نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 24-5-2025
السنة الثامنة عشر
العدد: 6475
الجزء الثالث من ثلاثية: “المشى على الصراط”
رواية “ملحمة الرحيل والعوْد” [1]
الفصل الثانى
عزبة البكباشى (2 من 2)
………………………
………………………
-4-
ـ صباح الخير.
ـ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
ـ ألم يكن هذا أذان الظهر.
ـ ظـُهر ماذا يا سيدنا لافندى، نحن قربنا على المغرب، اسم الله على مقامك.
لم يكدْ يكمِل الجملة حتى وجدته يتلفت فزعا حواليه.
ـ خير مالك؟ مالك؟ هل أزعجتك؟
ـ مالى؟ القطار لم يحضر بعد، والمزلقان مفتوح، سعادتك شاهد.
ـ شاهد على ماذا؟
ـ على أن المزلقان مفتوح.
ـ طبعا، مادام القطار لم يأت، هل حصل شئ.
ـ ما هو المصيبة أنه لم يحصل.
ـ إذن ماذا؟
ـ ولا حاجة.
ـ طيب.. طيب هدِّئ نفسك.
ـ أنا اسمى جلال غريب.
ـ خدَّامك عبد المعطى.
ـ خدام من يا عم؟.
ـ ما هو لو كان حصلت حاجة كنت استاهل، إنما لم تحصل أيها حاجة.
ـ تستأهل ماذا؟ فهـِّمنى. هل حان موعد القطار؟
ـ حان أم لا، لن تمر عبر المزلقان إلا بعد القطار.
ـ يا عم عبد المعطى، أنا أسير على قدمى، لست عربة لتمنعنى، ثم إن المزلقان مفتوح.
ـ ولو….، طيب علىَّ الطلاق بالثلاثة ما يحصل.
ـ أنت متزوج؟
ـ لأ.
ـ طيب؟.
ـ أنا حلفت بالطلاق والختمة والمصحف الشريف وكل أيمانات المسلمين والنصارى والكفرة كمان.
ـ طيب طيب هدّى روحك.
ـ ألا يمكن أن تكلمهم لى يا سيدنا الأفندى ينقلونى من هنا؟
ـ أكلـِّم من؟
ـ أى أحد.
ـ يعنى أروح أقول لهم يا أى أحد انقلوا عبد المعطى؟
ـ أيوه.
ـ تحكى لى، يمكن أفهم.
ـ تفهم؟ باسم الله ما شاء الله، طبعا تفهم ونصف، ألاّ قل لى يا سيدنا الأفندى، أليس كل شئ بأمره؟
ـ طبعا.
ـ إذن لماذا؟ … لماذا إذن؟
ـ يا عبد المعطى تريدنى أن أشم على ظهر يدى، عذرك معك، لكن إما أن تحكى لى، وإما أن تدعنى أمرّ.
ـ بعد القطار.
ـ بعد القطار، تحكى لى، أم أمر؟
ـ الاثنان بإذن الله.
ـ هل ستدخل لى قافية؟
ـ أستغفر الله، وحياة النبى أنا أتكلم جد.
ـ طيب.. طيب، بعد ما القطار يمر تحكى لى.
ـ أنا حكيت لما شبعت حكى بلا فائدة.
ـ ولو….
مر القطار، وتلكأ جلال فى عبور المزلقان، وهدأ عبد المعطى...
راح يحكى بعد إلحاح متوسط:
“كان اليوم جمعة، وكنت نائما تمام التـمـام، وكنت تعشيت عند عمتى مريم ربع فطيرة بحالها، وليس بى أى “حجة”. كنا قبل صلاة الجمعة، قـل بساعة ونصف، الإشارة علقت، المفروض تنور قبل القطار ما يأتى بثلاث أربع دقائق، أقوم أنا أقفل المزلقان، وأمنع العربات، خمس دقائق فاتوا، والحكاية طالت وهات يا زمامير، وهات يا سباب، وهات يا قلة حياء، افتح يا حمار، وراءنا مصالح، افتح يالوح، وناس بهوات كما تشاء، قلت يمكن أنا غلطان، يمكن الإشارة غلط، قمت فتحت المزلقان نصف فتحة، أنا فتحت من هنا وقبل ما تمر أى عربة، لمحت القطار من هنا، رحت قفلت فى ثانية. كانت القفلة ستأتى على العربة التى كادت تمر، هل فى ذلك شئ؟ بوزها كان سيمر لكنه لم يمـر، لم تخدش، ربنا ستر.
ـ الله نوّر، جاءت سليمة.
ـ لا العربة جرى لها شئ، ولا أحد مرّ، ولا حصلت أيها حاجة من أصله.
ـ الحمد لله.
ـ بس….، من يومها وأنا لا أعرف كيف أتلم على روحى، كل شوية يهيأ لى إن العربة عدّت، وإن القطار دهسها، ودهسنى، وأنا عارف ومتأكد إنه لم يحدث أى شىء من ذلك.
ـ هذا هو كل شئ؟
ـ وهل هناك أفظع من ذلك؟
ـ الله يسامحك، قدر ولطف يا أخي!.
ـ هكذا يقولون، كل الناس تقول مثلك، هو سعادتك من أين؟
- من مصر.
ـ ما هى مصر كبيرة، يعنى من أين من مصر؟
ـ يعنى يا عبد المعطى لو قلت لك من أين سوف تفرق معك؟
ـ لا أبدا، لكن يعنى، عن إذنك أحسن الإشارة نورت، والقطار الثانى قادم.
-5-
اقتربت من عبد المعطى حتى صرت مكانه، أحطت بما أحاط به مرعوبا، فزعت حتى شعرت أنّ على أن أنصرف حالا، أنا لا أعرف ماذا أفعل أنا أيضا، لم أفهمه في البداية، هو يعيش ما لم يحدث، كأنه حدث، فجأة صدقت مثله أنه حدث، رعبتُ مثل رعبه، كفى هذا، أريد أن أنصرف، ناديته رغما عنى بعد أن مر القطار، سلـَّمتُ عليه بحرارة وسألته إن كان يمانع أن أحضر له بين الحين والحين، نتكلم.
ـ نتكلم فى ماذا؟ هل ستكلمهم لى فى حكاية النقل؟
ـ حاضر، لكنى لا أنا أعرف أحدا، ولا أنا حتى عارف اسمك بالكامل.
ـ اسمى؟ اسمى بالكامل؟ هذه هى البطاقة.
قال ذلك وأخرج بطاقته الشخصية لتوه، فخشيت أن أنقل اسمه كتابة فيطمع فيما لا أعرف إليه سبيلا، حفظتُ الاسم من باب المجاملة “عبد المعطى أحمد أبو النجا”.
ـ بصراحة يا عبد المعطى لا أريد أن أطمّعك، أنا لا أعرف ناسا مهمين، ولكنى قد أحضر ثانية ربما لأطمئن عليك، عندك مانع؟
ـ مانع؟ اسم الله على مقامك، تحضر يا سيدى وقتما تريد، هذه أرض الحكومة، ياليت كان عندى بيت يليق بالمقام، تحضر ونصف.
ـ ونتكلم.….
ـ طبعا نتكلم، ما دمت ستحضر، سنتكلم.
لم أعرف هؤلاء الناس من قبل، مع أن كل حديثنا، أحاديثنا، كانت عنهم، كنا نتصور أننا أولياء أمورهم، نحن لا نعرفهم أصلا، لم نعرفهم أبدا، وربما لن نعرفهم فعلا.
-6-
قبل أن أنصرف، لمحتُ المرأة التى كان يناديها عبد المعطى أثناء حديثنا بالحاجة وردة، ولم أكن أتابع لمَ يناديها بهذا الإلحاح، وماذا يطلب منها، لا تكاد تجلس على طرف أريكة من أرائكها المفروشة بشرائط مصنوعة من قصاصات قديمة حتى تقفز كأنثى النمر التى رأت ثعلبا شهيا، لم تكن، حاجّة ولا وردة، كانت نـمِـرة فتيّة متوهِّجة، جمالـُها قوىّ لا يستأذن، لم تبلغ الثلاثين، أو كأنها كذلك، صدرٌ نافر دون حامل، فى الأغلب. جلبابها أقرب إلى جلباب الرجال لكن الزركشة على الصدر تميزه، بدت لى أنثى مستكفية بلا رجل، نادت على ابنتها ذات الأعوام السبعة، لم ترد، دخلتْ إليها وعلا صوتهما دون تمييز، خرجت البنت من العشة فى نشاط يقفز حواليها، جميلة، طازجة مثل نسمة الصباح قبل طلوع الشمس قبيل دخول الشتاء، فائرة مثل القيلولة، رائقة متنوعة مثل غسق بعد الغروب، هذه البنت صورة جميلة مصغرة، تمنيت أن تكون لى ابنة شكلها، كذاب أنا، لا أستطيع أن أتحمل مسؤولية أن أكون أبا لبنت بهذا الجمال، أنا لا أصلح أبا، مثلى مثل أبى الذى لم أره، تزوجت مرة ولم أنفع، لستُ متأكدا هل أنا الذى لم أنفع أم هى؟ نحن الاثنان لم ننفع، كنا مثل بعضنا البعض.
تعرفتُ عليها بالصدفة، والدانا جاران، كانا جارين، هى رأت والدى، أنا لم أره، لا أذكره، التقينا بعد ذلك فى ميدان التحرير ونحن نحتجّ معا على الصمت والهزيمة، ثم صنـَّفُونا سبعينيين، لست منهم، من الذى أطلق عليهم – علينا- هذا الاسم، كله من السادات، الله يرحمه، لا نحن فهمناه ولا هو وضعنا فى الاعتبار، أحسن، جاء اليوم الذى يصبح عدم الوضع فى الاعتبار مزية، السبعينيون هم نتاج الثورة الحقيقيون، بكل الحماسة، والإخلاص، والخبرة الزائفة والسطحية، والثللية والنفـَس القصير، الستينيون الذين يتباهى بهم الناصريون حملتْ بهم مصر وتكونوا قبل الثورة، لماذا استولت الثورة عليهم ونسبتهم إليها؟ لماذا فخروا هم بذلك؟ أكره هذه التقسيمات، لا أنا سبعينى ولا تسعينى، كانت هناك ثورة، نعم، من ينكر؟ إن كان على الجيش فقد قام بحركته المباركة، الناس ثوَّرتها، ثم تنازل الناس، أو لعل الناس تنوزلوا عن الاثنين بخبطة واحدة، عن الحركة، وعن الثورة معا، لم تكن خبطة، واحدة بل خبطة، فخبطة، فخازوقا مغرِّيــا، فتلوُّثا، فانفشاخا، فانفلاتا، فوصاية، فتشققا إلى جزر منعزلة ذات سيادة.
قررتُ أن أولد اليوم كما أريد، أن أفعل ما يبرر استمرارى عاما آخر، لا أريد أن أرجع لبيتى، لست هناك، حين أذهب هناك لا أجدنى، لا بديل عن السفر، أحاور الجبال وأسمع همس بحر خليج العقبة، الأوتوبيس يقوم فى منتصف الليل، ماذا أعمل من هنا حتى منتصف الليل؟ الثوار يصنعون الثورة ولا يعرفون من يرثها، سوف أصنع ثورتى الشخصية دون أن أعلنها، ليس لى وريث شرعى، ولا غير شرعى، ”أنا مسؤول عن كل لحظة، من الآن فصاعدا”، “حلوة هذه !! كيف؟”.
”لن أعلن عن ثورتى الخاصة حتى لا يستولى عليها غيرى”.
أخاف أن أرجع إلى منزلى، أخاف من رنين الهاتف، يصرون على تهنئتى، بـ “ماذا” بالله عليهم؟ حتى لو رفعتُ السماعة وأغلقتها دون أن أرد فمن يضمن لى أنهم لا يطبـُّون علىّ ليطمئنوا!!. أنا أحب الناس ولا أكره طبعهم، الناس بغير طباعهم ليسوا ناسا، لكن لابد من أن أحافظ على مسافةٍ ما، تتسع المسافة أم تضيق؟ لا أعرف، لكنها ضرورية كى أستطيع أن أتنفس.
كيف استطاع عبد المعطى، ووجه الصبية بنت الحاجة وردة أن يلغيا المسافة بينى وبينهم هكذا دون استئذان، هل اقتربوا هم أكثر؟ متى يختفون مثل غيرهم؟ يارب لمَ هذا؟ أعجب شئ هذا اليوم أننى لم أتعب بعد، الحاجّة وردة لم تكتف بإلغاء المسافة.
لا أحمل ساعة، قصدا، قررتُ تجاوز الزمن، قال يعنى، لولا أذان العصر الذى نبهنى إليه عبد المعطى لما عرفت أن اليوم كاد ينقضى، وحتى إذا قررتُ السفر هذه الليلة إلى دهب فى أوتوبيس منتصف الليل فسوف أفعلها دون حقيبة، سوف أظل هكذا بكامل ملابسى حتى أعود، تحسستُ جيبى ووجدت المحفظة، اطمأننت، لكنى خفت أن أفتحها لأعد ما بها، أنـا على يقين أن بها ما يكفى أجرة الأتوبيس ذهابا وعودة، أنا أكاد لا أصرف شيئا هناك، حين أعود سوف أبدأ ما انتويته.
لم يعد هناك ما يسترون به عوراتهم حتى يحتاج الأمر إلى جهد الصحافة لتعريهم، لم أعد أصلح لها، ولم تعد تصلح لى، لم تعد صحافة، ما معنى الصحافة؟ هل لها لزوم؟ الاعتراف فضيلة، لم تعد لى مهنة، هى التى استغنتْ عنى، معها حق، ثريا أيضا استغنت عنى، منال لا تقترب أصلا مع أنها الأقرب، هى أيضا معها حق، لكنها مثلى تدفع الثمن وحدها، كلهم معهم حق،
”دعك من حكايات الحق والواجب، لابد من عمل”.
”آفتنا- آفة البشراليوم،”. …
”أهكذا خبط لصق؟! آفة البشر؟ كل البشر!!.
لا. لا طيب آفتنا نحن، فقط – آفتنا: ليست السياسة ولا الاقتصاد، إن آفتنا ـ وربما آفة العالم….”.
”واحدة واحدة يا جدع انت، بطل خطب”.
”آفة العالم هى فساد اللغة”.
”لا ياشيخ ؟!”.
لم تعد اللغة الحاضرة قادرة على برمجة الدماغ بما يؤكد ما يميز الإنسان، أنا أحب اللغة، اللغات، أعرف أسرار لغات الحاسوب (أكره هذا الاسم بالعربية لأنه غير دقيق، سوف أسميه الكمبيوتر بعد ذلك).
نسيت نفسى وأنا أتمادى فيما لا طائل وراءه فصحت فىّ:
“ما هذا !!؟؟ اللــــّه!!” .
ومع ذلك واصلتُ: أنا تعلمت اللغة قبل أن أتعلم الكلام، كان عمى سليمان يحتوينى داخل عباءته وهو يقرأ القرآن، ربما بدأ هذا وأنا لم أبلغ الثانية، نشأتُ وأنا أهتز مع تمايل جسده وهو يهدهدنى ويقرأ، حتى لما كان يخفت صوته كانت تصلنى الأنغام كأنها هى هى، فتتخلق الألفاظ كما تشاء دون تمييز، ملأتنى هذه اللغة مشتملة، صوت عمى سليمان، دفء عباءته، الترتيل، الألفاظ، أصداء المعانى تصلنى دون ألفاظها، هل يمكن؟
أحلم أن أقدِّم خبرتى إليهم، أريد أن أنقل تجربة معنى أن يكون اللفظ صورة تبعث الأنغام، لا رمزا يترجَم إلى رموز مثله، هكذا أوصَلَ لى عمى سليمان المصحف، سوف يسخر السبعينيون منى، أنا لست منهم، أنا أصغرهم، أنا منهم، أغلب السبعينيين الذين أعرفهم تزوجوا وأنجبوا أولادا وبنات، لابد أن أولادهم فى حاجة إلى من هو مثلى، لـن أقول لهم إننى أهدف إلى تنظيم الدماغ ليصبح صالحا للعمل لما خلق له بتجويد لغته، لـن آتى بسيرة القرآن فأنا أعرف حساسيتهم وسخريتهم وغباءهم، كل ما سأعلنه أننى سوف أجعل أولادهم ممتازين فى اللغات والكمبيوتر، لغة العصر، سوف أضحك عليهم مثلما أضحك على نفسى.
من حقوق الإنسان الأساسية حق خداع النفس، لم أعد أطيق السبعينيين، لكننى أحب أولادهم وبناتهم، أحبهم حبا مختلفا، عن حب أهلهم لهم، لست أدرى كيف.
”أنا أحب الأطفال”.
لم أحزن للطلاق كان القرار واضحا، كان أبسط وأصدق من قرارالزواج ذاته، ضاعت الفرصة كى يكون لى طفل أفرح به، أجرِّب فيه، أعطيه ما أتصور، يبدو أننى عرفتُ بحدس خاص أن طفلى سوف يكبر ولن يعود طفلا، كما أنه لن يعود طفلى، ما الفائدة؟ أطفال الناس هم الأضمن، هم يتجدَّدُون باستمرار، كلما شبَّ جيل عن الطفولة خرج جيل جديد يعلن استمرار الحياة، أنا لا أحب أن أعيدُ ما أقول، ولا أحب التدريس، ولا أعرف كيف سوف أطلب أتعابى، خصوصا من أمثال أهل أطفال هؤلاء السبعينيين، أنا لا أعرف غيرهم، مصيبة المصائب لو أهدونى كتبا من تأليفهم بدلا من الأتعاب، سأسشترط المعاملة الرسمية، يكفى أن أتعابى أقل، وأننى مخلص،لست ناقصا كتابتهم، “كتاباتهم أحالت الألفاظ إلى نيازك شاردة تبحث عما يجذبها إلى بعضها البعض”.
”اسم النبى حارسك وضامنك”.
”اخرس أنت- أنت مالك؟ إيش فهِّمك؟”كل المسألة أننى عقلت دون أن أتنازل عن ثوريتى”.
”لا يا شيخ؟”.
” تحوير فى التكتيك مع الاحتفاظ بالاستراتيجية”.
أما الصحافة فسوف أرسل لها المقال تلو المقال، وهم وضميرهم ومدى حاجتهم إلى هذا النوع من رص الكلام؟ لم تكن عندى فرصة للنشر أصلا، أنا لم أتم عملا أبدا، وحين أتمه سوف أواجه الصعوبة التى يواجهها أى كاتب.
لو كانت لجنة الأحزاب قد أجازت حزب السبعينيين لانضممت إليه من فورى دون أى شرط مسبق، ذلك لأننى واثق أنهم سوف يرفتونى بعد الاجتماع الرابع على الأكثر، تماما مثل الصحافة وثريا، كلهم يرفتونى؟ أنا جاهز للرفت طول الوقت.
آه لو سمحوا بحزب للأطفال دون الثانية عشرة ! سوف أحفز العيال الذين أدرس لهم حتى يكونوا حزبا أكون مستشاره، ولا يبقى إلا تغيير الكون، وحين أعثر على صاحبه سوف أشير عليه كيف يغيـّره، وسوف يعلم أننى كنت أساهم فى إعداد الأولاد والبنات بالطريقة التى تسمح له أن يعيد بناءه كما يشاء.
”خوجـَهْ”؟
أهكذا ينتهى كل الكفاح والحماسة وحلم نضال المنشورات، ومشاريع الصحف القبرصية، ينتهى كل هذا إلى أن أكون خوجة؟ وخوجة خصوصى؟ خوجة هاوٍ؟
ياترى هل سأجد زبائن أم لا؟
من الذى سيصدق أننى أحب الأطفال كل هذا الحب؟ وأننى أتصور، دون مبالغة، هكذا أقول لنفسى، أن مشروعى هذا لا يعنى أننى أتراجع؟ لا يعنى أننى أصبحت مرتزقا “قطاع خاص”؟ من الذى يصدق أن الحفاظ على عقل طفل واحد من التشويه هو إسهام معجز فى الظروف الحاضرة؟
أنا لا أعرف أطفال اليوم، أصاب بالفزع المشوب بالحسرة وأنا أشاهد أحيانا برامج الأطفال فى التليفزيون المصرى، كأن المسئولين عنهم لم يكونوا هم أنفسهم أطفالا فى يوم من الأيام، أخاف أن أكتشف أنى مثلهم، هل أنا كنت طفلا، أم أننى أتعرف عليه الآن، من أدرانى أن الأطفال الذين سوف أدرس لهم سوف يكونون أطفالا ؟!! مثلى؟!! مثل من؟! لا آحد مثل آحد.
-7-
عزبة “البكباشى”
لم أسأل يوما من هو هذا البكباشى الذى سُميت هذه العزبة باسمه، ليس جمال عبد الناصر على أية حال، الرئيس ناصر غير العقيد القذافى، صحيح أنه لم يـرقِّ نفسه إلى رتبة مشير مثلما فعل لصاحبه، اكتفى بلقب الرئيس وأطلقنا نحن عليه اسم التدليل “الريـّس”، فأى بكباشى هذه عزبته؟ لم أسأل ولن أسأل، تعبت، الفاكهة مرصوصة على الشوادر، والبطيخ بوجه خاص يأخذ مساحة أكبر من كل أنواع الفاكهة المتراكمة، والقهوة صغيرة، والجلوس عليها خليط من السائقين، والعمال، والعاطلين، والصبية متعددى الهوية، هذه هى، هنا سأحتفل بمولودى الجديد.
وجهى غريب، لكننى أعرف أن أولاد البلد كلهم ذوق، سوف يتركوننى فى حالى مالم أنكشهم، هنا يولد “خوجة” خصوصى يحمل اسما حركيا يشبه اسمى، هو مازال يكتب للصحافة من على مسافة، يترك مسئولية نشر ما يكتب لضمير العصر.
حلوة ”ضمير العصر” هذه، وهو سوف يعلم الأطفال ما يعلم، وما لا يعلم
يبدو أن هذه الليلة لن تنتهى، لنفرض أن الأطفال تحركوا فى تلك المساحة الهائلة من الجهل العظيم، ثم لنفرض أنهم حاولوا معى أن نبحث فيما لا نعرف بجد، أنا وهم، هم وأنا، ولنفرض أن أهلهم بلغهم ما نفعل، بلغهم أننا نفخر بالجهل لنخاطر بالمعرفة.
”لن يرحموك حتى ولو كانوا سبعينيين”.
”أعرف، وأحذر منهم أكثر”.
لابد أن أعمل حسابى وأن أحتفظ بأغلى منطقة عندى بعيدا عن التناول، طول عمرى أفخر بقدرتى على تحمل جهلى سرا، أعرف كيف أخفيه وراء عدد من الأسماء والأحداث والأرقام أحيانا، لكنه ثروتى الحقيقية، لم أنجح فى أن أنتمى إلى عقيدة سابقة التجهيز، خصوصا عقيدة السبعينيين الذين ليس لهم عقيدة.
”بطــّل افتراء”.
”طيب !! . قل لى: ما هى عقيدتهم بالضبط؟ خصوصا بعد ما كان”
”تريد أن تعرف عقيدتهم لتتنكر لها كالعادة، إفرح يا سيدى، لم تعد لهم عقيدة”
”أعرف لكنهم راحوا “الناحية الثانية”.
”أية ناحية؟.
”أنت مالك أنت؟”.
أحضر صبى القهوة (ذو الخمسين عاما) كوب الشاى “الذى هو”، أحضرهُ “على ميـّهْ بيضا”، وتبادلنا التحية وفرحت فرحة خفية أنه لم يقل كل سنة وأنت طيب، من أين له أن يعرف؟ تحية واردة من أولاد البلد حتى بدون مناسبة، بالرغم من ذلك كنت سأنزعج منها، حتى وهو لا يقصد.
ـ نوّرتنا يا سعادة البيه.
ـ شكرا.
ـ أهلا وسهلا.
وضع الشاى وتركنى وهو يبتسم أدبا بلا تصنع.
ارتشفُ الشاى رشفة رشفة، عمل جوهرى ليس كمثله شئ، هكذا يكون شرب الشاى، كنت دائما أشربه وهو فى خلفية الكتابة، أو القراءة، حتى أننى كنت أنسى إن كان شايا أو قهوة أو لا شئ أصلا، الآن: أجد أن شرب كوب من الشاى هكذا يمكن أن يكون محوَر الكون، هكذا تملأ الحياة وعى النمل، والنحل، والصقور والصراصير، وكلاب الزينة، وذئاب الجبل.
ياه !! هل عشتُ كل هذا العمر بمنطقٍ مقلوب؟ كان ينبغى أن أعرف مِن البداية أن “الشاى هو الحل”.
ـ خيرا يا سعادة البيه تأمر بحاجة؟
ـ لا، أبدا، شكرا.
ـ يخيل لى أن سعادتك ناديتنى، أو لعلي سمعت خطأ، هل سعادتك كنت تضحك ولامؤاخذة؟
ـ تذكرت نكتة!.
ـ والله يظهر أنك ابن حظ، مع أنى أول ما شفتك صعبت علىّ من تكشيرتك، قلت لن تفك آبدا، فلما سمعتك تضحك، فرحت، أهلا وسهلا، فـُكَّهَا وحياة النبى، فكها ربنا موجود.
لم أقل له لماذا أنت متأكد هكذا؟
فرحتُ به حتى هممت بتقبيله، ولم أفعل، والحمد لله لم يبد علىّ ما يشيرإلى مثل هذا الاحتمال، وعلمتُ أن اسمه “صابر”.
-8-
عدلت عن السفر الليلة.
لا أحتمل الجلوس فى الكرسى وحيدا ثمانى ساعات، يفرض السائق علينا أفلاما حسب مزاجه، أو يفرض علينا صوت مقرئ متحشرج بعد منتصف الليل، أو كليهما.
أجدُنى أتوجه إلى عم إدريس بدلا من سوق السلاح، لا مانع، ليكتمل الاحتفال.
لا أجده، أفرح أنه فى إجازة، أحسن، لا أحد يعرفنى، أحسن جدا، اريد أن أأتنس بنفسى، سوف أفكـِّكُـنى فأكون كثيرا.
الزاوية البعيدة مظلمة، والنادل الجديد يخدمنى وهو يتصور أننى زبون جديد.
أتمادى دون رغبة حقيقية وأصل إلى الدرجة التى أضمن فيها أن أعود للمنزل بأمان، من ذا يستطيع ضبط ذلك بعد عبور خط الوسط؟
أعود للمنزل متمالكا نفسى، أو هكذا أتصور.
أجد نورا مضاء يتسحب من تحت عقب الباب، أنا لم أتركه كذلك.
لا أذكر.
****
ونبدأ الأسبوع القادم فى تقديم الفصل الثالث “ميدان التوفيقية”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: “ملحمة الرحيل والعوْد” الجزء الثالث من “ثلاثية المشى على الصراط” (الطبعة الأولى 2007) الهيئة العامة للكتاب و(الطبعة الثانية 2017) منشورات جمعية الطبنفسى التطورى، والرواية متاحة فى مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية – المقطم – القاهرة.