نشرة الإنسان والتطور
الخميس: 17-4-2025
السنة الثامنة عشر
العدد: 6438
تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) [1]
وهكذا نواصل نشر “الأصداء” مع “أصداء الأصداء”
بقلم: “يحيى الرخاوى”
الفصل الخامس
الطفولة: نبضٌ متجدد دائم (2)
(الفصل الأول من الدراسة الجامعة)
هل نحن نعرف ما هى الطفولة؟
نحن حين نعيش طفولتنا بحقها لا نعيها بما هى، ولا ينبغى أن نفعل، حتى لا ننتزع منها سلاستها وتلقائيتها، وحين نتجاوزها، نتصور أننا نتذكرها ونحن نحكيها من بعيد، لكن الحقيقة أنها تختفى خلف رموز الكلمات ومضامينها العجوز، فضلا عما يصيبها من تشويهات وتباديل من فعل فذلكة الذاكرة وتزييفها بوصاية تصوراتنا عنها (عن الطفولة).
فما العمل؟ وكيف السبيل أن نعرف ماهية ما هو طفل، وما هى طفولة، الأمر الذى لا غنى عنه فى مجال العلم والتربية، فضلا عن مجال الفن والإبداع، ثم إنه متعلق حتما برؤيتنا وتخطيطنا للمستقبل.
فى دراسة سابقة عن منهج دراسة ما هو طفولة، أشرت إلى الصعوبات التى تكتنف هذه المسألة، وقارنت بينها وبين الصعوبات التى تكتنف دراسة الجنون[2]، وانتهيت إلى أنه يكاد يستحيل التعرف على ما هو طفولة إلا من خلال المنهج الفينومينولوجى (وهو غير المنهج الاستبطانى طبعا)، وأن ذلك شديد الندرة بالغ الصعوبة
ثم فى دراسة نقدية لاحقة لعمـلين من أعمال ديستويفسكى غير المشهورة (نيتوتشكا نزفانوفنا، والفارس الصغير) حاولت أن أبين كيف أن الفن أقدر على تناول ما هو طفولة بطريقة صادقة وعميقة وتفصيلية أكثر من ادعاءات أغلب مناهج العلم، ولا يحتاج الأمر إلى التذكرة بأن الكتابة عن الطفولة غير الكتابة للأطفال[3]. ثم إن الكتابة عن طفولة طفل فى قصة (مثل نيتوتشكا نزفانوفنا لديستويفسكى) [4] هى غير الكتابة عن طفولة الكاتب نفسه فيما يسمى السيرة الذاتية.
وبالنسبة لنجيب محفوظ فإنه كان من أكثر المبدعين أمانة حين أعلن أنه حاول أن يكتب قصصا للأطفال، وأنه وجد صعوبة بالغة أوقفته بعد محاولة واحدة أو بضع محاولات، إلا أن حضور الأطفال فى كل إبداعاته كان شديد الحساسية شديد الدلالة، ولعل من أروع تجليات ذلك ما جاء فى وصف طفولة كمال أحمد عبد الجواد فى “بين القصرين”، ولعل المتتبع لنمو كمال أحمد عبد الجواد وتطور أحواله يتعجب – لأول وهلة- مما صار إليه هذا الطفل الظريف الجميل الولع بالغناء المتجرئ حتى على والده بما تيسر، كيف آل هذاالطفل إلى ذلك الشاب الانطوائى الكثير الفكر البالغ الحياء، لكن هذا التطور هو من عظمة الفن حقيقة وفعلا، وقد كنت دائما أخشى أن يـستدرج المبدعون ليستشيروا أهل علم النفس فيما يفعلون، أو أن يغالوا فى تصديق ما يـكتب فى التربية وعلم النفس والتحليل النفسى، لأن محفوظ لو كان قد فعل ذلك مثلا فى حالة كمال أحمد عبد الجواد لكان لزاما عليه أن يرسمه طفلا منطويا “نموذجيا” مطيعا إلى آخر ما تقوله كتب علم النفس فى وصف “الطفل النموذجي”Model Child الذى يمكن أن يخرج منه هذا الشاب الحيى المستغرق فى الذاتوية والتفكير الباطنى (كمال).
نجيب محفوظ لم يخلق طفلا ظهر فى رواية من رواياته إلا وأولاه حقه وصفا وإحاطة بما ينبغى، كما ينبغى.
فإذا حددنا الحديث عن أعماله التى فيها رائحة السيرة الذاتية (وكلها تكاد تكون كذلك) فإننا نركز خاصة على حكايات حارتنا، (أكثر من المرايا)، “والباقى من الزمن ساعة”، “وحديث الصباح والمساء” مع أنها كلها زاخزة بما أريد إيضاحه هنا، وهو أن محفوظ لا يعرف هذه المرحلة بحقها فحسب، بل هو يحافظ عليها حية معاشة بشكل أو بآخر طول الوقت.
وصلتنى هذه الطفولة من الأصداء ناضجة دائمة الإبداع، حاضرة التجلى: منذ أول حلقة نشرت فى الأهرام حيث كتبت عن ذلك سنة 1994 ما يلى بالنص:
“.. لكن هذا العمل….. تجد فيه ذكرى عابرة تبدو عادية، لكن حين يحكيها شيخ – بفرحة طفل – تبدو رائعة وخاصة ومتميزة”
………………
………………
ونواصل الأسبوع القادم بقية الفصل الخامس: ” هل نحن نعرف ما هى الطفولة؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى “أصداء الأصداء” تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) (الطبعة الأولى 2006 – المجلس الأعلى للثقافة)، و(الطبعة الثانية 2018 – منشورات جمعية الطب النفسى التطورى) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net.
[2] – الباحث أداة البحث وحقله فى مجالى الطفولة والجنون – الإنسان والتطور العدد 4، ص 26، أكتوبر 1980
[3] – تمر الكتابة للأطفال – عندنا خاصة- فى محنة عامة، بعد الإغارة على الخيال، والافتقار إلى الوعى بالماضى والحاضر لصالح المستقبل وفى مجلات الأطفال خاصة: أنظر الإنسان والتطور العدد 64، ص 40، يناير 1999)
[4] – (يحيى الرخاوى)، الطفولة من إبداع ديستويفسكى، نيتوتشكا نزفانوفنا والفارس الصغير الإنسان والتطور، العدد 12، أكتوبر 1982