نشرة الإنسان والتطور
الخميس: 15-5-2025
السنة الثامنة عشر
العدد: 6466
تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ)[1]
وهكذا نواصل نشر “الأصداء” مع “أصداء الأصداء”
بقلم: “يحيى الرخاوى“
الفصل الخامس
الطفولة: نبضٌ متجدد دائم (6)
……………………
…………………..
(11) طفل” محفوظ” يقفز من تحت عباءة الشيخ عبد ربه:
كاد الطفل الأصلى يعلن ماهية “سيدتى الحقيقة” قبل أن يظهر الشيخ عبد ربه (أنظر قبلا)، وفى فقرة “سيدتى الجميلة” (135) قدرت أنه: بالرغم من أن محفوظا ارتضى أن يعطى الشيخ عبد ربه القيادة، فإنه لم يستسلم له تماما، فما لبث أن قفز طفله صريحا فى هذه الفقرة، فإذا بالشيخ يعلنها مباشرة:
“حدث وأنا أسير بين الطفولة والصبا….إلخ”، وهات ياخيال، وهات يا هلوسة وهات يا تخليق لسيدة جميلة تجلس تحت البسملة، وتعطيه الملبن وتقبــله، فيكتم السر حتى يدوم العطاء، وفجأة تختفى هذه السيدة الجميلة، وحين يـسأل أمه عنها تندهش كما يندهش أبوه، وباختفائها يختفى الطفل كما أخفاه ظهور الشيخ عبد ربه، ولكن محفوظ يلحقنا بكل إصرار ليقول إنه ليس اختفاء دائما، بل هو تفعيل المواجهة التركيبية بين ذات الطفل وذات الشيخ، وهى العملية التى يترتب عليها أن تحل الكآبة المنضجة محل الخيال الجامح،إن الطفل وما خلق من خيالات كمن دون أن يتراجع، فظلت الكآبة كامنة، لكنها فاعلة، فى الأعماق “حتى هلت ليالى القمر”، وقد ذهبت فى القراءة التشريحية إلى تفسير ذلك كالتالى:
“…. استقبلت ” ليالى القمر وهى تهـــل داخلة كإعلان رائع لنجاح تمثل خبرات الطفولة بعد جرعة من التأجيل الواجب، بمعنى أنه بعد أن كبت (الطفل) خياله استجابة لرعب (وقمع) الوالدين، حبس (الطفل) خياله طويلا حتى تمثله فأشرق به ومعه، ضمهما، ولولا ذلك الفرض، لظل طفلا دون كآبة كامنة، وأيضا لما هلت ليالى القمر داخله تضئ له وبه”.
أجد لزاما على هنا أن أضيف إضافة (علمية) لا غنى عنها لمن لم يعتد لغة التفسير التركيبى للأحوال والمراحل النفسية، وبالذات فيما يتعلق بتجليات وكمون ما هو “كآبة”، وذلك من منطلق تركيبى نفسى، وليس تحليلى نفسى
إن تفسير الأمراض النفسية من منطلق تركيبى يرتكز على فهم علاقات الذوات المتعددة (حالات الذات) بعضها ببعض، وهذا أمر بسيط ومباشر وآنى (هنا-والآن) لا يحتاج إلى المبالغة فى تأويل رجعى، أو فك عقد، أو ترجمة رموز (كما هو الحال فى التحليل النفسى الكاسى).
وتفسير الاكتئاب – تركيبيا – يقول:
إن العلاقة بين الذات الوالدية، والذات الطفلية تحتد حتى المواجهة: حين لا ينجح الوالد أن ينفى الطفل أو يزيحه، وحين لا ينجح الطفل أن يخترق الوالد أو ينحيه، فيتواجها كل بما أوتى من طاقة وإصرار.
وفى مرحلة غلبة الوالد الطاغية (الشيخ عبد ربه هنا) دون استسلام الطفل، تتبدى الكآبة.
أما إذا نجح الوالد فى استبعاد الطفل فإن الناتج هو الوجود الشيزيدى (وليس الفصامى) حيث يعجز الشخص، ويعزف، عن عمل علاقة بآخر، كما تغلب عليه مايشبه الحكمة ويميل إلى الانطوائية.
أما إذا استمر الحوار حادا وكامنا معا، فإن نوعا من الكآبة المـضمرة يصبح بمثابة النار الهادئة التى ينضج من خلالها الكيان البشرى، بل ويساعد ذلك على تكوين علاقات حقيقية موضوعية أكثر فأكثر.
هذا هو بعض ما التقطته فى هذه الفقرة من قول محفوظ “…وظلت الكآبة كامنة فى الأعماق”، بعد أن أنكر والداه عليه ما رأى، وكأن الذات الوالدية قد أنكرت على الطفل طفولته الجامحة فى الخيال (والهلوسة)، فلم يستسلم الطفل وإنما انسحب بمعركته إلى الأعماق حتى نجح التكامل الخلاق بين الذوات المتواجهة، إذ: “..هلت ليالى القمر”.
(12) الشيخ عبد ربه يفشل فى إلغاء الطفل:
الفقرة (الفقرات) الوحيدة التى تلاحقت دون عنوان – إلا عنوان الفقرة الأولي”المطارد” – هى الفقرة (159)، وهى الفقرة التى ترسم مطاردة ما، من المهد إلى اللحد (من الطفولة حتى نهاية العمر)، وهى تلوح فى مرحلة ما من المطاردة بالسباق نحو الفوز بالجميلة (الدنيا) التى يفوز بها الشاب، ولكنه لا يتسلم الجائزة لأن النوم يغلبه منهكا من التعب “قبل الوصول”، ولا تنتهى المطاردة إلا والشيخ عبد ربه نفسه ينتظرها فى حجرة الاستقبال، فتجئ إليه -شيخا – بعد أن يكون الأب قد دخل عليه ودودا لكنه ينذر بالقيود والعواقب.
وقد ذهبت فى القراءة الأولى إلى أن هذه الفقرات المتتابعة بلا عناوين: إنما تقول شيئا واحدا، خرجت منه بما يستحث أن نعيده هنا بألفاظه هكذا:
“… نجد أنفسنا فى حضرة وفاق رائع بين “الوالد” العاقل المتسامح الودود، والوقور فى نفس الوقت، وبين “الطفل” اللاهث المتعجل اللذة، الفائز بغير جائزة، وفاق يوحى بالتصالح، وإن كان يخفى احتمال أن الوالد لم يصبح ودودا إلا بعد أن اطمأن إلى خيــبة الطفل /شابا، وسقوطه نائما (مغشيا عليه) بعد الفوز فى السباق دون أن يتسلم الجائزة، ويبدو أن الطفل المنهك لم يخدعه الود الوقور، بل إن ما وصل إليه-رغم ظاهر السماح-هو الإنذار بالـقيود والعواقب، فيرجح الهرب. ولا ينقذه من السقوط فى الهاوية إلا دخولها عليه تتعثر فى الحياء.
وبقراءتى لما سبق أن كتبته عن هذه الفقرة الآن تبينت أننى اعتبرت أن الشيخ عبد ربه قد “أصابه الدور” حين راح ينتظر فى حجرة الاستقبال راجيا التوفيق، أصابه الدور إذ عاد طفلا على الرغم من حكمته الظاهرة، وربما حدث هذا الخطأ (الصح) لأن الأب دخل على الشيخ “وقورا ودودا ولكنه ينذر بالقيود والعواقب”، ولم أدرك إلا الآن لم وقعت فى هذا “الصح”: بمعنى أنه إذا كان الشيخ يمثل الذات الوالدية (الأب) فمن هذا الأب-الآخر- (الوالد) الذى دخل عليه، وكيف خاف منه الشيخ حتى دعاه صوت باطنى للهرب؟
التفسير العلمى (التحليل التركيبى)Structural analysis يقول: إن لكل والد فلعل الذى دخل هو الوالد الأعلي (الجد: داخل الذاتGrand-parent ego state) لكننى أجد الآن أن فى هذا التفسير تبسيطا غير كاف، فأضيف الآن تفسيرا إضافيا يقول:
إن الشيخ عبد ربه ليس والدا صرفا، وأنه، برغم إلغائه لطفلنا الذى نحاول أن نبرز تجلياته فى هذا الجزء، ما زال يحتويه داخل عباءته، وأنه فى هذه الفقرة تنازل عن حكمته لصالح طفولته، فقفز له أب من خارجه، ودود، لكنه نذير مانع، فكان الهرب؟
تصورت فى القراءة الأولى أن التوفيق الذى كان ينتظره الشيخ هو التوفيق بين الذوات الثلاث، وأنه توفيق لم يتم تماما، ولكننى أشعر الآن أن الشيخ حين عاد طفلا، كان ينتظر الرضا من الجميلة الواعدة التى لم ينلها شابا رغم الفوز فى السباق، وأنه سقط فى الهاوية بمعنى استحالة تحقيق حـلم التكامل الكامل باندماج الذوات.
على الرغم من كل ذلك فما زلت غير راض عن هذا التفسير، فأضيف أن هذه الفقرة فى قراءتنا لتجليات الطفولة فى الأصداء إنما تعلن:
- حتمية استمرار الطفولة طول الوقت، طول العمر،
- وأن حكمة الشيخوخة لا تستطيع أن تلغى الطفولة، وأنها (الطفولة) أقوى من كل حكمة، وأقدر من كل تحذير.
- وأن أى محاولة لإلغائها بالسعار التنافسى أثناء فتوة الشباب، أو بالحكمة الرصينة حصيلة خبرة العمر قرب نهايته، هى محاولات فاشلة.
- وأن هذه المطاردة من المهد إلى اللحد هى مطاردة الطفولة فينا لإخفائها، أو لاحتواءها، أو لـلضحك عليها بمكاسب لم تطلبها هى أصلا،
- وأن ظهور الجميلة تتعثر فى الحياء جعلت الشيخ يتردى فى الهاوية بصفته الشيخ عبد ربه المطارد للطفل المستولى عليه (لا المطارد من الأب).
- وأن الذى تردى فى الهاوية فى نهاية النهاية هو الطفل الذى أطل من عباءة الشيخ عبد ربه ينتظر الوفاق حين لم يستطع التخلص من الوصاية (وليس الشيخ نفسه)
…………………….
……………………
ونواصل الأسبوع القادم بقية الفصل الخامس: ” هل نحن نعرف ما هى الطفولة؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى “أصداء الأصداء” تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) (الطبعة الأولى 2006 – المجلس الأعلى للثقافة)، و(الطبعة الثانية 2018 – منشورات جمعية الطب النفسى التطورى) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net.