نشرة الإنسان والتطور
الخميس: 1-5-2025
السنة الثامنة عشر
العدد: 6452
تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) [1]
وهكذا نواصل نشر “الأصداء” مع “أصداء الأصداء”
بقلم: “يحيى الرخاوى“
الفصل الخامس
الطفولة: نبضٌ متجدد دائم (4)
إلا أننى فى هذه الدراسة الجامعة أنتقل من الانطباع إلى التحديد، فأضع لهذا الجزء من هذا الفصل (!!) فروضا أساسية – لها تفريعاتها - كما يلى:
أولا: إن الطفولة ليست مرحلة تاريخية نعيشها ثم ننتقل منها إلى ما بعدها، وإنما هى مرحلة بدئية تتطور فينا وبنا حيث:
(أ) تتداخل فيما بعدها متكاملة فى النضج السوى،
(ب) أو تختفى مُنكرة أو منسية [2]
ثانيا: إن مرحلة الطفولة قد تظهر مستقلة عند الشخص العادى جدا (فرط العادية)[3] فى الحلم أساسا، أو قد تفبرك إذا تعسفنا تذكرها بالتزييف دون أن ندرى، سواء ظهر ذلك فيما يسمى السيرة الذاتية، أو حكيت فيما يسمى التحليل النفسى، أو رويت بزهو عنترى زائف أو لطيف إذا ما حكيت للأولاد أوالأحفاد مثلا (!!)
ثالثا: إن هذه المرحلة (الطفولة) تظل نشطة نابضة عند المبدعين خاصة، لكنها لا تنشط مستقلة، وإنما تتكامل فى النشاط الناضج الراصد القادر، فيتخلق الناتج الإبداعى الأصيل، فالطفولة – متكاملة- تصبح مسئولة عن إثراء المحاولات الإبداعية بنبض الطزاجة واستمرار الدهشة، وأحيانا ما تساهم فى رسم بعض تجليات الطفولة مباشرة إذا ما كان فى العمل الروائى أو المسرحى أطفال من نسج خيال المبدع.
رابعا: فيما يتعلق بما يسمى السيرة الذاتية التى يغامر بعض المبدعين بالإقدام على تسجيلها، لا يكون حضور مرحلة الطفولة فى شكل ذكريات هو الحضور الموضوعى الذى يمكن أن يعلن لنا كيف نشأ المبدع -مثلا- وكيف أثرت طفولته فى مسار إبداعه، ومهما كان المصدر بادى المصداقية ظاهر الأمانة، فإن هذا الحكى تتداخل فيه ألعاب الذاكرة لا محالة، وبالتالى يتدخـل أثر الوعى الآنى المباشر بما يحكى عن نفسه، ولو بدرجة غير مشوهة.
خامسا: إن أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ قد قدمت لنا صورة فائفة التوليف بين عدة مستويات، ففى الوقت التى هى ليست ذكريات خاصة، وفى الوقت التى هى ليست حكيا عن طفل فى قصة أو رواية، فإنها قد صاغت نبض الطفولة الحاضرة حالا (حال كتابة الأصداء) فى تجليات مجسدة راحت تتردد كرجع الصدى، لتعلن عدة مستويات معا (على الوجه التالى):
(1) حضور طفولة المبدع شخصيا، فى تجليات تعاش أكثر منها ذكريات تحكى، بمعنى أن الطفل الذى “نراه” فى الأصداء نراه “حاضرا” وليس “ماضيا”.
(2) الحفاظ على كم الطزاجة والدهشة حتى (وخاصة!) فى مواجهة الكوارث والموت.
(3) انسياب الخيال الخصب الموجز الذى يجمع بين شدة البراءة وعمق الرؤية.
(4) تناول ما هو طفل، وطفولة، وطفلى، بشكل يكشف عن معلومات أساسية (الكشف المعرفى بالإبداع الروائى) بما يمكن أن يضيف إلى المعارف النفسية ما تحتاج إليه حتما.
وتفصيل ذلك:
(1) حضور الطفل منذ البداية
ظل الطفل “نجيب محفوظ” (وليس طـفل نجيب محفوظ) رائعا حاضرا متكاملا طول الأصداء، حتى بعد أن استولى عليه الشيخ عبد ربه التائه، ويبدو أننى تحسست ذلك فى الدراسة التشريحية حين عنونت الفصل الأول هكذا “الطفل يرحب بالشيخوخة ويغازل الموت”، ثم كان الفصل الثالث (الممتد فى الفصل الرابع) بعنوان “إبن حظ”:طفل تائه (ياأولاد الحلال) فى ثوب كهل يعبد ربه.
كتبت فى الفصل الأول: شارحا أول فقرة: “دعاء” [4] (1) ما يلى :
تبدأ الأصداء بطفل قبل السابعة، يحمل بذور الثورة الفطرية الجميلة، التى أسماها “حنين للفوضي”، تواكبها كآبة نتيجة للإحاطة المحكمة ما بين خادمة تحرسه، وقهر يسوقه…إلخ
وأكرر هنا الآن أن الحضور الحى للطفل بهذه الصورة الصريحة لا يعني-مباشرة- أن هذا هو محفوظ طفلا، فعلينا أن نستقبل هذا الطفل الذى سنتحدث عنه باعتباره تجليات الطفل الآنى عند محفوظ حالة كونه يكتب الأصداء، فالفرض الذى نحاول إثباته هو أن طفل محفوظ تكامــل فى كاتب الأصداء، حتى يمكن أن نرجح أننا نقدم طفلا آنيا حاضرا، وليس ذكريات مضت يستعيدها مبدع يتذكر.
(2) حضور الطفل حتى النهاية
تنتهى الأصداء، أو تكاد تنتهى (فقرة الطائر الأخضر 208) بخيال طفلى رائق فى مواجهة “المغيب”، وذلك حين يوجز الشيخ عبد ربه التائه حياته، وكيف أنه قضاها فى حب ونجاح وغناء فى الليالى البدرية، إذا به يعلن حلاوة النهاية، وبدلا من أن يطلق علينا قذيفة وعظ حكيمة، يستدعى طفله (وقليلا مايفعل ذلك الشيخ عبد ربه، عكس محفوظ – أنظر بعد)، يستدعى طفله ليستعيد إبداع الطفولة الفخور بالجهل المعرفى
“وعند المغيب هبط الطائر الأخضر فغرد وأشجانى دون أن أفقه له معنى.”
إن من أكبر ما يميز الطفولة هو ما يمكن أن يسمى الجهل المعرفى، ولعله هو هو الغيب الذى على المسلم أن يحافظ على “الإيمان به” حرصا على طزاجة فطرته، وقد أشرت فى الدراسة التشريحية إلى قراءتى مغزى الطائر الأخضر فى هذه الفقرة، متصورا أنه يقابل بشكل :” ماكان أهلنا يقولونه لنا صغارا فى قريتنا: من أن “الذبابة الخضراء” التى تحوم أحيانا حولنا، هى “روح عزيز”، فأحببناها، وصالحنا الموت من خلالها”. [5]
لا أريد أن أسبق الأحداث لأعلن اختلاف حضور الطفل فى الأصداء قبل وبعد ظهور الشيخ عبد ربه التائه، فسوف يأتى هذا فى حينه، فقط أريد أن أنبه هنا إلى أنه بالرغم مما سنرى ماذا فعل الشيخ عبد ربه بطفل محفوظ، فإن حضور الطفل لم ينقطع أبدا ولو بشكل غير مباشر.
3- الطفل يعيش الجدل، ويتحمل التناقض، ويصالحنا على الموت
نفاجأ فى الفقرة (2) التالية مباشرة “رثاء” بإظهار قدرة الطفل على استيعاب ما لا يستطيعه الناضج، فهو فى حضوره فى مواجهة الفقد (موت الجدة) يتعرف، ويستكشف، ويجزع، ويشارك، ثم يتجاوز، حتى نشعر أننا لو تعلمنا منه كل ذلك فى مواجهة الموت، لهان الموت. الطفل فى هذه الفقرة استطاع أن يتحمل غموض التناقض، ليثبت لنا أن الطفولة أقدر على التعرف على الموت وتجاوزه، وأن الموت الذى يتحدث عنه الكهول وينتظرونه ليس مطروحا على من استطاع أن يحتفظ بطفولته نابضة متجددة، بل إن هذا الموت الذى استوعبه هذا الطفل ليتجاوزه إنما يعلن -ضمنا- أن الطفولة الدائمة المتجددة هى بعث متكرر، وأن الموت هو التمهيد الضرورى للبعث، إذ لا يوجد بعث بلا موت، وهنا يظهر المقابل، حيث تقفز الولادة (التغير) من خلال الموت!!!
فعلى الرغم من هول الصدمة الأولى التى عاناها طفلنا هذا وهو يتعرف على الموت فى أول زيارة له باعتباره “عملاقا له أنفاس تتردد فى كل الحجرات، إذ راح شبحه يطارد طفلنا دون هوادة، على الرغم من ذلك فقد راح الطفل يجرى أمامه: لا ليختبئ، ولكن ليلتقى بالحياة، “الجميلة – ذات الضفيرة”-..إلخ
هذه البداية الواضحة التى تتوثق فيها الحركة بين الحياة والموت، إنما تعلن بشكل مباشر أن الذى ينقذنا من الموت (الموت/الفناء) هو الاندفاع المتجدد نحو إعادة الولادة (تجديد الطفولة فينا)، ومحفوظ يعبر عن ذلك من خلال وصفه لاندفاعة الطفل الهارب من الاستسلام لأسى الفقد (الموت/الاختفاء) إلى الجميلة ذات الضفائر فى وصفه لحركته بأنها حركة “مباغتة، متسمة بالعنف، متعطشه للجنون”.
أى طفولة حية هذه التى يسترجعها صاحب الأصداء بهذا الوضوح حتى يعلمنا جمال انفجارات وعى الأطفال الداخلية، تلك الانفجارات التى تـغلف بالجنس دون أن يكون بالضرورة جنسا وإنما حياة (لاتستبعد الجنس)، فها نحن نفاجأ بطفلنا وهو يجذب الجميلة إليه قادرا، ولا يرتمى فى حضنها هربا، يجذبها بكل ما يموج به صدره من “حزن وخوف”!!
طفل الأصداء، هكذا منذ البداية، ليس ذلك الطفل الذى مسخناه بأوهامنا عن تقديس البراءة، وحلاوة النكوص، لكنه الطفل الفطرة، الطفل العملاق الطيب الذى راح يدور حولنا ويأخذ بيدنا بينما الأصداء تتردد، ليمارس أمامنا ما لا يستطيع الشخص العادى (وبالذات المفرط فى العادية) أن يمارسه، وكأن محفوظ راح ينبهنا إلى أن الطفل فينا إذا ما حافظنا عليه، هو الذى يمكن أن يؤلف بين المتناقضات فى سهولة ويسر، فنتذكر-رافضين-أولئك الذين يتحدثون عن “الجدل” حتى يحرموا من ممارسته وهم ينسون أو يجهلون أن جدل الحياة فى التوليف بين المتناقضات هو قبل الكلام وقبل التنظير، وبعدهما على قمة حركية النضج، فالجدل هو قانون الطبيعة وليس من علوم الكلام أو الكتابة، وهو -بالتالي- أقرب إلى الطفولة المتكاملة هذه.
(4) تفجرات الولادة الجديدة منذ الطفولة
ما زلنا فى الفقرات الباكرة، فنرى فى الفقرة (3) “دين قديم” – كيف خرج الطفل من أزمة المرض بعد أن فرح بالرعاية المفرطة حتى كاد يستمرئـها، كيف خرج إنسانا آخر أكثر التزاما “خــلق بين جوانحى شخص جديد”، علما بأن التفكير المنطقى العادى السائد يحذرنا من مثل هذه المواقف التى قد تـعلم الطفل فرط الاعتمادية، تعلمنا: كيف خرج طفلنا هذا من إغراء الاعتمادية والتمادى فى العجز، خرج ملتزما مدينا بما ينبغى، “هكذا”، فراح يتفوق غير مكره على “ذلك”!
تحفظت- فى القراءة التشريحية- على احتمال “إعادة الولادة ” فى هذه السن الباكرة، إلا أن هذا الاحتمال قد نبهنى إلى أن إبداع محفوظ يقترح -صادقا- أن النمو يتفجر حلقات بعضها من بعض فى أى سن، ومع أية فرصة، وأنه لا توجد فترة كمون طويلة كما صور لنا فرويد فى هذه المرحلة من العمر (من خمس سنوات حتى البلوغ)، وأن الطفل إذ يشبع مما يشبه السلبية (إغراء الاعتمادية والتمادى فى العجز)، قد ينطلق إلى التزام ناضج غير متوقع يعلن طفرة محدودة على مسار النمو، كما رأينا فى هذه الفقرة !!
(5) الطفل الفيلسوف الحائر:
نعرف علاقة نجيب محفوظ بالفلسفة، ونتذكر حيرة اختياره الباكر بين المسار الأكاديمى فى الجامعة فيلسوفا أو أستاذا للفلسفة وبين الأدب (والوظيفة التقليدية)، وهو يزعم أنه ترك الفلسفة إلى الأدب بصعوبة، ولكن بحسم لا رجعة فيه، وكثير من أعماله ترفض هذا الزعم، ثم تأتى الأصداء لتدعم هذا الرفض، ثم يحضر طفل الأصداء ليؤكد مباشرة أن نجيب محفوظ لم يترك الفلسفة أبدا، فإن كان قد تركها، فقد تركها إلى أصلها، أعنى “حب الحكمة، بتطوير تساؤلات الطفل.
ذلك أننا نعرف أن أسئلة الأطفال هى هى أسئلة الفلاسفة، لكن الطفل يسأل ويتساءل ولا يلتزم بمنهج رصين فى محاولة الإجابة، أما الفيلسوف فهو يسأل ويتساءل ويجتهد ويلتزم ويثابر ويولد الأسئلة من الأسئلة والفروض من الحيرة..إلخ
الطفل فى الأصداء لم “يدع فرصة” إلا ورمى فى وجهنا أسئلته التى تجاوزت مرحلة الفجاجة والاستفهام السلبى، إلى مرحلة التساؤل الذى يحمل إجابته، كما يحمل مخاطرة التصادم من فرط الإدهاش.
ا- ففى فقرة “مفترق الطرق” (5) تصورت أن مفترق الطرق هو الذى جعل أحد الشقيقين (إبنا العمة)”بيها” (من بيه!!، بك) والآخر فلاحا “لم يتبوه”، وعلى الرغم من أن الذى كان يحضر بانتظام لزيارة أمه (عمة الطفل الراوى) هو الفلاح وليس البيه، فقد كانت تساؤلات الطفل عن “الذى يحضر” لا عن “الذى يغيب”، وكأنه يعترض أن صاحب الواجب هذا نكرة، وأن الغائب المتمنظر هو الأصل الذى يـنـسب إليه هذا الحاضر، وأهم ما شدنى فى هذه الفقرة هو عنوانها”مفترق الطرق”، حتى تصورت أن ما شد الطفل هو سؤال يقول: “متى افترقت الطرق بالشقيقين؟ حتى أصبح هذا بيها يُحترم تلقائيا حتى فى غيابه، وأصبح شقيقه فلاحا تطلب العمة له الاحترام بالأمر من ابن شقيقها- حالة إعلان وجوده بالحضور العيني!!
فالذى يتحدث بهذا العمق تحت هذا العنوان الغامض نسبيا عن مفترق الطرق هو طفلنا الحكيم (الفيلسوف) جدا.
ب- وفى فقرة “الأيام الحلوة”(6): يصلنا تساؤل الطفل عن معنى وقيمة “العمر الافتراضي” للقوة الغاشمة، وكيف أنها تلغى “الآخر” بعيدا أو منفيا أو مجهلا حتى نهاية العمر. إلا أن طفل الأصداء لا يجعلها تمر هكذا، فهو بادى التسامح إزاءها عكس ما اعتدنا من إعلاء شأن المبالغة فى مصارعة القهر وكلام من هذا. هنا طفلنا بالغ التسامح يحكى عن هذه “القوة الغاشمة” وكيف بلغت نهايتها وهو يتابعها حتى يرينا محدودية عمرها الافتراضى، وكيف استمر عـمـى صاحبها حتى بعد أن زالت القوة، ولم تبق غير ذكرياتها التى مازال يعتبرها هذا الغشيم “أياما حلوة”!!!
جـ إلا أن هذه الحكمة المباشرة -نسبيا- تتضاءل بجوار الحكمة التى تصلنا خفية رائعة من فقرة مثل فقرة “المليم” (33)، فالطفل هنا يعلمنا من خلال نسيانه ما كلفته به أمه أن يشتريه بمليم، وفى نفس الوقت يقينه أن ما كان مفروضا أن يشتريه لا تزيد قيمته على مليم، يعلمنا أن علينا أن نمارس الحياة ما دمنا فيها، وأنه ليس ضروريا أن نحدد “محتوي” ما تتيحه لنا الحياة بقدر ما هو مهم أن نتيقن أننا لن نحصل منها إلا بما تسمح به هذه الأدوات التى أعطتنا إياها، لا أكثر ولا أقل.
(6) الطفل الشيخ:
حين التقى “بها” وهى تلاعب حفيدها وهو يبنى قصره الرملى (فقرة “فرصة العمر” -24)، بدا لى أن الشيخ قد توحـد بحفيدها، ثم إنه حين تحسر على الفرص التى ضاعت منه، بعد أن حكت له ما حكت، بدا لى وكأنه يبنى قصورا طفلية جديدة من رمال أقل تماسكا، فعاد هذا الشيخ الجميل الشبقى طفلا من حقه أن يزور قصوره الرملية القديمة، يعاود فتح حجراتها أو حتى يأمل فى تجديدها، بل ومن حقه أن يبنى لنفسه قصورا جديدة من الرمال أيضا، مادام قد نجح هكذا فى الحفاظ على طفله نشطا فى هذه السن، وهل لبناء قصور الرمل أوان؟
(7) تجاوز الأوديبية:
لا يخفى -بصفة عامة- كيف أن نجيب محفوظ يحمل لسيجموند فرويد قدرا مناسبا من الاحترام والاعتراف بالريادة، إلا أنه لم يستدرج -مثل إحسان عبد القدوس مثلا- فيسمح للفكر التحليلى النفسى أن يأخذ دورا محددا أو مباشرا فى إبداعاته، بل إنه تناول فرويد فى “حارة العشاق” بشكل مباشر أكثر مما تأثر بفكره، ولعل أثر فرويد على إبداع نجيب محفوظ هو أنه سمح له أن يطلق نبض الجسد، ولغة الجنس بسلاسة حاضرة، وحيوية فياضة، لا أكثر.
أما علاقة شخوص محفوظ بالأم – عامة- فهى علاقة عظيمة الدلالة يمكن إرجاعها إلى علاقته شخصيا بأمه دون أن نقصرها على ذلك ، والباحث من مدرسة التحليل النفسى عن أوديب فى أدب نجيب محفوظ لا بد أن يتعسف حتى يجده، اللهم إلا فى السراب، وقد أوضحت فى دراستى السابقة لهذه الرواية [6] كيف أن العلاقة فى السراب كانت بادئة من الأم إلى الإبن وليس العكس كما يزعم فرويد (وهذا هو أحد التفسيرات التى عرضناها للموقف الأوديبي) [7] وعلى الرغم من كل ذلك فيصعب أن نتكلم عن الطفل فى الأصداء دون أن نعرج إلى استقصاء الموقف الأوديبى:
فى فقرة المهمة (90) لم يفصح صاحب الأصداء ولم ينف الموقف الأوديبى، ولم تكن العلاقة مع الأم – هذا إن كانت علاقة أصلا- بل مع بديلة لها “الجارة”، وكان الأهم فى الفقرة هو ما ذهب الطفل لإحضاره، من الجارة (بديلة الأم)، وليس ما كان من تفريج الجارة له أرجاء بيتها حتى “مضى الوقت مثل نهر جار”، ولم تختف أمه الحقيقية (الأصل) عن هذه الصورة للأم بل “كانت..ترد على خاطرى أحيانا فأتخيلها وهى تنتظر” أمـه الحقيقية، تنتظر ما ذهب لإحضاره، أم تنتظر ما لم يصرح به محفوظ؟ بل إنه من المحتمل أن انتظار الأم هكذا كان رفضا للموقف الأوديبى المحتمل وليس ترجيحا له.
وهكذا يبدو كم تكون قراءة هذه الفقرة -أوديبيا!! – تعسفا لا مبرر له.
لكن فى فقرة النهر (فقرة 97) تصرح العجوز التى التقى بها بعد فترة وهى تذكره بنفسها ” كنت أول تجربة لى وأنت تلميذ “و” لم يكن ينقصنا إلا خطوة!”، فإننا لا نستطيع – رغم حذق محفوظ فى التخفى- إلا أن يخطر ببالنا هذا الميل إلى الأم البديلة، لكن ليست كل علاقة بين صغير وكبيرة (سنا) هى أوديبية أصلا، فليس هنا ثمة تنافس مع أب، وليس ثمة محرمات وليس ثمة عمى عن طبيعة العلاقة.
وقبل ذلك، فى فقرة “المتسول”(36) أطلت إطلالة جنسية بين فتى فى العشرين وجارته – الرحبة السخية الأنوثة – فى الخمسين، ومع ذلك، لا يمكن اختزال هذه العلاقة إلى المستوى الأوديبى فحسب.
من كل ذلك نستطيع القول إن محفوظ الطفل فى الأصداء (وغالبا فى غير الأصداء) لم يركز بشكل مباشر أو غير مباشر على العلاقة الأوديبية ودورها فى نمو أو تشويه الطفل، وإن كان قد تناول العلاقات الأمومية الطفلية بكل عمق، كما تناول العلاقات الجسدية والعاطفية والجنسية بكل إحاطة.
إن التنبيه إلى الفصل المقصود بين أسطورة أوديب وبين نمو الطفل ليس إنكارا مباشرا لعقدة أوديب، لكنه تأكيد على أبعاد أعمق وأرحب لمسار الطفل النامى، وهو إشارة إلى أن توجه بعض الرغبات الحيوية أو العاطفية أو الجنسية إلى الأقربين من الجنسين، أو إلى من هو أكبر سنا، لا يحتاج إلى كل هذه الأساطير شبه العلمية، بل إنى شعرت أن المغالاة وربما سوء الفهم أو سوء التأويل التى قرأ بهما فرويد أسطورة سوفكليس يمكن أن يكون حائلا دون فهم نمو الطفل بالمعنى الذى أردنا أن نقدمه فى هذه الدراسة، وبيان ذلك:
إنه ليس من المفروض ولا هو مطلوب أن ينتصر الطفل على والده بعد منافسة جنسية تمر بالتقمص حتى يستقل، أما أن ينتصر الوالد على الطفل، وهذا وارد فى أى صراع، فهو لابد أن فينفيه أو ينبذه، حلا للموقف الأوديبى، إن المسار الأرجح الذى نتبناه، وهو ما أكده حضور الطفل فى الأصداء، هو أن الطفل يتطور فى طفرات، وأنه إذا تقمص الوالد فإن ذلك مرحلة مؤقتة سرعان ما يخلع بعدها هذا القميص من خلال اضطراد نموه، ليصبح كيانه الطفلى (الذى كان طفليا) إثراء للكيان الكلى وجزءا منه، وكل هذا لا يحتاج إلى تأويل أوديبى أو خصائى أو جنسى أصلا.
(8) إيجابية الهجران، وازدواجية النداء:
تنتهى فقرة “القبر الذهبي”(48) بأنه: “هنيئا لمن كانت نشأته فى بوتقة الهجران”. ومع أنه كان مناما، ومع أن النقش كان على قبر، ومع أن القبر كان ذهبيا، إلا أن العبارة لم تفقد معناها الدال، فمنظر القبر تحت أغصان شجرة سامقة مغطاة بالبلابل الشادية، لا يعلن الموت مهما أوحت الألفاظ، ومن منطلق ما تدعونا إليه الأصداء لإعادة النظر فى إشاعات التربية، فإن هذه الفقرة تشير إلى دور “الهجران الإيجابي” (إن صح التعبير) فى مقابل وفرة الرعاية وإحاطتها من جهة، والحرمان النبــذى أو اللامبالى من جهة أخرى، وقد ذكرت فى الدراسة التشريحية كيف يزعم رهط من علماء النفس، وإلى درجة أقل علماء التربية، أو من يسيئون فهم هؤلاء وأولئك، كيف يزعمون أن: “…..الهجران – خاصة فى الطفولة – كله شر، وأن “الطفولة السعيدة” هى القادرة أن توصلنا إلى “الصحة السعيدة” التى تحيطنا ونحن نرفل فى “مجتمع الرفاهية”، وهى التى تتم بعيدا عن “بوتقة الهجران”، وكل هذا يضربه محفوظ فى جملة واحدة.
………………
………………
ونواصل الأسبوع القادم بقية الفصل الخامس: ” هل نحن نعرف ما هى الطفولة؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى “أصداء الأصداء” تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) (الطبعة الأولى 2006 – المجلس الأعلى للثقافة)، و(الطبعة الثانية 2018 – منشورات جمعية الطب النفسى التطورى) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net.
[2] – ثمة أشخاص يزعمون صادقين أن الواحد منهم : لم يكن طفلا أبدا”، وهناك من يرفض تذكـر طفولته عمدا، وهناك من ينسى كل تفاصيلها، وأحيانا ينسى أجمل ما حدث فيها.
[3] – تعبير فرط العادية Hypernormality هو تعبير دخل الطب النفسى حديثا ليشير إلى نوع من المبالغة فى التشكل لكل ما هو عادى، وبالتالى فإنه يتضمن استخدام عدد أكبر وبدرجة أكثر من الميكانزمات الضابطة المنضبطة مثل الكبت والإنكار إلخ
[4] – الأرقام بين قوسين تشير إلى الترقيم الذى أعطيته فى الدراسة التشريحية السابقة، ومن يريد أن يتتبع الفقرات المعنية فى الصورة الأصلية للأصداء عليه إما أن يرقم نسخته بنفسه مع مراعاة التعديل الذى أشرنا إليه لإزالة تدخلات الناشر، وإما أن يبحث عن عنوان الفقرة مثلا عنوان: ‘دعاء” هنا.
[5] – د يحيى الرخاوى، تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية الفصل الرابع الإنسان والتطور، العدد 62 ص 165، يوليو 1998.
[6] – نجيب محفوظ، السراب، 1948، للطبعة الأولى مكتبة مصر، القاهرة.
[7] – يحيى الرخاوى، تفسيرات أخرى للموقف الأوديبى، ورقة ألقيت فى الندوة الشهرية لجمعية الطب النفسى التطورى بدار المقطم للصحة النفسية يونيو 1997.