نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 17-5-2025
السنة الثامنة عشر
العدد: 6468
الجزء الثالث من ثلاثية: “المشى على الصراط”
رواية “ملحمة الرحيل والعوْد”[1]
الفصل الثانى
عزبة البكباشى (1 من 2)
فلما كانت الليلة الثالثة والسبعين قبل الألف، ترقرق جدول عذب يخترق طريقه بهدوء، ولكن بتحد لا يخفى على الصخور المتناثرة التى يمر بها دون تردد.كانت الأعشاب الصفراء الجافة ملتفة حول نفسها بشكل يعلن استغناءها عن ماء الجدول المنساب، بالرغم من ذلك أحاطتها قطرات الماء برفق وهى تهدهدها، ثم تراجعت القطرات فى دلال، ثم عادت فتقدمت هامسة بين ثنيات الحشائش المجعدة.
قالت بذور اللقاح طائرة إلى المجهول “إنى راحلة”.
لم تصدقها الحدأة المحلقة فى السماء لا يراها إلا مدقق حاد البصيرة، مع أن هذه الحدأة بالذات، أو لعله صقرٌ، تنتظرطول الوقت أية إشارة لنقل حبوب اللقاح هذه – أو مثلها – إلى أرض أكثر خصوبة.
كانت”وردة” تملأ جرتها من الماءالعذب قرب نهاية مساره، فيصفو الماء أكثر ويترقرق، بل هو يتثنى، ثم يلمّح ويَعِد، حتى يبدو أنه ما قطع كل هذا الطريق إلا ليصل إلى فوهة جرة “وردة” بالذات.
فردت “وردة” طولها وتمطت، فقفز ثدياها إلى الأمام، وربما إلى أعلى قليلا، بديا شامخان يسبِّحان ما فى السماوات وما فى الأرض.
عادت فجلست، ثم إنها اضطجعت بهدوء منساب على جنبها الأيسر، وقد ثنت ذراعها تحت رأسها، أغمضت عينيها برغم أن النوم لم يغلبها، بل إن اليقظة الحادة هى التى جعلتها تغمض عينيها، هكذا.
ارتسمت ابتسامة على وجهها لتؤكد أنها يقظة، أو لعلها كانت تحلم.
نظرت ضفدعة على طرف الجدول لزميلتها.
- هل رأيت؟
نظرت زميلتها فى خبث:
- طبعا.
-1-
هذا اليوم: لا أكرهه، ولا أحبه، ولا أفخر به”.
راح جلال يتذكر كيف مر عليه، كيف تحايل أن يمرره مثل كل يوم. كيف قفز إليه مختلفا متحديا وكأنه يرد عليه. إنه فعلا ليس مثل كل يوم، ولا مثل أى يوم مما كانوا يسمونه: “عيد ميلاد”، إنه.. “يوم آخر”، لم يعد عندى إعجاب برفاهة التغّزل فى هجائه،”عدتَ يا أيها الشقى”، كامل الشناوى كان يجمـل الحزن، وفريد الأطرش يطربه، أنا لست حزينا، ولست فرحا، لست ساخطا، ولست ثائرا!، لم تـُمتهن كلمة مثلما امتـُهنت كلمة “الثورة”، وأيضا كلمة”الحرية”.
لست هاربا، أنا ذاهب لأمرٍ ما.
كل اللافتات والشعارات والعبارات أصبحت غائمة، بعيدة، ملتبسة، تحتاج إلى تصحيح، أو توضيح، كل عناوين الأفلام والروايات تحتاج إلى شئ ما، تحتاج إلى معجم خاص، إلى مذكرة تفسيرية، لستُُ بطلا، ولا أريد أن أكون بطلا، الأبطال المعروفون عبر التاريخ ليسوا هم من تعرفون من مشاهير، الأبطال الحقيقيون كانوا بداخلهم، وماتوا معهم، هذه الأسماء التى يذكرها التاريخ هى من صناعتنا نحن، أسماؤهم ليست هم، أى عبث؟ الإسكندر ليس الإسكندر، ونيتشه ليس نيتشه، وقيصر ليس قيصر، وحتى غاندى ليس غاندى، وفرويد ليس فرويد، أنا كل هؤلاء.
”..نعم؟ نعم؟” .
”شكرا”.
”الله يخيبك البعيد”.
لماذا نطفئ الشموع بعدد ما مضى من سنين عمرنا؟! الأوْلى أن نشعل شمعة واحدة للعام الجديد، إما أن ينفع وإما لا ينفع، بختك يابو بخيت، هذا العدد 41، ماذا يعنى؟ لماذا لا يكون العد تنازليا من رقم افتراضى؟ ليكن 65 أو حتي70 أو مائة أى رقم، رقم قابل للتغيير، لا مانع، وليكن العد هكذا: “باقى 31 سنة، باقى30، باقى” 29، تـفرح باقتراب النهاية، وربما تحزن، كله محصل بعضه، لكنك لا بد ستتعرف على الزمن أوضح، وأدق، أراهن أن العدّ التنازلى سيتوقف عند خمسة عشر أو خمس، لكنه سيتوقف، وقد تـُوهِم نفسك فتضيف عددا آخر من السنين كلما اقتربتَ من الصفر.
”مرعوب أنا من الاقتراح”.
”كبـّر عقلك”.
”حاضر، ولا كأنى قلت شيئا”.
يضحك الناس على بعضهم البعض، ضحكنا على أنفسنا بما فيه الكفاية، ضحكوا علينا فضحكنا على أنفسنا توفيرا لجهد الناس “الكُمّل”، لم أكن أعرف أننى أستطيع أن أمشى كل هذا الوقت، خمس ساعات ونصف حتى الآن، ومازلت أسير، شارع المحطة، ميدان الجيزة، محطة موبيل، أو محطة التعاون، لست متأكدا، “الأوبرج” أو كازينو الليل كله مثل كله، لعلها الباريزيانا، المريوطية، فندق سياج، ستوديو مصر، شبرامنت، اقترحوا علىّ أن يحتفلوا بعيد ميلادى بطريقة لم تخطرعلى بالى، أصدقائى حلوون، ياه ما أصعب الكلمة، حلو، والجمع حلوون، معقول؟ ليس هناك معنى أن أحتفل بما لا أنتمى إليه، بما ليست لى يد فيه، القرار كان قرار والدى، لا أظن أننى وُجدت بناء عن قرار أصلا، هى المصادفة، أو لعلها توريطة، لعلى ولدت عن طريق الخطأ.
المسائل تجاوزت كل تلك الشكليات، المساحة تتسع، الدنيا أصبحت أكبر، حتى أننى لم أعد أعرف أكبر من ماذا؟ هى أكبر والسلام، هى أكبر فأكبر، فأكبر، كلما نظرت إليها وجدتها أكبر، أكبر وخلاص، أحيانا أنظر إليها فأشعر أنها تكبر، حالة كونها تكبر أمامى أثناء تطلعى إليها، أثناء تمعنى فيها، أثناء محاولتى الإحاطة بأبعادها، اشتريت نموذج كرة أرضية من المكتبة المقابلة لمحلات “ويمبى” أو لعلها محلات “ماكدونالدز”، هل يوجد فرق؟ محلات النظام العالمى الجديد، محلات كلينتون ابن القحبة، أهديت الكرة الأرضية لنفسى، هدية عيد ميلادى، كل واحد يهادى نفسه، قبلتها شاكرا، لم تعد المسألة أن الأرض تلف أم لا تلف، رحم الله كوبرنيكس ومد فى عمر فؤاد المهندس، لم يعد ينفع أن ألففها وأتحدى السماك زاعقا “الأرض بتلف”، الشيخ خميس،”السكرتير الفنى”، حاولت طوال عشرين سنة أن أتعرف على علاقة الشيخ خميس بربه، بربنا، أنا أحب الشيخ خميس، أحب عبد الوارث عسر، أتمنى أن أستنسخه لأسأله إن كان يحبنى كما أحبه، أريد أن أسأله عن ربه، ربنا، أشعر أنه ـ ربنا هذا الذى كان يعبده الشيخ خميس وهو يعلـِّم فؤاد المهندس الغزل ـ هو شديد الجمال، الشيخ خميس -أيضا- شديد الجمال، الله جميل يحب الجمال؟ لم أتوقف أبدا عند هذا القول السائر لأتساءل: حديث شريف هذا؟ أم خفة دم الشعب المصرى؟!!، فكيف يتصور هؤلاء “الكيتش” الجديد أننى هربت منهم، يتهموننى أننى أهرب من الدنيا، كأنهم هم الدنيا، لمجرد أنهم هاتفونى ولم يجدونى، ياه!!، هل يمكن أن أكون وحيدا جميلا فى ذات الوقت، وفى هذا اليوم؟ ليس يوما شقيا يا عم كامل يا شناوى، هذا اليوم هو كما تصنع أنتَ منه، هو كما تصنع به، كما تصنعه، الزمن لا يمضى بنا، نحن الذين نصنعه.
”يا حلاوة!”.
“يارب تصدق”.
كيف لم أتعب حتى الآن؟ كيف أواصل السير طوال هذا الوقت هكذا؟ أين أنا الآن؟ شبرامنت هذه؟ هل أواصل السير إلى سقارة أم أنحرف يسارا إلى “أبو النمرس”؟ أريد أن أتعرف على النخيل من جديد، أريد أن أسلـِّم على أجدادى الأحياء فى جذوعه، لقد اختلطت الأزمان عندى حتى لم أعد أصدق، أجداد مـن يا عم؟ أهو كلام ..، التاريخ يكتبه فريق من الهواة المحترفين !!. نعم؟ نعم؟ أتعمّد الخلط طبعا مثل أدب هذه الأيام، الله يخرب بيوتهم، أشعر -أحيانا- أنه ليس أدبا بل “تورْلى” تركوه خارج المبرد (يعنى الثلاجة!!) حتى فسد، نعم، الهواة المحترفون، أنا أقولها كما يخطر لى، وأنت تحلها بنفسك، قال تاريخ قال، وهرم سقارة المدرج، الهرم الآن مبرمج لا مدرج، أجلس أمام ذلك الهباب الرائع الذى كاد يأخذ منى ما تبقى من عمرى، الكمبيوتر، ألعب “بالفأرة” أو “الماوس”، لمَ أسموه الفأرة، كان عبده مبروك جارى فى الفصل يرسُب فى كل العلوم “ما عدا الرسم”، لو كان عند أجدادى المزعومين هذا البرنامج التافه ومعه هذه الفارة المطيعة – إذن- لما احتاجوا لبناء كل هذه الأهرامات العبثية، كانوا عملوها بعدة قفزات من الفأرة، ودمتم، لم أحب أهرام الجيزة أبدا، لم تتملكنى الرهبة أو الخشية أو الإعجاب، لا وأنا واقف بجوار الهرم الآكبر ضئيلا ضئيلا حتى العدم، ولا وأنا أكاد أختنق فى ممراته، عاندت ذات مرة وصعدت الهرم الأكبر مع صديق رياضى شقى، كنا فى سنة ثالثة فى الكلية، ولم أشعر بشئ حتى وأنا على قمته، لم أقبل كل مبررات الخلود وراء أسطورة بنائها، ولم أفهم (وفى نفس الوقت لم أرفض) شائعات سرها، ومعجزات توجهاتها الهندسية، أعرف أنها كادت تصبح دينا عند المهووسين بها، تلك الديانة المعاصرة التى تريد أن تثبت أن الأهرامات هى رمز لاتِّساقِ قوانين هندسة بيولوجيا الصحة مع قوانين بيولوجيا الطبيعة الحجرية إلى بيولوجيا الكون، يا صلاة النبى! الموسى التى توضع فى زاوية كذا، بحيث تتوجه إلى وجهة القانون الهرمى، لا تُثلم ولا تصدأ لسنين عددا، ذات مرة قررت أن أتقمص هذه الموسى حتى لا يثلم حسى، رحت أقرأ فى كتب أوهام الأهرام وسرها الباتع، وضعت نفسى متسمـِّرا على قدم واحدة فى اتجاه الموسى الذى لا ينثلم، كنت ألعب مع القراءة لعبة أقرب إلى الكاريكاتير، لكننى شعرت أننى أبرد متجمدا، ثلُمَت حدّى حتى أصبحتُ مثل سكين صدئة فاترة لا تعرف ناحية حدها من الناحية الأخرى.
كان ذلك قبل هذا اليوم بكثير،
”هذا يوم موتى.”
”هو هو يوم مولدى،”
كلام ليست عليه ضريبة، يقوله أى واحد لا يفهم منه حرفا”.
”قال يعنى أنا ”اللى” فاهم !!!”.
-2-
عسكرى المرور عند كوبرى شبرامنت، “كشكه” أبعد قليلا من الكوبرى المتجه نحو “أبو النمرس”، كنت قد قررت ألا أمضى فى طريق سقارة وأن أتجه إلى “أبو النمرس”، لماذا أتجه إلى “أبو النمرس”، ولماذا لا أتجه إلى “أبو النمرس”؟
”صباح الخير، صباح الفل بعد الظهر، صباح النور بالليل”.
شعب لا يحتاج إلى حشيش، حتى يحشش، هناك – فى الناحية الأخرى – أجد أجدادى بحق، تلك الغابة من النخيل التى تقع بعد المزلقان مباشرة بجوار طريق الصعيد، أبو النمرس أعرق من شبرامنت، النخيل أعرق من هرم سقارة، لماذا الخلود؟ هذا الوهم الذى أضاع الناس حتى أنكروا فضل الموت على البشر، ما هذه الشعارات؟ أنا أنتمى للنيل، للنخيل من حوله، وليس للأهرامات، نعم؟ نعم؟، خلود ماذا؟ خلود منْ؟ طريق الخلود طريق الجدود، طريق الكباش طريق البلاش “إخرس يا ولد” .
ما أقبح السجع المستظرف، لم أعد أطيقه، ما معنى كل ذلك؟.
”أنا مالى؟ أنا أقول، وهم يتصرفون،”.
من “هم”؟ لم يعد هناك “هم”، لم أعد أقابل إلا مجموعات من ضمير مستتر واحد تقديره “أنا”.
”أنا هيمان، وياطول هيامى، صور الماضى، ورائى وأمامى”، ليس تماما، لكن الأغنية جميلة، وصوت عبد الوهاب أجمل من ذكائه، هل أخذ ملايينه معه؟ لماذا حرم بناته؟ لم يكن بنات بارَّات؟ ولو…..
أنا أتم اليوم العام الواحد والأربعين من عمرى، ولولا هربى هذا بدءا من شارع المحطة إلى شارع الهرم إلى طريق سقارة إلى شبرامنت، لأنحرِف الآن نحو “أبو النمرس” لكنت أمارس طقوس الكذابين السنوية احتفالا بعيد ليس لى فضل فيه، كل سنة وأنت طيب، وأنت بالصحة والسلامة.
“شكرا”، “ربنا يخليك”، عقبال مائة سنة؟
(أهو أنت)، الله يخيبكم، كل سنة وانت “كده”، ياليت.
“البقاء لله”، و”لك مثلما قلت”،
انطفأتْ وحدها كل هذه السنين، لا تحتاج حتى نفخـة رمزية من هواء زفيرى، مِـن أكذب الكذب أن تطفئ ما انطفأ فعلا، إحدى وأربعون عاما، “إذا بلغ الفتى عشرين عاما، ولم يفخر فليس له فخار”، شعراء العرب هؤلاء أنذال فعلا، هأنذا فى العقد الخامس، ولم أفخر بعد، بماذا أفخر؟ لكن سيظل عندى ما يمكن أن أفخر به، إننى أفخر بأنى مازلت قادرا على أن أحب، أحب كل من على الكرة الأرضية بلا استثناء، يعيش الهرب فى الكل، أهديت نفسى نموذج الكرة الأرضية بما عليها، وليس بما هى وهى تلف، هذا ما تخيلتُه، لا أريد أن أتوقف عند الكرة الأرضية؟ كوكب خائب عليه كيانات مغرورة تتصور أن كل شئ خلق من أجلها، حتى أنها تلغى بقية الكائنات على نفس الكوكب اللهم إلا ما يصلح منها للاستعمال الشخصى”!!، وبالمرة تهمِّش كل الكواكب الأخرى، أريد أن أنطلق إلى سائر الكواكب الأكثر فخامة ووعدا، إلى المجموعة الشمسية، لن تحرقنى، أنطلق إلى كل المجرات، أنطلق إلى ما لا أعرف، أريد أن أصل إلى مركز الزمن بالضبط، المركز لا يدور، يا خبر أسود، كيف أتنازل عن زخم الحركة! لا..، سوف اخترع قانونا يحافظ على الحركة فى كل الأحوال، ولا يحرمنى من حلم وصولى لمركز الكون، يعنى ماذا؟ لا أعلم، مركز الزمن الكونى لا يوجد فيه عامٌ قادم، ولا عام مضى، ليس فيه أعياد ميلاد، هل يعنى هذا الخلود؟ يا خبر !! لا أريده، لا أريد الوصول إلى مركز الدنيا، اللهم إلا إذا ….إذا ماذا؟ إذا تغيرت القوانين..
لا بد أن مركز الدائرة يدور دورانه الخاص فى السر، ربما يدور حول نفسه، لا، ليس فى المحل، ليس “محلك سر”، ولا “محلك در”، لا أستطيع، هذا عبثُ ضحكوا علينا به، ضيعتُ عمرى أبحث عن كيان وهمى اسمه”نفسى”، البحث عن الذات؟، الله يخيبك، هكذا أكـدوا لنا فى البداية، لست أدرى من هم الذين “أكدوا لنا”، لا أذكر، التفكير التآمرى يقول لى إنهم أهل الغرب والشمال، هم الذين جعلونا ندور حول أنفسنا كالنحلة، وهم يمسكون بكرباج التقدم ويُلهبون دوَرَاننا كلما قلت السرعةـ عمرى ما حذقت هذه اللعبة، البحث عن الذات، ماذا يا عمنا السادات، الله يرحمك ويغفر لنا ولك، تبحث عن ذاتك فتتكلم عن مصر كما يحلو لك، هىَ مصر كانت ذاتك وحدك يا رجل؟ الله يسامحك، ماذا كان قد جرى لو أنك عقلت ورضيت، وتوقفت، وباركت؟ لا أحد يتوقف بنفسه، يظل الواحد يبحث ويبحث ويؤجل ويضحك على نفسه تحت زعم أنه يبحث عن ذاته، وحين يجدها لا يكون عنده وقت ليتثبت من أنها هو. تفكير تآمرى، ليكن: تآمرى بتآمرى، هذا عن واحد مثل حالاتى، فما بالك برؤسائنا الأفاضل؟ قال يتوقف قال؟ رؤساؤنا ليسوا بهذه النذالة حتى يتخلى أى منهم عن شعبه بهذه السهولة ويتوقف عن البحث عن ذاته، ربنا يخليهم، على أنفاسنا رحمة بنا من أى احتمال آخر، يبدو أننا لسنا أهلا لأى احتمال آخر.
ما ذنبى أنا فى هذا كله؟
سحبونى من تلك العتمة الرائعة التى كنت أتعرف من خلالها على النور الذى لا يظهر فى النور، وضعونى على طريق مسفلت، لمعانه أكثر سطوعا من ضوء الشمس، قالوا لى: هنا سوف تجدها: نفسك، سوف تجدها بعيدا عن غيابات الحدس والتخبط، فرحت ساعتها بكل هذا السطوع القبيح، لم يكن قبيحا آنذاك، كان سطوعا هائلا داخل ”سنتيمتر ذاتى”، سرعان ما عشيتْ عيناى من خطف اللمعان، رحت أتحسر على الكيانات الرائعة التى كانت تؤنسنى فى عتمة المحاولة.
هذا الجديد الذى أنا فيه الآن مختلف عن هذا وذاك، هل هو حقا جديد؟.
هو مرعب.
فهو جديد.
هذا التفاؤل أريد أن أصفه بالغباء، لكننى لا أستطيع، خليط من الآمال والإصرار على يقين غامض، ليكن، هى محاولة لم أخترْها، هى هى، عُـرضتْ على قبلا لكننى لم أتبين معالمها، وحين كانت تقترب من وعيى كنت أنكرها، لكنها هذه المرة اقتحمتنى من باب سرى لا أعرف كيف سهوْتُ عن إغلاقه.
”محاولة ماذا بالله عليك؟”.
”هو كلام والسلام”.
”تفكير تآمرى آخر، بل وخرافى أيضا”.
”هل أنا سوف أحاسبك؟ وإذا حاسبتك، هل أستطيع أن أثبت عليك شيئا إلا أنك شقى أبله، حتى لو تمرغتَ فى خـدر كل شئ لذيذ”.
”حقد هذا ، أم استعلاء أم ماذا؟؟؟”.
”ليكن؛ حقد حقد!! من حقى أن أحقد”.
” أحقد على من؟ أنا أحسن من الجميع هكذا !”.
”لا يا شيخ ؟!!!!”.
جندى المرور الواقف على الكشك بعد الكوبرى المؤدى إلى طريق “أبو النمرس” من شبرامنت، يشبه “المكان” الذى يقف فيه تماما، المكان ينقع على شاغله، لست أدرى كيف، لا ينقص هذا الجندى إلا أن يلبس صديرى بأزرار ولبدة.
ـ أليس هذا هو طريق “أبو النمرس”؟
ـ لا، هذا طريق البدرشين، أبو النمرس من على الكوبرى، فيه تاكس بالنفر، وفيه ميكروباص، وفيه أتوبيس لكن ليست له مواعيد، أنت وبختك.
- كم كيلو حتى أبو النمرس؟
- كيلو ماذا يا سعادة الباشا؟
ـ ربنا يولى من يصلح.
ـ ربنا يقويك.
ـ ربنا يسد ما علينا.
ـ ربنا يسترها معك يا سيدنا الافندى.
ربنا؟ ربنا؟ ربنا؟ بين كل جملة وجملة تكتشف أن شعبنا الطيب يحشر كلمة ربنا فيها، لست متأكدا هل دار كل هذا الحوار بينى وبين الجندى أم لا، خيل إلى أننى بررت له الذهاب إلى “أبو النمرس” مشيا على الأقدام بأنه كان نذرا على، أخدنى الرجل على قدر عقلى، لم يدقق.
“ندرِنْ على لو قلتى أيوه، لاخلـِّى روحى فى إديكى شمعهْ، فى إديكى شمعة…ماعرفشى إييه فيه بعد كله، .. تمشى عليها والشمعه والعه، والشمعة والعة، كلااااام جميل وكلااااام ماعقووول ما اقدرشى أقوول حاجة عنه. …لكن خياال حابيبى المجهووول، مش لاقيا فيه حاجة منه”.
ماذا؟ فيها ماذا؟ لم يسمعنى أحد، لم أنطق، أنا أحتفل بعيد ميلادى، أغنى لنفسى، ومـن يعجبه!! الله!!!!.
الظاهر أن حكاية حبيبى المجهول هذه أكبر من ليلى مراد ومن محمد عبد الوهاب معا، هل يمكن أن يكون سحر الحب هو فى أن يظل الحبيب مجهولا، وهل خاب حبى، حبنا أنا وثريا، إلا حين انقلب حبيبى المجهول إلى حبيبى المعلوم، هل أحتفظ بالمسافة بينى وبين منال ليظل الحبيب مجهولا؟ أنا متأكد أن هناك نوعا من الجهل أوضح من كل معرفة، حين جرجرونى من العتمة المليئة بالدفء المحيط إلى شارع الأسفلت المضئ باللون الأصفر المغير على ضوء القمر الفضى، عشقت العلم، والمادة، والعقل، منتهى العقل، كله بالعقل، كله ظاهر تحت الضوء الأصفر الساطع، كيف يصير جلدنا باهتا هكذا تحت اللون الأصفر الساطع؟، ثم يصفر وجودنا كله فنـَذْبُلُ دون أن ندرى؟.
كانت الحسابات شديدة الإحكام، والمقدمات شديدة الوضوح، لماذا كل هذا الوضوح؟ علما بأن النتائج ليست حاسمة ولا جازمة، ليست جامعة، ولا مانعة، هذه الأضواء الصفراء التى تضئ شارع العقل الأسفلتى قبيحة مـمـرضة، تجعلنى أرى وجوه كل الناس صفرا، مصابة بالأنيميا الخبيثة، يقولون إن أنيميا البحر الأبيض اسمها الأنيميا الخبيثة، لست أدرى، اختلطت البحار والأنيميا والأصفر والأبيض، الحل فى الجنس الأصفر.
”الصينيون قادمون”، “الإسلام هوالحل”، “حل ماذا؟ جاك حل وسطك، كانت أمّى تدعو على هذه الدعوة حين تغصب منى، ولم أكن أفهم ماذا تعنى بالضبط بحل وسطى، أنور عبد الملك يصر على أن يجمع بين الصين والإسلام والرئيس مبارك فى فندق واحد، المفروض أن أقول: فى خندق واحد، غلطة مقصودة، أتعجّب من جرأة عبد الملك هذا ـ أنا أحبه بالعافية ـ جـُرأته على الحقائق لا تزعجنى، والفبركة الآمِلة تبهرنى، ربما هى “فبركة” لا شعورية كما يقولون، لم أفرح باستهانته بالخيبة البليغة التى نحن فيها، من نحن؟ التى أنا فيها، من أنا؟ التى كل الناس فيها، لقد عوْلموا الخيبة البليغة قبل أن يعوْلـِموا الاقتصاد والمعلومات، أصبح من حق أى إنسان على ظهر الأرض أن يخيب نفس الخيبة البليغة التى يخيبها الآخر مهما بعدت المسافات واختلفت اللغة، ومهما تعددت الأجناس والنظم الاقتصادية.
يمضى الوقت سريعا، عكس ما كنت أتصور، لست أعرف كيف وجدت نفسى فجأة بين هؤلاء الناس، زحمة قذرة، الزحمة ليست دائما قذرة، لكن هذه الزحمة قبيحة، لها رائحة الزحمة المنسية المتراكمة على بعضها منذ مدة، رائحة هذا العرق مختلفة، ليس عرق البشر التلقائى الذى ينضح أثناء العمل، هذا عرق لزجٌ مستورد، عرقٌ له لمعة مستفزَّة، عرق صناعى، عرق كنظام العرَق، أذان الظهر حشرجة تقف فى أذنى تسدّها، تتزاحم الأذانات من مساجد متلاصقة، لماذا ينفـِّرُون الناس من الأذان ومن أنفسهم؟
اختراع الميكروفونات مؤامرة على الأذان، “اخرسْ يا تآمرى”.
كتلٌ من الحجارة المتنافرة الملونة بألوان كالحة ليس لها اسم، رصها بناء كاره نفسه ليعمل منها سورا للترعة التى لم تعد ترعة، كأنها مصرف مفتوح للمجارى.
رئيس مجلس هذه المدينة، أقسَمَ أن يكرَّه الناس فى عيشتهم انتقاما من كرهه لنفسه، أراد أن يحجب شاطئ الترعة بهذا الجدار القبيح.
للقبح رائحة غثيانية، كما أن للجمال حضورا طازجا، أبحث عن الجمال الذى ملأنى هذا الصباح، فأتعجب أنه مازال موجودا يقاوم لزوجة القبح ورائحته الزنخة، أجده مازال نشطا مبتسما ينتظر انتهائى من هذا الاحتجاج الفاشل بكل هذا الصراخ الصامت.
كيف يمكن أن أظل جميلا على الرغم من مؤامرات التشويه الملاحِق فى كل مكان؟
-3-
لست أدرى كم مضى من الوقت لأجدنى فى حضن غابة النخيل على الجانب الآخر، أنا أحبها، أخاف عليها، أخاف علىّ، ليس - فقط – ممن يحيطون بها، أتصور دائما أن التهديد بقطعها، هو تهديد لكيانى شخصيا، أخاف عليها من مجهول آخر يتربص، بكيتُ صامتا فى “وادى فيران” حين شاهدت ما جرى للنخيل هناك، جذوع النخل جفت وتشوهت، فهمت ساعتها معنى كأنهم “أعجاز نخل خاوية”، عاودنى صوت عم سليمان وهو يرددها وأنا مختبئ فى عباءته، يعاودنى رنين الآية كلما شاهدت سيقان فلاحينا حين يشمـِّرون للرى أو للحصاد، نحن نضمرُ مثل نخل وادى فيران، تعاودنى نفس الآية أكثر حين أرى الرجال الجوف، يا سيدنا إليوت، استقبـلنـى نخيل “أبو النمرس” بشموخ أبىّ، مازال بعافية و الحمد لله، هل هذا بفضل النيل أم بفضل الصعايدة؟ الجيزة صعيد، أى والله، برغم أنف “جامعة القاهرة”، وأبو النمرس صعيد، وأنا صعيدى وقتما أحب، رغم أنف مولدى، أنا أحب أن أنتمى إلى ما أحب، لا أستأذن أحدا، لم يستأذنوا شيخ العرب السيد وهم يضمون قريتنا التى سمعتُ عنها ولم أرها من الغربية إلى المنوفية، فجأة أصبحنا من مواطنى البحث عن السادات، ظلمناه أكثر مما ظلم نفسه. لكنه هو الذى بدأ بظلم نفسه.
لا أذكر متى قررتُ أن يكون أصلى هو ما أذهب إليه، وليس ما آتى منه.
من حقى أن أحصل على الجنسية الصعيدية مادمتُ أنتمى إلى النخل والعرَقَ.
أريد أن آخذ تعسيلة هنا فى حضن أجدادى.
أخشى أن أستيقظ فلا أجدنى.
………………………
………………………
ونواصل الأسبوع القادم فى استكمال الفصل الثانى “عزبة البكباشى”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: “ملحمة الرحيل والعوْد” الجزء الثالث من “ثلاثية المشى على الصراط” (الطبعة الأولى 2007) الهيئة العامة للكتاب و(الطبعة الثانية 2017) منشورات جمعية الطبنفسى التطورى، والرواية متاحة فى مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية – المقطم – القاهرة.