحلم أصبحت محور البحث والدراسة، وهى المفتاح الأنسب لدراسة معنى وهارمونية التناوب الوظيفى لمستويات الدماغ المتآلفة من خلال تبادل النشاط, ليس فقط من الناحية الفسيولجية, ولكن من الناحية النوابية البيولويجية عامة (الإيقاع الحيوي) بما فى ذلك التناول النفسى.
بعد ظهور رسام المخ الكهربائى ورصد النوم ومراحله تفصيلا, صار رصد الأحلام بهذا الرسام هو المدخل لفهم وظيفة الأحلام الترصينية (رصّن الشىء: أكمله وأحكمه Repatterning) وهى الوظيفة التى تشمل نوعا من التعلم بإعادة التنظيم. يحدث ذلك سواء حكينا الحلم أو لم نحكه.
من خلال تجارب الحرمان من النوم, والحرمان من الأحلام ثبت أن وظيفة الحلم (مرة أخرى: سواء حكيناه أم لم نحكه) هى بمثابة صمام أمن ضد الجنون,
- ذلك أنه من خلال الحلم يسمح لنشاط المستويات الأخرى من المخ (الدماغ) التى لم تأخد حقها أن تنشط أثناء اليقظة, وهى مستويات أقدم تطوريا, يسمح لها أن تأخذ حقها فى التنشيط المناوِب,
- وبالتالى لا تضغط أثناء اليقظة فتثور بطريقة بدائية تصل إلى درجة التنشيط الشاطح البدائى الذى يحل محل التنشيط الأحدث أو المتكامل.
- أوضح كاتب هذه السطور فى نظريته أيضا :
o دورالحلم باعتباره إبداع الشخص العادي,
o وأن الحلم بالقوة ليس فى متناول مستوى وعى اليقظـة أصلا,
o وأن الحلم المحكى ليس سوى ما يؤلفه النائم فى الثوانى (أوأجزاء الثواني) وهو بين النوم واليقظة قرب الاستيقاظ أو أثناءه,
o وأن هذا التأليف (الإبداع) يتم من خلال تكوين جملة الحلم مما فى المتناول قرب اليقظة من أبجدية المعلومات التى تحركت أثناء نشاط النوم الحالم.
o وأن النوم الحالم الذى يستغرق ساعتين كل ليلة بواقع حوالى عشرين دقيقة كل تسعين دقيقة بانتظام يقوم بوظائفه المنظِّمة والرائعة بغض النظر عما يتبقى منه فى متناولنا أثناء استيقاظنا لننسج منه ما نحكيه على أنه الحلم.
o وبالتالى فإن ما نحكيه من بقايا آخر حلم- قرب اليقظة – وهو لا يتعدى الجزء من الثانية إلى بضع ثوان هو ما تمكنا من التقاطه لننسج منه أحلامنا.
o إذن، فمادة الحلم المحكى هى ما تحرَّك فى هذه الفترة الوجيزة قبيل اليقظة فاصبح فى متناول وعى ما قبل اليقظة مباشرة, مما يسمح لنا أن نؤلف منها ما نسميه حلما.
لقد بلغ من الاهتمام بأهمية وظيفة الحلم مؤخرا أنه يمكن القول:
إن النشاط الحالم أثناء النوم هو أهم من النوم نفسه, وكأننا ننام لكى تسنح لنا الفرصة لنحلم, وليس -كما قال فرويد – إننا نحلم لكى نستمر فى النوم.
إن قراءة تفسير الأحلام عند فرويد من خلال هذه الإنجازات الأحدث, تعرى نظريته لدرجة تنبه أن الحلم المحكى لا يمثل جوهرا حقيقيا بالنسبة لظاهرة الحلم الأعمق, وإن كان يُـحسب له أنه أشار إلى الفرق بين الحلم الظاهر (وهو ما أسميناه هنا الحلم المحكي) والحلم الكامن الذى قد يكون ما يقابل ما أسميناه (الحلم بالقوة) “يومية 13-3-2008 نقد على نقد”
مآخذنا أقدم فى تسطيح الأحلام
على الرغم من أن اعتراضات ماكجين على نظرية فرويد فى الأحلام هى أسطح وأغلط من أن يـُرد عليها أصلا, إلا أنها تدعونا للنظر فى نظرية أحلام فرويد بطريقة موضوعية من جانبنا على الوجه التالي:
إن ثقافتنا العربية سبقت فرويد -للأسف- فى خطيئة اختزال الحلم إلى محتواه, ولم يكن أمامنا وأمامه حينذاك, إلا ذاك. كذلك نحن سبقناه فى ارتكاب خطأ المبالغة فى ترميز علامات الحلم, وإن كان هو لم يغال فى التعميم مثلما فعل ابن سيرين مثلا. إن هذا الخطأ رغم أنه تاريخ قديم إلا أنه مازال هو المدخل العام لعامة الناس عندنا إلى فهم الحلم وتفسيره، بل إنه امتد للأسف إلى تشويه كثير من نقد إبداع أصيل وصل إلى النقاد على أنه حلم، حين نبالغ فى ترجمته إلى رموز جاهزة، حتى لو كان مبدعه (محفوظ) قد تورط أحيانا فى ذلك “قراءات فى نجيب محفوظ”، “أصداء الأصداء”.
بل إن ثقافتنا قد تقدمت خطوة أخرى فى طريق الشطح الهروبى حين بالغت فى قيمة الحلم التنبؤية, وهذا خطأ لم يقع فيه فرويد فى حدود ما وصل إينا.
- إن محتوى الحلم ينبغى أن يعامل بحذر شديد, باعتباره الجزء المتاح من إبداع مجهض,
- وبالتالى فهو لا يمكن قراءته إلا نقدا مكثفا فى سياق الوعى الأشمل للوجود الفردي,
هذا إذا لزمت قراءته أصلا.
- إن أهم ما نتعلمه من الحلم, ونحرص على احترامه, هو الإقرار بمبدأ التبادل التنظيمى لمستويات المخ,
- وأن نحترم العلميات التعلـُّمية والتنظيمية التى تحدث حتى ونحن نيام.
- إن الإقرار بقيمة نشاط عالم الحلم, خاصة فيما يتعلق بوظيفته يجعلنا نقرأ الحلم فى تكامله مع نشاط اليقظة, حتى دون معرفة محتواه, أو محاولة تفسيره بترجمة رمزية تعسفية,
- هذا هو السبيل الأحدث للإقرار بحق الذات فى الامتداد إلى ما لا تعرف, وإبداع ما هو مفتوح النهاية.
- ثم إننا لم نعتن, ولا شاع بيننا، ما أضافه سيلفانو أريتى من فرض التآلف الوارد بين العمليات الغالبة فى الحلم (العلميات الأولية Primary Processes ) وتلك الغالبة فى اليقظة العادية، العمليات الثانوية (=المنطقية الحسابية السببيةSecondary Processes ) بما أسماه “العمليات الثالثوية”(Tertiary Processes) . التى تحتوى الاثنين معا ليصبح الناتج إبداعا. الأمر الذى نحن فى أشد الحاجة إليه. (مع أن سيلفانو أريتى لم يتعرض لتفسير الحلم باعتبار أنه إبداع الشخص العادى كما أشرنا).
واخير: فرويد وتشريح الشخصية
ننتقل الآن إلى آخر نقطة فى هذه الثلاثية، ونحن نعيد التعرف على فكر فرويد، وما وصل إليه حتى الآن، وننظر فيه من خلال ما يناسبنا ، هذه النقطة الأخيرة هى ما يتصل بما قدمه من فهم عن تركيب الشخصية الإنسانية أو تشريح الشخصية كما أسماه هو:
تجاوز فرويد نظرياته الباكرة وأضاف إليها فيما عرف بفكر فرويد المتأخر حين راح يقسم النفس إلى تركيبات محددة هى “الأنا”و”الهو” و”الأنا الأعلي”, وهو تقسيم مفيد وإن كان ينقصه الكثير.
يعيب ماكجين على فرويد هذا التقسيم بقوله:
”. . إن عرض فرويد لهذا التقسيم الثلاثى داخل العقل، تتنافس كل منها لجذب الانتباه, كما لو أن العقل ساحة حقيقية لفرقاء متحاربين، لكن هذا شىء لا يمكن أن نقبل به إلا على سبيل المجاز”.
التعقيب:
نحن بدورنا نأخذ على فرويد هذا التبسيط المخل, لكننا فى نفس الوقت نرفض اعتراض ماكجين وتفصيل ذلك:
إن فرويد لم يطرح هذا التقسيم ليزعم أنها ثلاثة تنظيمات, ويا ليته فعل. وبالتالى فإنه يؤخذ عليه, مقارنة بالتحليل التفاعلاتى (إريك بيرن) مثلا، أنه يعنى بالـ “هو” (أو الـ”هى”) مجرد الطاقة الغريزية البيولوجية والمكبوتة، وأنها قوة فجة فى حالة من الشواش والفوضى. إنه يعتبر هذا الدافع البدائى الغرائزى قوة ضاغطة ومؤثرة جدا، لكنها بلا معالم ذاتية محددة، أى أننا نعيش آثارها وكأننا تحت رحمتها دون أن نتعرف على معالمها :تركيبا له غائيته التطورية المختلفة، خاصة إذا ما انفصل – فى المرض- عن كلية التكامل البشرى النابض. من هنا يمكن أن نعتبر تعامل فرويد مع الغرائز عموما، بما فى ذلك غريزة الجنس، تعاملا ديناميا أكثر منه تركيبيا حواريا يحتمل الجدل النامى الخلاق.
فى المقابل حدد فرويد ما أسماه ”الأنا الأعلي” رقيبا وضابطا لا شعوريا يقوم بعمليات تشبه الضمير الخفي (بالرغم من تأكيده على عدم الترادف), كما يقوم بعمليات القهر الضمنى، لصالح التكيف الاجتماعى.
إن التشريح الطوبوغرافى للشخصية عند فرويد ينقصه التفكير المنظوماتى الهيراركي, وإن كان لا ينقصه الحس التطورى، كما ينقصه التبادل الحيوى الإيقاعى كذلك, وأيضا هو ينقصه ينقصه البعد الجدلى الغائى النمائى، الذى يسير بنا إلى غاية متعالية محتملة باستمرار فيتضح لنا إلى أين تذهب بنا حركية هذا التركبيب التشريحى، وهل يقتصر الأمر على دينامية التوازن، أم أن ثمَّ سعيا واردا نحو تشكيل ولاف أعلى مفتوح النهاية كما قالت بذلك بعض المدارس الأخرى بأسماء مختلفة مثل التفرد Individuationعند يونج, والناضج المتكامل Integrated Adultعند إريك بيرن؟
لا يؤخذ على فرويد إذن أنه جعل الذات ساحة لفرقاء, بل بالعكس، قد يؤخذ عليه أنه جعل الأنا (الذات الشاعرة الظاهرة) هى المعبر الوحيد لكل ما عداها, مع أنها تعيش تحت رحمتهم, لأنه اعتبر أن كل ما عدا هذه الذات الشاعرة EGO لا تعبر عن نفسها إلا تحت تأثير الميكانزمات الغالبة ومن خلال هذه الذات الشاعرة (الأنا).
هنا تجدر الإشارة إلى مدرستين تجاوزتا فرويد فى هذا الصدد, الأولى مدرسة العلاقة بالموضوع, والثانية مدرسة التحليل التفاعلاتى (إريك بيرن),. كلا من هاتين المدرستين يمكن أن تكون أقرب تلاؤما مع ثقافتنا أكثر من مدرسة التحليل النفسى الفرويدى. إن الواجب علينا هو أن نبحث فى المدارس – وما أكثراها- (يومية 24-3-2008 مدارس ونظريات وافتراضات أساسية) عما يناسب ثقافتنا وليس ما شاع فى مرحلة ما لأسباب تاريخية وسياسية لا تنطبق علينا أصلا.
خذ مثلا مدرسة العلاقة بالموضوع (المدرسة الإنجليزية للتحليل النفسى بدءا بميلانى كلاين، وفيربيرن ثم جانترب وآخرين) وهى المدرسة التى تعتبر أن نمو الإنسان يتوقف على تعامله مع الموضوع (وليس-أساسا- على تحكمه فى غرائزه):
يبدأ ذلك من موقعه داخل الرحم حيث “لا موضوع” يصل إلى وعى الجنين باعتباره كذلك، هذا الوضع يمتد خارج الرحم عقب الولادة مباشرة ليستمر من بضعة أيام إلى أسابيع (وربما أشهر, ويسمى الموقف الشيزيدي schizoid position), ثم تتحدد علاقته بالموضوع (الآخر) من خلال اعتبار أن الموضوع/” الآخر” يحمل خطر الهجوم فالسحق، فتصاغ العلاقة باعتبارها علاقة هجوم دفاعى وبالعكس (موقف الكر والفر: الموقف paranoid position). لكن الطفل يتبين أن الآخر ليس عدوا فحسب, وليس تهديدا صرفا, بل إنه مصدر الحنان (صدر الأم) والحياة (لبنها), فينتقل من مجرد الكر والفر إلى موقف “الود الحذر”(المحب الخائف المتردد ثنائى الوجدان) باعتبار أن”الموضوع” (الأم) هو مصدر الحياة لكنه أيضا يهدد بالاختفاء والهجر, وهوما يسمى الموقف depressive position) وهو موقف يشمل تحمل الغموض, مع استمرارية محاولات الاقتراب فالبعد بحذر ودود. هذا الموقف هو الأساس الأولى للنضج البشرى الحقيقى، إن هذه المواقف المتتالية بالرغم من أسمائها المستمدة من أمراض, هى مواقف طبيعية يمر بها كل شخص, وبقدر نجاحه أو فشله فى اجتيازها تتكون مواضيع داخلية طيبة حانية, أو عدوانية قاهرة, من خلال انشقاقات متتالية فولاف يتكون إلخ..
هذه المدرسة هى المعروفة باسم المدرسة الإنجليزية للتحليل النفسى. الناس عندنا يعرفون عنها أقل القليل أو لا شيء إطلاقا. وهى مدرسة تأخذ على فرويد موقفه “البيولوجي” (على حد زعمها) بمعنى أنها ترى أن فرويد يبدأ مما هو غريزى، ويحدد مسار ومصير الإنسان بقدرته على التحكم فى هذه الغرائز التى أهمها الجنس, ونلاحظ هنا أن ما يأخذه الأطباء (المنتمون للفكر الكيميائى الميكنى تحت اسم النموذج البيولوجي) على التحليل النفسى الفرويدي هو أنه ضد البيولوجي, مع أن مدرسة العلاقة بالموضوع تتهم فرويد بالإفراط فى البيولوجية. لعل ذلك يرجع إلى أن فرويد لم يركز على أهمية وتنويعات العلاقة بالآخر إلا من خلال “عقدة أوديب” (وما يقابلها عند الإناث).
من منظور ثقافتنا !!
الأرجح عندى – ولومرحليا- أنه يمكننا أن نفهم أنفسنا من خلال مدرسة العلاقة بالموضوع، خصوصا فيما يتعلق بتضخم وجودنا ووقفته الطويلة عند موقف الكر والفر (الموقف البارنوى التوجسي). يتجلى ذلك أكثر ما يتجلى فى تفسير علاقتنا بالآخر الأقوى, أو الغريب بصفة عامة, وبالذات فى مجال مواقفنا السياسية والشخصية أيضا. أضف إلى ذلك حضور غالب لموقف الاعتمادية الرضيعية (الموقف الشيزيدي) عندنا فى علاقاتنا العاطفية خاصة. هذا الموقف رغم ظاهر حرارته يلغى الموضوع (المحبوب) باحتوائه أوالفناء فيه.
أضافت النظرية التطورية الإيقاعية – لكاتب هذه السطور- أن هذه المواقف ليست قاصرة على مراحل النضج الأولى, وأنها ذات جذور بيولوجية تطورية, وأنها مرتبطة بمنظومات هيراركية الدماغ, وأنها تتكرر باستمرار, مما لا مجال لتفصيله فى هذا المقام (كتاب دراسة فى علم السيكوباثولوجى)
المدرسة الثانية التى قد تكون مكملة لما يتناسب معنا، وهى التى استلهمت فرويد لكنها فاقته بـبساطتها ومباشرتها, وإن كان رائدها- إريك بيرن لم يستغل كل حدسه المتجاوز-، هى مدرسة التحليل التفاعلاتى Transactional Analysis (هذه ترجمة المرحوم أ. د. عبدالعزيزالقوصي, وهى غير دقيقة, لكننى لم أجد لها بديلا حتى الآن).
تقول هذا المدرسة إن الإنسان ليس مجموع أجزاء وقوى متصارعة فيما بينها, وإنما هو تركيب منظوماتى، هو عدة أناسِىّ (عدة منظومات بيونيورونية = حالات الذات Ego States – حالات للذات- حالات العقل ..إلخ). إن كل منظومة هى ذات متكاملة, ولها الحق أن تقود السلوك فى تتابع حسب الموقف والإيقاع, وأن أى ذات قد تتبادل مع أى ذات أخرى, بتغير طور الإيقاع الحيوي, وبتغيرالموقف علي حد سواء.
إن الإنسان, من وجهة نظر هذه المدرسة, هو كيان متكامل واحد فى لحظة بذاتها, كما أن مسيرته وصحته ونمائه وتطوره, إنما تعتمد على مدى تناسب ظهور حالة من حالات الذات فى الوقت المناسب والمجال المناسب لظهورها, وأيضا على مدى مرونة التبادل بين حالات الذات وبعضها البعض فى المواقف والأوقات المختلفة.
إن هذا التعدد فى الذوات هو نقلة نوعية, على بساطتها, تتجاوز فرويد بمراحل كما يلى :
أولا: هى تحترم التناوب الضرورى لتكامل الوجود البشري, وبالتالى تتخلص من افتراض الصراع العرضى المستمر، وخاصة من حيث أنه ليس دائما صراعا لنصرة طرف واحد
ثانيا: هى بنظرتها للإنسان على أنه كيان متعدد الذوات, وليس عدة أجزاء، تسمح بالفرصة للذوات جميعا أن تتناوب ليس بين النوم والحلم واليقظة فحسب, ولكن أيضا أثناء اليقظة.
ثالثا: إنها تتعامل مع هذه التنظيمات البيونفسية ليست باعتبارها ماض مخزون ومكبوت ومثبت (عقد نفسية), وإنما باعتبارها حاضر متاح ومحترم ومعترف به, وبالتالى فبين لحظة وأخرى يمكن أن يحدث تباديل وتوافيق حسب الحاجة.
وأخيرا: إن هذه النظرية يمكن فهمها وقبولها من منظور فينومينولوجى من ناحية, حيث تمثل كل “حالة ذات”, منظومة كلية حاضرة لها مميزاتها السلوكية والوجدانية والفكرية, كما أن لها أساسها النيورونى فى تركيب المخ البشرى.
من الخطأ الشائع أن تختزل الذات الطفلية إلى ما يقابل “الهي/ الهو” عند فرويد, وأن تختزل الذات الوالدية إلى ما يقابل “الأنا الأعلى عنده ”، ثم الذات الناضجة إلى ما يقابل “الأنا عند فرويد”. أقول إن هذا خطأ شائع لأن تقسيمة فرويد ليس فيها إلا ذات واحدة هى “الأنا” وكل ما عدا ذلك قوى خفية، ليس لها حق الظهور إلا من خلال هذه الذات الواحدة كما ذكرنا (الإجو Ego), ولو بتأثير غير مباشر. إن ”الهو” عند فرويد هو طاقة فوضوية ضاغطة وليست ذاتا كلية متماسكة, كما أن الأنا الأعلى هو مؤثر خفى ليس له حق الظهورمباشرة أيضا.
يتبين من هذه العجالة أن النقد الذى يمكن أن يوجه إلى فرويد هو أن فكره كان قاصرا عن الاقتراب من منظومات الإنسان الكلية المرتبة هيراركياً فى تبادل إيقاعى متناوب, وليس بالضرورة متصارع, أو مهدد بالفوضى والتشتت, الأمر الذى ترتب عليه أنه اضطر أن يصيغ نظريته باختزال القوى الفاعلة إلى ما تحتويه وتعبر عنه “الأنا” الظاهرة الواحدة. من هنا لم يكن أمامه فرصة أن يرى مسيرة الولاف بين هذه الذوات المتباعدة، فالمتحاورة, فالمتكاملة فى ولاف نام مفتوح النهاية.
وفى النهاية:
لعل مفاهيم التعدد والتصالح والجدل الحيوى والتبادل بين الذوات فى الشخص الواحد هو قريب أيضا من بعض التوجهات الشائعة فى ثقافتنا, وخاصة فى جانبها التصوفى (الشعبى أو الجوهري) وذلك من خلال دوام السعى إلى التكامل بالمطلق من خلال قبول “الكل فى واحد”.
ولهذا حديث آخر حين نتناول بالتفصيل “النظرية الإيقاعية التطورية” للكاتب.