نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 23-4-2025
السنة الثامنة عشر
العدد: 6444
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين” [1]
الفصل السادس
مسافر رغم أنفه (9)
يا جّدنا المصلوب زهواً يحصد الزمن.
قد صار محظورا علينا ننقش القلوبً فوق هامات الحجر.
فى عصرنا هذا أيا جدّى العزيز
لا تطلع الشموسُ دون إذنْ.
لا يستباح للكلاب الآثمة – أمثالنا – أن تسكن العرين.
ما عاد يجرؤ وعينا أن يفخـترْ :
أنـّا بشر.
الاثنين 21/6/1993
…………………..
………………….
ولم يشعر أنه أخطأ، إذ يبدو أن السن قد جعلت البشر يتساوون عنده بشكل ما. تشجّعتُ وسألته عن سنّه، فجاء عليه الدور ليسألنى أن أخمن، قلت: ثمانين عاما؟ قال: وخمس. فرِحت، لست أدرى لماذا، ربما قدّرت أننى يمكن أن أصل إلى مثل سنّه، إذن فعندى خمس وعشرون عاما أستطيع أن أكمل فيها ما بدأت، (قال يعنى، ولِمَ لا؟ ). أشعر أننى فى هذه الرحلة قد بدأت شيئا جديدا تماما يجدر به أن يكمل، وأن خمسة وعشرين عاما تكاد تكفى بالكاد لإتمامه. نظرت إليه: يا ترى ماذا يفعل بوحدته فى هذه السن، فسألته عن عائلته، فابتسم فرحا وقال لى “أعزب”، وأشار إلى بنصره الأيسر وأنه لا يرتدى خاتم الزواج، قالها فرحا فعلا، لا أدرى لماذا، وكان وهو يرينى إصبعه كمن يُطَمْئن فتاة يعاكسها فى سن الشباب أنه غير مرتبط، وأن لها أن تأمل فى علاقة أو ارتباط ما. كان قد نطق كلمة أعزب فى هدوء وبإيقاع منغّم (هكذا تصوّرت)، وخاصة أن كلمة أعزب بالفرنسية مكونة من أربع مقاطع موسيقية، والمقطع الأخير ممتد أو يمكن أن يقسم إلى مقطعين، “سى” “لى” “با” “تير” Ce-Le-Ba -Taire أما أعزب بالعربية فهى من مقطعتين لا يصلح معهما التنغيم والارتياح، “أعْ ـ “زَبْ”، لابد أن تشعر وأنت تنطقهما أنك سارق أو متهرّب تريد أن تتخلص مما فعلت بهذا الاقتضاب ، هل هناك دلالة لهذا الاختلاف تدل على اختلاف الموقف من العزوبية بين الثقافتين؟
قلت له عملتَ طيّبا، ما جدوى لو أنك أنجبت، وكان بعض أولادك الآن يقترب من سنى (الستين)، يذكُرُك أولا يذكرك، يزورك أو لا يزورك؟ (ثم أضفت فى سرّى، وغالبا ما كان سيودعك بيتا للعجزة). صدّق على كلامى فرحا رغم أنه لم يكن يحتاج إليه. تماديت سائلا (وأنا أتذكر سهير البابلى فى ريا وسكينه): فمن الذى يرتب بيتك ويطبخ لك؟، فقال معتزا “أنا”. تماديت أكثر: وماذا عن من سبقك من الأصدقاء؟ أظن أن الإنسان فى هذه السن يبدأ فى الوقوف فى الصف، وكلما تناقص الصف انزعج (وتعبير الوقوف فى الصف له دلالة خاصة بالفرنسية). أقرنى بشجاعة رائعة، وقال “هذا هو”، لكن لاداعى للوقوف فى الصف والانتظار. بل لا داعى لـلصف أصلا مادام الواحد لا يعرف طوله (طول الصف) ولا موقعه الحقيقى فيه،
تشجّعت سائلا سؤالا أسخف:
ـ هل تحب الحياة؟
فأجاب:
ـ “طبعا”.
أخذتُ جرعتى، ودعوت الله أن أتزوّد منها بما ينفع، ثم وجّهت خطابى للجماعات الدينية متسائلا هل يجرؤ أى منكم أن يطلب من الله أن يـُدخل هذا الكهل الصديق النار؟ استأذنتُه، ودعوت له فى سرى، وسمعت دعاءه لى فى سرّه (هكذا بالعافية). انصرفت أُكمل طريقى إلى محل الخوذات. طلبت أكبر خوذة، خجلت أن أقول إنها لى، قلت. خوذة لابنى، لكنّ مقاس رأسه مثلى تماما فأعطانى إياها. قستها وكبسـَتْ على نفسى. ورغم ذلك فرحت فرحتى بثوب العيد فى سنة بذاتها لا أذكرها:
كان جلبابا مقلّما ذى خطوط خضراء لامعة. (الجلباب الذى أشرت إليه فى فصل سابق) اشترته عمتى من زفتى، كنت فى الثانية عشر ولامَهَا والدى على غلو ثمنه، أظن كان المتر بسته قروش، وكان المسموح به من وجهة نظر والدى فى حدود أربعة قروش. أذكر كم تألمتُ وهو يسألها لائما: هل كنتِ سوف تشترينه بنفس الثمن لو كان لابنك أنتِ؟؟ تألمت من تقريعه لها لكننى فرحت بمغامرتها لتتحمل فى سبيلى كل ذلك، وأيضا لأننى سوف ألبس جلبابا ثمينا يستأهل هذه المشاجرة. تصورت أنه سوف يكون متفردا بين أقرانى .وأتبين الآن أن كل الأطفال الذين كانوا حولى كانوا يشعرون أن أثوابهم متفردة، حتى لو كانت من الدمور.
بعد شراء الخوذة مباشرة رحت أهزها، أمرجحها، لأتكد من حيازتى لها، انطلقت عائدا إلى حديقتنا (العجوز. وأنا) هكذا أصبحت: حديقتنا. فلم أجده.
كنت قد قدّرت ذلك فلم أفتقده.
انحرفتُ حيث أشار إلى موقع بيته فى القرية القديمة. وجدت نفسى أتوجه إلى أحد الطرق الصاعدة. الطريق يضيق رويدا رويدا، وهذه هى من علامات المدن القديمة عندى. أى نظافة ونظام. تزداد المبانى قدما وتزداد النظافة دلالة، وتزداد القلوب دفئا. فى الطريق كانت جماعات من شبان وشابات تمتلئ بالحيوية والشطائر والمثلجات ـ رغم برودة الجو نسبيا ـ وبالحب، دون إفراط فى القبل والذى منه. كان التجمع أمام مطعم صغير، أو حول علامة لمحطة أتوبيس. لاحظت أن المطاعم الصغيرة تضع بطاقات الائتمان (التعامل الآجل) مثل بطاقة “الأمريكى التشهيلاتى”(American Express)!! ولم أجد فى المطاعم أحدا ولا سياحة ولا غيره ناسيا أننا مازلنا فى الصباح. وسّع الله عليهم وعلينا. أخذت فى الصعود، ثم الصعود ثم الصعود، وكلما صعدت ازداد المنظر إبداعا، واتسع مجال رؤية البحيرة فى حضن الجبل القوى الحانى. صعدت من جديد ولم أفكر فى ركبتى، أصعد متوجها أنا إليه. أنا أعرف ذلك دائما ولا أعلنه عادة. استمر الصعود حتى وصلتُ ـ كما قال لى بعض من سألت ـ إلى الكنيسة القديمة، أو لعلها الكنيسة الرئيسىة. كان مكتوباً عليها “كنيسة مونتريه”. كانت مغلقة، لكن ثمّة صندوق مثل صندوق البريد تحته لوحة حجريّة تقول : “يا زائر هذا المكان تذكرالفقراء، وجـُدْ بما ترى وأنت فى هذه البلاد المبتسمة” ولم أجـُد بشىء، هل أنا هنا لأعطى ما تيسر إلى شعب كله مؤمّن عليه حتى ضد غدرالزمان؟ إن ما يحتاجه المصرى “يِحْرَم على الخواجه”، لهم بعضهم ولنا الله. بخيلٌ أنا؟
أكملت السير دون شعور بذنب أو خجل. بعد الكنيسة بقليل وجدت درجا صاعدا إلى جانب، فصعدت عليه، صعدت حتى وصلت إلى قضيب قطار منفرد كقضيب قطار لكن فى الوسط بين القضيبين المعتادين يوجد قضيب ثالث بارز ومدرج، فخـّمنت أن هذا لزوم “التليفريك” وفرامله، ووجدت درجا فى الناحية الأخرى من القضيب، وتساءلت هل ممنوع عبور القضبان مثلما كان الحال فى السكة الحديد بجوار الفندق. أجبت نفسى أنه: طبعا لا، وإلا كيف يصعد الناس إلى الناحية الأخرى؟ فعبرت القضيب، وجلست على الدرج الأعلى، واستدرت أنظر إلى الدنيا على امتداد كل شىء، المنظر أمامى أوسع مما ذكرت: الكنيسة، والبحيرة، والجبل، والله من خلفهم محيط، بل هو قرآن مجيد فى لوح محفوظ.
سمحت لأى دعوة صادقة أن تنطلق منى فخرجـَتْ من جديد: “اللهم اجعل عملى خالصا لوجهك”،
عرفت أن الدعاء قد يأتى بأثر رجعى، ذلك أن ما قررته بشأن الكتاب اياه وتغيير وجهته 063 درجة كان يعنى أن أكتبه خالصا لوجه الحق وما عرفت، وليس لإرضاء الجهة التى كلفتْـنى به، أو لمنافسة الزميل الذى جمع كتابا قصّا ولـصقا دون أن يقرأ ما قصَّ ولصقَ. إن هذه الدعوة امتدت حتى شملت رفض حضور المؤتمرات شبه العلمية لمجرد تذكرة سفر مجانية ومائدة مفتوحة، هذا ما عنيته ساعتها من أن يكون عملى خالصا لوجهه، وكأنى ما دعوت إلا مافعلت، وكأن الدعوة قد استجيبت قبل أن تخرج، أو أشياء من هذا القبيل. كلها تصل إلى ما أريد.
أم ماذا؟
جاء التليفريك يتهادى كما ظننت، وكان مليئا بالسوّاح. قلت يارب العقبى لنا. انطلقت منى ـ دون صوت ـ أغنية لرباعى الأخ (أو الإخوة) “جاكو”،(Freres Jaqou) كانوا يؤدونها فى مسرح صغير رخيص متفرع من شارع مقابل محطة مترو “أنفير” بين ميدان كليشى والبيجال (لا أذكر اسم الشارع). كنت أحسب أن الإخوة “جاكو” لا يغنون إلا للأطفال. حين حضرتهم وجدت أغلب الحضور كبارا مثلى، وأكبر. كان العرض لمدة ساعة واحدة قبل العرض البشع التالى الذى يناقضه تماما، كان ذلك منذ ربع قرن. يقول المقطع الذى راح يملؤ ساحة وعيى راقصا :
وهذا هو الطائر “لير”
الذى يمر فى السماء
الطفل يراه الطفل يسمعه الطفل ينادى عليه
رحت من موقعى أعلى الجبل بجوار الكنسية أنادى على طائر يقال له “لير” وأنا لا أراه ولا أسمعه ولا أعرف إن كان “لير” هو اسم الطائر هكذا، أم صفة أم لفظ يمكن ترجمته، من منا من أهل الريف وهو طفل لم يخاطب عصفوراً، أو لم ينصت ليمامتين يتناغيان، أخذت أبحث عن أول الأغنية فلم أجده، حين تصيبنى هذه الحالة: حالة نسيان اسم محدد أو مقطع محدد ـ وكثيرا ما تصيبنى الآن ـ أتذكر سنى على الفور، وأقول: ها هو تصلب الشرايين يزحف، أسارع بتذكرة نفسى أن علىّ أن أكتب ما أعرف قبل أن يضيع بين حبيبات الدهن المترسبة تحت جدار شرايين مخى. لكننى ما كدت أترك مكانى صوب الإجليز (الكنيسة) حتى صدحت فى رأسى أول الأغنية. قلت: زال تصلب الشرايين كما زال ضمور غضاريف الركب من قبل (!!) ولم أخْف ابتسامة عميقة. كان مطلع الأغنية يقول:
إثنين واثنين أربعة
أربعة وأربعة ثمانية
وثمانية، زائد ثمانية: يصنعون ستة عشر
وهذا هو الطائر لير.. إلخ،
………………….
………………….
ونواصل الأسبوع القادم استكمال الفصل السادس: “مسافر رغم أنفه“ (10)