نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 26-3-2025
السنة الثامنة عشر
العدد: 6416
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين” [1]
الفصل السادس
مسافر رغم أنفه (5)
يا جّدنا المصلوب زهواً يحصد الزمن.
قد صار محظورا علينا ننقش القلوبً فوق هامات الحجر.
فى عصرنا هذا أيا جدّى العزيز
لا تطلع الشموسُ دون إذنْ.
لا يستباح للكلاب الآثمة – أمثالنا – أن تسكن العرين.
ما عاد يجرؤ وعينا أن يفخـترْ :
أنـّا بشر.
الاثنين 21/6/1993
………………
……………….
استلمتُ الحقيبة الوحيدة ووجدت وجها أسمر فى انتظارى، ومعه ورقة مكتوب عليها اسمى، وفى رقة صحراوية لها طعم آخر رددت: وعليكم السلام، نعم هو أنا، ولكن كيف عرفتَ وجهى؟ فابتسم وردد ماكنت فيه حالا أن : حمدا لله على السلامة، ياه ما أجمل أن تصبح الألفاظ المعتادة لها معناها الأصلى!! حمل الرجل العربى الأسمر المهذب عنى الحقيبة وأنا خجلان لا أدرى كيف أتصرّف، أنا غير متأكد من رتبة سعادة البيك هذا، إذ لابد أنه البيك السائق مادام يتصرّف هكذا بهذه التلقائية والكرم والأدب، وقلت لو حملت حقيبتى كعادتى وقد يظن أننى لست “هو”. دعها تمر.
ركبت فى المقعد الخلفى (أمـٌر آخر لم أعتده، ولكنى التقطت ضرورته لنفس الأسباب).
كم كنت أعجب من أمر أحد الزملاء الشمجيين (شخص. مهم . جدا.V.I.P.) حين يفعل عكس ذلك تماما إذ يصر فى مواكب الموتمرات إياها على ركوب الدرجة الأولى فى الطائرة وحده، وبقية الزملاء فى “السكوندو”، مع أنه ركوب مدفوع الأجر لنا جميعا من شركات الدواء المعنية بإعادة تشكيل أدمغتنا حسب معادلات الكيمياء الخائبة وحسابات مكاسبها المفترىة. الفضل يرجع عادة لهذا الزميل الشمجى ذى الاتصالات الواسعة الدسمة، فهو الذى يقوم بمعظم هذه التسهيلات المؤتمراتية، وكذا فإن الوزر يقع عليه فى نتائج غسيل المخ ظاهرا وباطنا، نتائج ذلك على ميزانية وزارة الصحة والتأمين الصحى، وعلى جبوب المرضى على حد سواء. كنت أعجب كيف يجرؤ وكيف يستريح هذا الزميل أن يتركنا وينفصل عنا ليجلس فى مقعد أوسع عشرة سنتيمترات، وكلنا من شركات الدواء ملتمسٌٌ (غـوْرا على المخّ، أو سحقاً لذى القيَمِ)، ينفصل عنا زميلنا هذا فى حركة طبيعية متعالية، وأنا لا أجرؤ أن أجلس إلا بجوار السائق حتى فى تاكسى القاهرة.
أما هذه المرّة فالحدس هدانى أن أفعل عكس ما اعتدت، ويبدو أن ما فعلته كان فى محله.
داخل السيارة الفخمة راح الكاسيت يغنى أغانى دينية حديثة وليست تواشيح. ما هذا؟ هذا صوت مألوف يغنى؟ بقدرة قادر أغنية دينية لم أسمعها من قبل، سألت البك السائق من هذا الذى يغنى، قال: عبد الحليم حافظ. نعم هو، يبدو أن المتدينين الجدد، قد جمعوا أغانى كل المطربين الدينية فى أشرطة دينية. قلت لعلّها ضمن موجة “أسلمة الأغانى” مثل أسلمة التاريخ والجغرافيا والرياضة والطبيعة والطب وغيرها، واستغفرت ربى، ودعوت ألا تعود مسامى للانغلاق بنفس الدرجة التى بدأتُ بها الرحلة حتى أستطيع أن أكمل صلاتى له، وأتمم مراسم عبادتى إياه بطريقتى الخاصة.
الثلاثاء 22/6/1993
استيقظت أقل إقبالا، وبحثت عن أثر الغسيل الذى غسلنى فى مطار باريس فوجدته باقيا، لكنّه لم ينجح أن يزيل كل البقع من على وعيى المتسخ بالسنوات الأخيرة.
يارب ساعدنى أن أواصل ركوب الاضطرار لأجعله اختيارا أغسل به نفسى بفضلك.
يارب أنت أدرى بى، وأنا عندى ما يقال”للناس على الطريق”، احمنى ربى أن أنساق إلى غيرك، أو أن أخط حرفا إلا لك، إنك سميع بصير.
فاستجاب لى ربى فتاب علىّ.
رسائلى مع الله أسرع من التراسل بالبريد الإلكترونى، أتلقّى الاستجابة أحيانا قبل أن أتم الدعاء، وحين تتأخر الاستجابة أتلقى قرص الأذن أوالعتاب.
فجأة، وأنا أتحايل على تلك الولادة المتعسرة لـلكتاب الثقيل إياه،الكتاب الذى تصنعت أنى سأنجزه فى هذه السفرة لأبرر به قبولى ما لا أرتاح إليه، فجأة وأنا فى بهو الفندق اكتشفت أنها فرصة لأعدِلُ عن كتابته لا لأمضى فيها، أنا لست هو، لست هذا الكتاب، ولستُ مَنْ دفعنى لكتابته لأرد به على ما سيزول وحده لأنه جفاء لا ينفع الناس، اكتشفت أننى لم أكتب ما أرضى عنه إلا إن كان من واقع خبرتى ومرضاىَ وذاتى. أنا لا أكتب إلا نفسى. ليس باعتبارها نفسى وإنما بما هى مَصْدرُ لما يصلنى. كل ما لم يختلط بها يظل مجرد تحصيل حاصل، مهما ملأت به الصفحات. حمدت الله ووصلت إلى عدّة قرارات، يبدو أننى كنت أحتاج إلى هذه السفرة لأصل إليها، أهمها أننى سأكمل هذا الكتاب فى اتجاه عكسى، لا يرضى من طلبه منى. وعليهم هم أن يحددوا إما: أن يقبلوه، يقبلونى، وإما أن أهديه للتاريخ مثل بقية أعمالى. والتاريخ هو وضميره بعد ذلك. شكرا لوهم حكم التاريخ الذى يصبّرنى على المضى هكذا . إلى متى ؟.
الفندق الذى نزلت فيه شديد الهدوء واسع البهو، بسيط التأثيث، راقى الخدمات، سمح لى أن أجتـّر آخر ما كنت فيه قبل حضورى إليه.
كنت منذ أكثر من ستة أشهر قد استجبت لبعض أبنائى وطلبتى وغيرهم أن أكون “فى المتناول” مرة أسبوعيا فيما يشبه جلسة الثلاثاء التى كان يعقدها بافلوف، أو جلسة الأربعاء (لست متأكدا من اليوم) التى كان يعقدها فرويد. كنت قد استجبت لهم لأكون “فى المتناول” عصر كل أحد من السادسة إلى الثامنة مساء، فى متناول من يريد أن يقابل هذا العقل المصرى المجرّب المجتهد فى كل ناحية طرقـَتْ وعيه. انتظمت هذه الجلسات بلا انقطاع، وأعتقد أنها أثرتنى بقدر رجوت معه استمرارها، ولا أعرف ماذا فعلتْ بهم لقاءآتى هذه على وجه التحديد. لكننا ظللنا نتناول فى هذه الجلسات مسألة الحضارة الغربية أكثر من عشر أسابيع متفرقة، وما إذا كان ثمة وسيلة لتجاوزها، بتقليدها، أو اختراقها، أو خداعها، أو عرض بديل لها، تلك الأسئلة الأبدية التى لا تريد أن تنقطع أبدا، قنديل أم هاشم، موسم الهجرة إلى الشمال، حب فى المنفى، سلاسل التنوير، لم يعد يصلح أن نصدر كتب المنورين مرّة أخرى نبيعها بخمس وعشرين قرشا أو حتى جنهين، نرشو بها شبابا أعمى لا يقرأ ولا يكتب ولا يفكر ولا ينقد.
موسم الهجرة إلى الشمال. عرفت الطيب صالح مصادفة وهو يشارك فى مقيل كنت أحد أفراده، فى بيت أحد الأصدقاء فى صنعاء، ومعنا عبد العزيز المقالح الشاعر الدكتور مدير الجامعة، الصديق القديم، وآخرون، الطيب صالح يقول إن صنعاء هى روما العرب. هذه الجلسات من العصر إلى المغرب والتى تسمى “المقيل” بلغ عددها فى صنعاء وحدها حوالى عشرة آلاف، إذا ضربت فى متوسط عشرة أفراد لبلغ من يلتقون يوميا مائة ألف، أى مجتمع هذا؟ ديمقراطية أثينا هذه؟ ليست المسألة تخزين قات، أو طق حنك، لكنّه مجتمع يتنبه ويتحدث، هذا هو الجانب الإيجابى الذى سمح لى أن أسمع الطيب صالح وهو يقول قولا فى هذه القضية ـ قضية “نحن والغرب”: أين نحن من الحضارة الغربـية، وكيف يقيسوننا بمقياسهم فنقيس أنفسنا بمقياسهم، ثم نضع أنفسنا حيث يريدون، كان الطيب صالح يقول إنه إذا سأله أحدهم لماذا يتزوج الواحد منا نحن المسلمين أكثر من امرأة؟ لا يرد عليه أصلا، بل إنه يجيبه “إنت مالك يا أخى”؟ هل اشتكت لك زوجتى الأولى أو الثانية، الخلاصة إن المنطق الذى طرحه الطيب صالح هو حكاية “إنت مالك يا أخى؟؟ “، وهذا ما نحتاجه تحديدا فى هذا المنعطف الخطر بيننا وبين الغرب.
نحن مُعَطَّلون ليس بسبب أننا كسالى أو متخلفون أو متحجرون فقط، ولكن لأننا نبدأمن حيث لا ينبغى، لنقيس أنفسنا بمقياس وُضع لنا دون اختيار. رحنا نطرح هذه القضية (نحن وأوربا) فى جلسات “الأحد” قبل سفرى، وخاصة أنها كانت أحد وجوه مسألة المد، أو الجزر الدينى كله فى العالم العربى والإسلامى كما زاد وفاض أخيرا. ثم هأنذا أجدنى هكذا فجأة ـ مرة أخرى، دون اختيار ـ وسط الحضارة الغربية، كنت قد كتبت كثيرا أن حوادث القتل والإرهاب عندهم أكثر، وكنت أفخر أن ابنتى تسير فى المقطم وحدها فى الحادية عشر مساء، الأمور اختلفت يا سادتى، قبل سفرى مباشرة وبعد قنبلة شبرا قالت لى ابنتى هذه أنها تحاول أن تتجنب أن تخرج مع زوجها وابنها مجتمعين فى سيارة واحدة حتى إذا انفجرت قنبلة هنا أو هناك مات أحد الوالدين دون الآخر ليربى من يبقى منهما الصغير. أرفض الاستسلام لهذا النوع من الخوف فما زلنا بلد الأمن والطيبة والنبض الإيمانى الطبيعى. هذا وهمى الذى ظللت أكرره أىام الآحاد المتتالية دون ملل، ثم سافرت إليهم من جديد، فكان علىّ أن أعاود النظر.
فعاودت النظر:
هاتفتُ محمد ابنى، أحد أفراد جلسة الأحد، وقلت له شبه مازح إننى أوافق على أن نحذو حذو الحضارة الغربية شريطة أن أرجع وأجدهم قد فعلوها هم دون عون منى، ذلك أن الأطروحة البديلة التى كنت مصرا عليها هو أننى مسلم أتكلم العربية، وبالتالى فأنا أتصور أننى أقرب إلى الفطرة، والفطرة هى أقصر الطرق لـلدفع إلى الحضارة والتطور، وأن الحضارة الغربية رغم إنجازاتها قد ابتعدت عن الفطرة بما أصبح نذيرا لخطر حقيقى، ونحن أعجز من أن نقلدها، وأقدر من أن نتوقف عندها. كانت هذه هى الأطروحة التى ظل ابنى وأقرانه يعارضوننى فيها قائلين إن الإسلام الذى أتحدث عنه لم يعد موجودا، وأن أول من سيرفضنى هم المسلمون الذين أحاول أن أجد لهم عذرا ومخرجا ودورا وإضافة، وكنت أصبّر نفسى قائلا: أنا مالى، إنه هو الذى سيحاسبنى مهما كانوا وكنّا.
قال لى إبنى فى الهاتف ـ مازحا أيضا ـ (ومزاحنا هو وأنا دائما جد أكثر من الجد) إنه وأقرانه سوف يحققون الحضارة الغربية بطريقة إسلامية !!!. اعتدت مع ابنى هذا أن نتبادل الأدوار بطريقة تكاد تكون دورية، يناقشنى حتى ليبدو أنه لا مجال لكلينا للاقتناع برأى الآخر، ثم يترك بعضنا بعضا فنلتقى فأقول له أننى عاودت النظر ويبدو أن عنده بعض الحق، وإذا به قد عاود النظر هو أيضا وذهب إلى الطرف الآخر حتى تبيّنَ هو أننى كنت على حق. حين ابتعد إبنى لعام وبعض عام مهاجرا إلى نيوزيلاندا كتب لصديق له أننى كنت على حق ليس بالنسبة لرأيى فى هجرته، ولكن بالنسبة للحضارة الغربية، وكان أكثر أمانة حين أضاف، ومع ذلك فلا يبدو له (ولا لى) بديل محتمل فى الأفق القريب. حوارى معه يترك شيئا مختلفا فى كلينا، لكن أحدا منا لا يذهب إلى حيث كان الآخر تماما. كل منا يجد له بعد الحوار مكانا جديدا، أقرب أو أبعد أو على جنب من حيث كان قبلا، حركة عقلية دالة لعلها تعنى شيئا حقيقيا. (هذا نوع من الحوار بينى وبينه غير الحوار الذى أشرت إليه فى أول الفصل، وكلُّ معلّق خنجره المعقوف فى جانب حزامه).
………………
………………