نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 7-5-2025
السنة الثامنة عشر
العدد: 6458
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين”[1]
الفصل السابع
الصلح خير (1)
أهو لزاما أن أجوع بالعافية، لمجرد أن معى نقودا أريد أن أشترى بها أكلاً شهيا؟
أهو لزاما علىّ أن أجلس مع من لا أحب، فأكون من لا أريد؟
أهو لزاما علىّ أن أكتب مالا أريد، لمجرد أن غيرى كتبه أسوأ مما أستطيع؟
أهو لزاما علىّ أن أحضر مؤتمرا يقال له مؤتمر علمى عالمى (إلخ)،
وأن أحتمل ما يجرى فيه وحوله أحضره لمجرد أننى أستاذ جدّا؟
السبت 26 يونيو 1993
….. لكن لم أنمْ.
ما ألمّ بى طيف ولا غيره. لكن لم أنم.
هو الفرح بالخروج من الشرنقة. أم لعله الشوق إلى باريس
مازلت مخاصمها خصاما شديدا منذ الرحلتين السابقتين. تذكرت أن الواحد لا يخاصم إلا من يهمه أمره، فهى تهمنى جدا، الغالية. لكن استقبالها لى فى المرة السابقة وما قبلها كان غريبا مريبا، مـّرة كان الهواء يقطع بالسكين (كما يصف صديقى الفلاح المنواتى سعيد أبو عيد الشاى الثقيل الذى يصنعه لى كلما مررت عليه)، ومـّرة تالية كانت زيارتى لها زيارة مؤتمرية قبيحة، حاولت أن أخفف من قبحها بأن اصطحبت ابنتى معى، وبأن نمر على إسبانيا قبل ذلك المؤتمر الخبيث. نعم: مُخاصم باريس مهما كان، ربما لذلك قررت أن أغادرها غدا إلى الشمال، إلى بريتانىْ، إلى “رين” حيث صديقى الذى أكدت له إمكانية حجزحجرة عند عائلة ريفية لبضعة أيام. سوف أضع قدمى فى باريس ليلة واحدة، ثم إلى رين،
“مقموص” أنا جدا من باريس مازلتُ.
فى بهو الفندق شعرت شعورا مخالفا. ليس قفصا ذهبيا أبدا،أنا أصادق الناس بعد موتهم (ألم أقل هذا بالنسبة للدكتور حلمى نمر ولسعيد الرازقى)، وآنس للمكان وأنا أودعه حتى لو كان سجنا . هذا الفندق احتوانى رحِما طيـّبا ممتدّا إلى حضن الجبل، موصلا جيدا لهمس الفجر، ركنا حقيقيا وسط ناس يتألمون ويحاولون، لماذا أسميته قفصا حتى لو كان ذهبيا؟ لماذا وصفتهم بالإعاقة ؟
ودّعت الشمس والبحيرة والجبل والكرسى والمنضدة ومقبض الحمام ومفرش المائدة وسلة المهملات واعتقدت أنهم يبادلونى ما أشعر، والذى عاجبه.
حضر سائق آخر يصطحبنى فى هذه الساعة المبكرة، قلت أحسن، فكم أحسست بصعوبة أن أوقظ السائق نؤوم الضحى هكذا مبكرا، لم أكن قد قررت شىئا بعد بالنسبة لمرورى على جنيف التى لم أستطع أن أتعلّق بها تعلقى بغيرها. نادتنى جنيف القديمة فى السر، اكتشفت أن علاقة ما تكونت معها من وراء ظهرى. أعرف أنى أننى أحتفظ بموقف خاص عادة من مواقع خاصة،أحيانا يصبح العام خاصا من خلال هذه العلاقة السرية. أشم فى كل زاوية رائحة أعرفها حين أعود إليها، أسمع من كل كرسى همسا، وأستنشق تحت كل شجرة نسمة هى هى، أعود إليها جميعا ولو دقيقة واحدة، أحيى ذا الديار وذا الديار، لا أبكى طللا، لكننى أقرئ تحيّة وأسمع الرد واضحا جليّا، (عرفت معنى ذلك لاحقا حين شاركت فى ندوة عن: شاعرية المكان لبشلار).
حين اقتربنا من جنيف لاحت لافتة تقول: “إلى المطار” قلت للسائق: إلى وسط المدينة. كان السائق على ما يبدو قد أبلغه أحدهم بأن عندى ما أودّ أن أنجزه فى جنيف “البلد” لا جنيف المطار،ربما أكون قد ذكرتُ بعض ذلك لمضيفتى. سألنى إلى أىن فى جنيف، وجدت نفسى أجيب دون تفكير: إلى فندق “الرئىس” (البريزيدانت- هذا هو اسمه، الله!!) ثم ساحة الزهور فيما بعد. ولم يكن لى أحد فى فندق البريزيدانت هذا، لكننى أريد أن أشم رائحة جدرانه لما سلف شرحه من علاقتى بالأمكنة وروائحها.
دخلتـُه شامخا (مستغفرا) حتى لا يسألنى أحد إلى أين. كانت الساعة بعد السابعة صباحا بقليل، انطلقتُ إلى البهو الداخلى مباشرة دون الاستقبال، وجدت نفسى فى المطعم الخفيف (أو الكافيتريا)، وبعضهم يتناول إفطاره. خِفت أن يأتى النادل يسألنى ماذا أطلب مع الإفطار: شاىاً أم قهوة، فتشبثتُ برجلى فوق الأخرى فى ثقة مزعومة، وتمنيّت أن أكون من مُدَخنى الغليون، فهو يتناسب وهذا الموقف تحديدا. نظرت إلى الساعة وقررت ألا أقوم إلا بعد ربع ساعة، وإلا ماذا يقول السائق. وقد كان.
فى هذا الربع ساعة المحشور فى فندق لا أحبه، وجدتنى أضع فهرسا كاملا لسِتّ كتب هى بديلة عن ذلك الكتاب السخيف الذى كدت أتورط فى كتابته. هل هذا وقته؟ متى تأتينى الأفكار العلمية ومتى يقتحمنى الشعر الذى لا أتقنه ولا أريده؟ لم يكن معى قلم وورق لكننى فهرستُ السـّت كتبٍ وحفظت مواضيعها صمَّا عن ظهر قلب، هكذا فى ذاكرتى، تأكدت أن شرايين مخى تتصلب على مزاجها. تـُغرق الذكريات الخائبة فى دهن الشيخوخة حين تريد، وتتمطى مرونة وطزاجةً وحيوية ودفقا للدم والأفكار والمعلومات حين تريد. مضى الربع ساعة فخرجت وتمنيت أن أستطيع السير ومازالت رجلى على رجل، لأن رجلى الأعلى بدت لى مثل الدرع الذى يعطينى منظرا يحمينى من الاقتراب. تسليما باستحالة المستحيل استعضتُ عن هذا الخيال الكاريكاتيرى بنفخة مناسبة، جعلتْ سعادة البيك الخواجة البواب يعدو إلى العربة التى أقلتنى، وما زال السائق أمام عجلة قيادتها، ويفتح لى الباب منحنيا ثم يغلقه خلفى مطأطِأً، يا إلهى!!!! من يقول لأمى عن الأَمـَلهْ التى يرفل فيها ابنها.
قال لى السائق وقد صدّق أننى أنهيت مهمةً ما فى البريزيدانت شخصيا، “إلى ساعة الزهور؟ بعد ذلك ياسيدى ؟”، استحليتها وهززت رأسى دون أن أنطق. لاحظ السائق هزة رأسى فى المرآة فتوجه صامتا إلى حيث أشرتُ.
أنا لم تعد تعنينى ساعة الزهور مثلما كانت تعنينى أول ما شاهدتها أول مرة سنة 1969. عندنا فى الإسكندرية الآن مثلها وأحسن. بل فى القاهرة كذلك (لولا الاعلانات!!)، وهى (الساعة) ليست من مزارات طقوسى، ثم كيف أختفى عن السائق هذه المرّة والشوارع خالية والمحلات مازالت مغلقة؟ تذكرت أننى ما جئت هنا إلا لأزور جنيف القديمة التى ساقتنى قدماى إليها منذ أول زيارة دون خريطة كالعادة. شحذت حدسى المكانى ومضيت إلى الشوارع الجانبية مباشرة. فجأة وجدت الترام. مازال يميّز جنيف. لماذا أزلنا الترام ذا الدورين من الإسكندرية؟ عبرت شريطه بسرعة دون تردد، واتجهت بالحدس المكانى إلى أمكنتى. لـمحت ثمن قفاز حريمى فى أحد الواجهات الزجاجية. حسبت ثمنه فتساوى مع مرتب خريج جامعة مصرية فى مصر لمدة أحد عشر عاما. أكملت السير بالسرعة نفسها، أسير مع الطرق التى تضيق وترتفع. هذا هو طريقى. أهلا. ها هو الدرج، وراء الدرج، لافتة تشير إلى شارع كذا. أنا مالى. أنا أعرف الأمكنة دون أسماء، الدرج غير منتظم جميل، شديد الجمال. ابتسمت، لففت حول البيت العتيق، ووجدتها، الأريكة نفسها التى. . . التى ماذا؟ ولا شىء. لم يحدث هنا حدث معيّن. لم ألتق بأحد، لم ينبض قلبى بغرام ليلى ولا عزّة، كان معى أولادى آخر مرة وضحكوا منى وأنا أقودهم: بغير خريطة إلى حيث اعتادوا أن أقودهم. المدينة القديمة بشوارعها الضيقة.
أى مدينة مهما تعملقت لا بد أن يكون بها حى مثل هذا الحى، المدينة التى تفتقر إليه ليست مدينة، أعنى ليست….، لا أعرف ليست ماذا، ليست والسلام، لا أعترف بمدينة نصر، ولا بحى المهندسين، ولا بمصر الجديدة إلا مصرى الجديدة التى بناها البارون امبان. منزل والد صديقى د. عماد غز فى روكسى بمصر الجديدة يقع فى حارة سد، نعم ، إبعد عن ميدان روكسى عشرين خطوة فى اتجاه البلد، انحرف يمينا بعد ثانى ناصية يحتلها محل ملابس نشاز، سوف تجد منزل حمدى غز، ظللت أزوره كل أسبوع وهو وحيد بعد فقد زوجته حتى تغمده الله برحمته،كنت أحبه وأتعلم منه الحب بعد أن فقد زوجته وفقد بصره جميعا. ظل يحكى لى قصص مشروعات خطوباته وغرامياته ويداعبنى حتى انقلبت جدا وكان ماكان. منزل الشيخ البرماوى صديق والدى الذى كان يرسلنى إليه والدى لاعتذر عن موعد ما يقع فى درب الوسط فى بلدنا، نفس الشوارع الضيقة التى لا تسمح إلا بمرور الحمير والمارة، قد تضيق بجمل إذا زاد حمله من الحطب عن حده.
جلست على نفس الأريكة، قالت همسا دافئا: عِـمت صباحا، ردت التحية. سألتــْنى: “هل مازلتَ أنتَ هو أنت؟ قلت لها “أنتِ وما ترين”، قالت” كدتَ لا تكون هو ، لو تأخرتَ أكثر من هذا كانت غضاريف ركبك ستزداد ضمورا، وشرايينك ستزداد تصلبا، وسوف تنسانى”. لم أفزع من التهديدين الأولين، فهذا أمر الله وحكم العمر، لكننى فزعت من التهديد الثالث، أنساها؟ أنساهم؟ يارب هل هذا ممكن؟ حين تضمحل الذاكرة وتنسى حتى أسماء أيام الأسبوع لا تنسى رائحة الأمكنة، أو طيوف الأضواء، أو أنغام همس أوراق الأشجار، لعل الأريكة لم تقصد ذلك، ربما تقصد أننى لو تأخرت أكثر فلن أستطيع أن… ، لن أستطيع والسلام، حين لا أستطيع لن أكون أنا. ماذا يهم عندئد؟ فلا عتاب ولاماض ولا حاضر
سألتها : هل يا ترى جئت قبل فوات الأوان ؟ قالت “نعم”،
صدّقتـُها مطمَـئِنّا.
نظرتُ فى الساعة فإذا الوقت قد قارب الميعاد، كنت قلت للسائق ربع ساعة، فجريت وكأن جرس المدرسة سيدق والناظر ينتظر على الباب من يحضر متأخرا. قبل الوصول إلى العربة بقليل أبطأت الخطى وانتفخت. فرقٌ واضح بين نفخة واجبة، ونفخة للاحتياط. لا يوجد بواب برتبة “بك” يفتح لى السيارة، ولا السائق ملتفت، فحمدت الله لغفلته. لم يلحظ السائق عرقى. لم يخطر على باله خوفى من التأخير. دلفت إلى السيارة فأدار السائق المحرك صامتا، ولم أعتذر. أوصلنى للمطاروتمنى لى سفرا طيبا، وخلاص.
فهِمَتْ مسئولة التذاكر فى القاهرة فهما خاطئا من موقف تذاكرى وحقى فى العودة إلى باريس قبل عشرة أيام وما إلى ذلك، فطلبتْ مسئولة التذاكر فى جنيف ثمن تذكرة جديدة. لم أحاورها كثيرا مثل زمان، ليكن، فهى مستورة، ولأدبر أمرى مع الشركة المخطئة عند عودتى إلى القاهرة. قلت لنفسى هذه أول ميزات الستر، ألا تـُغيـّر غرامة مهما بلغت مزاج السفر. الأهم من ذلك أننى لا أدفع شيئا، فهذا الشئ القبيح الذى اسمه “الأمريكانى التشهيلاتى” هو الذى يدفع عنى كل شىء. أنا أعرف أنى أدفع عن طريقهٍ أكثر، وأصرف أكثر، هذا إذا تشجعتُ فصرفتُ به أصلا،، “فليكعّ” الأمريكانى التشهيلاتى(الأميريكان إكسبريس) كما شاء له أن “يكع”، وليبحث بعد ذلك عمن يدفع، فأنا فى مصر لا أدفع، (هكذا أوهم نفسى) ولاأعرف قيمة محددة للقرش، لأننى لا أعرف كيف ولا لماذا يجئ، وإن كنت أحاول أن أعرف كيف وإلى أىن يجب أن يذهب،
وصيتى لأولادى مكررة وحادة ومؤلمة. قال لى إبنى مصطفى وأنا أحاول أن ألمح له إلى بعض هذه الوصية . كنت أحاول أن أخفف منها، أو بصراحة أن أعلمهم أننى لا أستطيع أن أضمن تطبيقها، وأنى مسامح ، قال مصطفى : “إنك لو أعطيتنى كل يوم ألف جنيه، فإن ذلك لن يـُصلح ما قلتــَه سابقا”، قالها وكأنه يلومنى لوما شديدا على ما لا أعرف، وبلعتــُها، كيف أصلـِح ما قلتــُه له سابقا؟ وماذا قلت له سابقا يحتاج لإصلاح أو اعتذار؟ قلت لأولادى مرارا (كما ذكرت قبْلا): إن المال مال الله، وكل ما أتركه لكم، بل كل ما ستكسبونه حتى بعرقكم، هو مسخـّر أساسا لخدمة المرضى الذين هم أساتذتى وأصحاب الفضل علىّ وأصحاب هذا المال. ثم لخدمة المعرفة (تأليفا أو نشرا أو توسيع أفق وتحريك وعى)، ثم بعد ذلك لكم كامل الحرية فى أى شىء، لعلّ مصطفى كان يلومنى على أننى -بذلك- لم أترك له ولهم أى “بعد ذلك”. ما ذنبى أنا إذا كان هذا هو ما تعلمته من مرضاى وحياتى وربى عن معنى حمل الأمانة ؟ حين اجتمعت بأولادى فى لقاء تال أبديت دهشتى وعدم فهمى لموقف هذا الأصغر، فأجابنى بما يعنى: لا عليك فقد تفهم فىما بعد!!! كذا؟؟؟ هذه هى الإجابة التى اعتدنا أن يجيب بها الأب على أطفاله وهم يسألون عن الجنس أو عن الله، فنجيبهم: غدا حين ستكبرون ستعرفون،. . . ، لم يكن ينقص ابنى إلا أن يضيف بعد قوله. “فيما بعد” أن يضيف “لمّا تكبر”. . . الله يسامحك يا مصطفى يا إبنى، ثم ماذا عليه هو أو إخوته لو لم ينفذ أحدهم الوصية مادام سيختبئ فى حروف وكلمات وفتاوى لا تعنينى، حتى آية الذكر والأنثيين هذه أبديتُ رأيى فىها، لأن تعريف الذكر يتغيّر بتغيّر الأحوال الاجتماعية، والذكر عندى الآن هو: من يتصدّى لحمل أمانة المال، مال الله الذى تصادف أنه فى يده، ويتعهّد مسئوليته، ويوصله إلى أهله، هذا الذكر هو ذكر سواء كان له شارب أو ثديان، ولم يعجب بعضهم هذاالتفسير وإن لم يعلنوا ذلك.
لكنه هو وحده الذى سيحاسبنى، أم أبيع عقلى لغيرى يا ربنا؟
قام عنى الأمريكانى السريع التشهيلاتى بدفع المعلوم. والتفت إليه فى جيبى وللفتاة الوديعة التى اعتذرت لى عن هذه الغرامة. أخرجت لهما لسانى فى سرى. هذه أول مرة تتوقف آلة عقلى الحاسبة عن الجمع والطرح فى الغربة، وأنه لو وفرتُ كذا لصرفتهُ فى كيت، ، وأنه كان أولى بى ألا أتناول غذائى فى المطعم الفلانى حتى أستطيع أن أشترى لعبة لحفىدى من هذا المحل. كان الأمر هكذا دائما أبدا، وإلى هذا الحد؟ نعم!!، حتى بعد أن أصبحتُ مستورا كما أنا الآن؟ نعم!. اختلف الأمر هذه المرة، حدث تغيير يبدو حقيقيا. هل اطمأننت؟ هل توقفتُ عن الخوف من الموت جوعا؟ ربما، فليأت التغيير حتى أستطيع أن أعيش ما تبقى لى كما ينبغى دون أن أتخلى عن مسئوليتى نحو القرش والناس. ربنا يسهّل ويمنحنى ما أستأهله قبل أن يفوت الأوان، ليس ذنبى أن أكون حريصا أتور أننى أرعى الله وأنا أتذكر الناس الذين لا يقدرون على مجرد تصور ما أكرمنى الله به من سعة رزق وفرص حركة.
يقول أولادى أحيانا – بأدب غالبا وفى سرّهم معظم الوقت!!- وهل هذا الذى تعمله فى نفسك يعود على من لا يقدر بشىء؟ وأكتشف وجاهة رأيهم، لكن العكس أيضا شديد السوء، ماذا لو نسيت، ونسوا قبلى أن هناك أصلا من لا يقدر؟ ثم إنه لا مثل هذا التفكير ولا حتى الاشتراكية قد استطاعت أن تحل لى هذا الأمر.
حين كنت فى سوريا فى أبريل الماضى، زرتها بالعربة بعد طول حنين. شعرت أن هناك شيئا مازال باقيا مما يسمّى اشتراكية، مثلنا زمان، الأشياء رخيصة، والشعب خائف، والرئيس مقدس، وبلودان جميلة وخلاص، قال: خلا اااااص، قال لسّة، خلااااااااص، لسااااااه، وظل الأمر هكذا سبعين عاما ثم تفكك الاتحاد السوفيتى. من ورائه توابعه. تركونا فى الخلاء – لابد من حكومة، وضرائب، وزراعة وصناعة وتصدير وتحديد نسل، وبعدها يا أولادى يا كرام سوف أصرف – وتصرفون – كل ما يصل جيبى دون أن أفكر فى أحد غيرى كما تريدون لى، بل كما تريدون لكم يا خبثاء.
إبنى مصطفى هذا يتمتع برفاهية مبكرة شديدة الدلالة، لكنه ليس مدللا ولا مستسهلا، أعتقد أنه يريح نفسه بأن يتصور أنه أكثر تدينا منى. مادام لا يوجد”نص” يمنع هذه الرفاهية فهى حقه مهما قلتُ أنا. الأخلاق الدينية الرسمية المعلنة تعفى صاحبها من الأخلاق الربانية. هكذا أفهم كيف أن الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره.
تحتاج رحلاتى إلى البلاد العربية وتجوالى فيها بالسيارة (وعلى الأقدام) أيضا إلى عمل مستقل. هل هناك نصيب وبقية من عمر لأكتب ترحالا خاصا لمعايشتى ناس وطرق البلاد العربية؟ لن أفعلها، رغم أنى مدين بقدر كبير من الوعى لرحلتى لليمن، صنعاء وثلا، والبيوت ذات الستة أدوار منحوتة فى الجبال منذ آلاف السنين، يسكنها ناسها هم هم حتى اليوم، ومجالس القات. صنعاء: روما العرب (كما نعتها الطيب صالح) والسعودية، والطائف، والأردن، وإربد، والبتراء، وبلودان والشام، و بيروت، وطرابلس الشرق 1954.
أتصور أن علىّ أن أرجع إلى كل هذا وأن أسجـّله، أليس العرب كل العرب هم ناسى وطريقنا واحد، ؟؟ ناسنا ليسوا كالناس لم أقل أحسن أو أسوأ، وطرقنا أيضا ليس كالطريق .لماذا كتبت عن الخواجات دونهم؟ وكيف أكتب عنهم لو أردت؟ كنت قد لوّحت باحتمال الحكى عن الناس والطريق فى سيناء، وسانت كاترين، ودهب والعسلة. . . . ، ثم هذا العام فى العلمين ورأس الحكمة، ثم طابا، حين زرتها بفضلك يا عمنا أنور ياسادات، دعوت لك بالرحمة حين عبرت نفق أحمد حمدى أول مرة ،وحين زرت جزيرة فرعون، وقلعة صلاح الدين ونويبع. زرت طابا قبل أن نأخذ الفندق إياه، ثم زرتها بعد أن استرددناه. كلما عدت إليه أتذكر الزيارتين وأنتقل بين حالتين ، وأحمد الله أننى عشت حتى أقارن بين حقدى وأنا وراء الأسلاك أنظر إلى ألف متر فى يد نذل قاتل، ثم أرانى مضيفا لهم بسماح وكرم. كل واحد يعمل بأصله.
لن أكتب عن أى من ذلك. لا أستطيع الآن. ليكن الأمر متروكا لفرصة أخرى إن كان فى العمر بقية، وفى القلم عافىة، وفى الذاكرة متسع، أم أن الهرب من التعرية والمواجهة ونشرالغسيل إياه هو الذى يدفعنى أن أزوغ متمثلا القول المأثور “فىن الهرب يا عرب؟” نعم، وبكل ألم وخجل، حين تضم ضيق الوقت إلى حكمة الهرب تجد مبررات العزوف عن الكتابة عن بلاد العرب وناس العرب ، وطريق العرب، جاهزة ومنطقية. رحلاتى إلى الجانب الآخر من العالم تسمح لى بالتعرى، بالطلاقة. رحلتى إلى داخلى تحتاج إلى الستر والصبر والتقية، أما رحلتى فى العرب وبينهم فهى تحتاج إلى مغامرة أخرى لها استعداد آخر، وهدف آخر. ماذا أقول عن السعودية وقد زرتها هذا العام مرتين مضطرا بغير أوان؟ ماذا أقول غير ما ألمحت إليه فى مسألة التأشيرة والجوازات والتأخير واحترام الإنسان العربى وغير العربى؟ ماذا أقول عن الشوارع و”الوثاق المزدوجس؟ (Double Bind أن تقول الشئ وضده على قناتين للتواصل، فضلا عن أن تقول ما لا تفعل، وتفعل ما لا تعلن).
ماذا أقول عن البؤر الثقافية، والشوق الحضارى، والحس القيَمى، وكل هذا عايشته فى كل بقع العالم العربى، ولكن فى حجرات لها أقفالها المتينة، حركات رائدة كثيرة متطلعة واعدة ، وموقف نقدى يقظ مسئول، كل ذلك مع وقف التنفيذ، والاقتصار على الحلول الفردية، والأحلام الثللية. والقصائد أحيانا.
كل ذلك يقول:
إننا نستيقظ دون أن نتخلى،
وسوف يتراكم ما ينفع ليبقى.
مهما طال الزمن.
أجاهد نفسى حتى لا أستطرد وإن كنت لا أستطيع ألا أعرُج إلى الدار البيضاء،- كازابلانكا- لكننى أنجح فى كبح هذه الطلاقة الغامرة، علما بأن هذا العمل ليس إلا مجموعة من الجمل الاعتراضية، والشاطر يوصلها ببعض، لدرجة أنه من كثرة الجمل الاعتراضية لم يعد القارئ – ولا الكاتب- يستطيع أن يعرف أين الأصل الذى تعترضه هذه الجمل، ومن يريد أن يضع تشخيصا مناسبا لكل هذا: يورينى شطارته.
………………
………………
ونبدأ الأسبوع القادم في استكمال الفصل السابع: “الصلح خير“.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – ترحالات يحيى الرخاوى: (2000) وتتضمن الترحالات: (الترحال الأول: “الناس والطريق”) و(الترحال الثانى: “الموت والحنين”) و(الترحال الثالث: “ذكر ما لا ينقال”) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والترحالات موجودة فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم.