نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 12-3-2025
السنة الثامنة عشر
العدد: 6402
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين” [1]
الفصل السادس
مسافر رغم أنفه (3)
يا جّدنا المصلوب زهواً يحصد الزمن.
قد صار محظورا علينا ننقش القلوبً فوق هامات الحجر.
فى عصرنا هذا أيا جدّى العزيز
لا تطلع الشموسُ دون إذنْ.
لا يستباح للكلاب الآثمة – أمثالنا – أن تسكن العرين.
ما عاد يجرؤ وعينا أن يفخـترْ :
أنـّا بشر.
الاثنين 21/6/1993
………………
………………
مطار هذا أم ملهى ليلى ظريف؟ أنا لا أعرف هذه الملاهى ولا أحبها. مطار هذا أم “يورو دزنى” التى يقولون إن الخواجة ديزنى قد أرساها فى أوربا أخيرا؟ ضبطت أن الابتسامة التى رددت بها على صاحب الغمزة مازالت على وجهى. ياخبر (!!). كيف استطاعت ابتسامة واحدة أن تبقى كل هذه الفترة؟ ابتساماتى فى الثلاث سنوات الأخيرة موقوتة بعدّة ثوان لابد أن تنطفئ بعدها مثل عود الكبريت الفاسد الذى تتناثر شراراته وأنت لا تكاد تنجح فى إشعاله، ثم ينطفئ حتى قبل أن يؤدى مهمته. هذه الابتسامة ظلت على وجهى دون استئذان وأنا ألوح للمستقبلين يمينا ويسارا. وكأنى رئيس دولة سابق فى بلد حر مازال أناس يذكرون فضله، فيحيونه وهو يمشى وسطهم واحداً منهم كأننى مستر مانديلا. وقد خرج من السجن بعد عشرين عاما وأهله السود يستقبلونه دون زوجته صاحبة الحكايات إياها (مع أنها كانت بينهم). طالت غيبة زوجها وهى ثائرة جدا جدا، فماذا تفعل؟ لكن لماذا القتل؟
ظلّت الابتسامة على وجهى. لم تختف حتى حين ضبطتها بغير مناسبة. مسامى تأبى أن تتفتح أكثر، فعرجتُ إلى فرقة الموسيقى التى قررتُ أنهم أحضروها لتصاحب حرس الشرف فى استقبالى. وجدتهم يضبطون أوتارهم كالعادة. كانت مكبرات الصوت والأنغام جميلة. الصدى أجمل. أنا عندى شغف بحكاية ضبط الأنغام بشكل عشوائى هكذا. أتصوّر أحيانا أنه لو جمعها ملحّن عبقرى لأعاد توزيعها بما يخرج لحنا يستأهل.
دخلت البنات السيدات العاريات الكاسيات، من باب المطار. دخلن مسرعات قافزات، هائصات. صعدن على الدائرة العالية نسبيا وهات يا رقص ويا غناء. يا خبر!! أين أنا بالذمة؟ لكنّ ذلك لم يستغرق عشر دقائق كانت كافية لتقول لى أشياء كثيرة، لا أحد دفع، ولا أحد اعترض، ولا أحد أرهب، ولا أحد قتل، ولا أحد اندهش إلا شخصى.
مازلت قادرا على الاندهاش، وعلى الابتسام، الحمد لله. أنا حى.
كيف يُعتبر حيا من لا يندهش ولا يبتسم. وكيف يا أولادى وتلاميذى وكافة المنتفعين أشعتم عنى أنى جاد طول الوقت؟ وكذا وكذا؟ سامحكم الله مهما بررتم، هذه الرحلة هى بدونكم يا أولادى من ظهرى. ليست كمثل رحلة “الناس والطريق”حين كنتم معى أحاول أن أتعرف عليكم. ماذا يفيدنى أن أتعرف عليكم صغارا، ثم تكبرون فلا أعرفكم؟ وهل عرّفتنى الرحلة السابقة بكم؟ كل ما حدث أننى تعرفتُ أكثر على بعض نفسى.
آخر رحلة قمتُ بها كانت مع ابنتى الصغرى “مى”وأمها فى أسبانيا. تباعدتُ عنها وتباعدتْ عنى حتى كدنا نتشابك. كنا فى طريقنا إلى أختها “منى” التى تزوجت وحدها بدوننا فى لوس أنجلوس. ذهبنا مثل الفلاحين نقدم لها “الصبحية. كانت صبحية مكلِّفة بعد إضافة ثمن التذكرة وحسابات الوقت هذه ومررنا على أسبانيا، فى الذهاب والعودة. رغم افتراقنا أنا وزوجتى عن ابنتى الصغرى تاركين إياها مع صديقاتها الأسبانيات، إلا أن الوقت الذى اجتمعتُ فيه مع ابنتى هذه كان من أصعب وأكثر الأوقات إيلاما لسبب لا أعرفه حتى الآن. حتى الإعياء الذى أصابها من تغيير الإيقاع الحيوى نتيجة للانتقال عبر المحيط الأطلنتى من الشرق إلى الغرب، حتى هذا التعب الجسدى رفضتـُه بشكل لم أفهْمه، وجرحتـُها، إبنتى الصغرى”مى” هذه شديدة الرقة، والقسوة، والحدة، والمسئولية معا، جرحتـُها وكأنى لم أحتمل مرضها، ولا عنادها. أكتشف بعد هذا العمر معاً أننى لم أكدْ أعرفها، ولا أعرفنى. إذن لم يعد لى أولاد بالمعنى الذى حلمت به وأنا أرتب لـرحلة الناس والطريق الأولى، أولادى لم أعد أراهم إلا فى الوقت بدل الضائع إذا تفضّل بعض أصدقائهم واعتذر عن لقائهم أو السفر معهم أثناء الإجازة. الشائع هو أن هذه هى سّنة الحياة. لتكن، ولكن من حقى ألا أقبل سنـّة الحياة هكذا. ثم إننى لا أطالبهم بحق خاص بالمعنى التقليدى، وإنما بذكرى صداقة آملة، وبعض الاحترام، لا أكثر. فهمت الآن عمق الآية الكريمة “قل لا أسـألكم عليه أجرآ إلا المودة فى القربى”.
رحلتى هذه الآن هى، عكس رحلة الناس والطريق الأولى تماما.
“تلك” كانت، لهم، لى، بى. خططت لها، وأِملت فيها، واشتريت لها أتوبيسا صغيرا جديدا، وأخذت خيمتى وقروشى القليلة وأبوتى الشديدة وانطلقنا فى بلاد الله لخلق الله. أما “هذه” فهى قد فـُرضت علىّ، وأنا فى أشد حالات مقاومة الرحلات ومقاومة كل شىء. “تلك” كانت معهم، “وهذه” أنا “معى” فقط لا غير، استفرْدتُ بنفسى وربنا يستر. تلك كانت سيرا أرضيا وئيدا وإيقاعا سريعا. “هذه” نقلات سمائية فى خدر غامض، إلى استقرار فندقى مرفـّه. صاحبى فيها منظـّم (كمبيوتر)، ومعى نقود وفيرة وكارت سحرى اسمه “الأمريكانى السريع”American Express، أسافر مسلحا بمصادر طمأنينة متعددة ضد مجاهيل ومفاجآت السفر.
هل هذا سفر؟
سوف نرى. أنا لا أذكر على وجه التحديد تاريخ آخر يوم فى رحلة الناس والطريق، وآخر يوم كتبت فيه هذه التجربة. ذلك الكتاب الذى لم يصدر أبدا. ولا أقول لم يصدر بعد، وهو سوف يصدر حتى لو لم يصدر أصلا، ذلك لأننى رحت أعتقد أن الكتاب ليس بصدوره، وإنما بحضوره، لماذا؟ لست أدرى تحديدا. حين قررت هذه المرّة، وكان سفرا مفاجئا جدا، حضرنى هذا الكتاب الذى ألفتـُه تحت اسم الناس والطريق، حضرنى فاحتل وعيى بشكل مثير ودون استئذان.
خرجت من باب المطار لأتأكد أننى فى باريس شخصيا، وأن سماح تلك السيدة الفاضلة السافرة كان سماحا حقيقيا وليس “أى كلام”. أنا فى الشارع، وشركة إير فرانس تعلن عن أتوبيساتها التى هى مستعدة لتوصيلى بالسلامة إلى مونبارناس وخلافه. هذه هى. هذه هى باريس. حتى وأنا بعدُ على أطرافها. لكن من هؤلاء النسوة العاريات الكاسيات اللاتى يسرعن عدوا أو هرولة ليعبرن الشارع إلى المطار أو من المطار؟ هن هن الراقصات اللاتى أشعرننى أن باريس تستقبلنى فى المطار. ولكن ما الذى أخرجهن هكذا عاريات كاسيات فى الشارع بعد أن كن يتمايلن فى المطار فرحا بقدومى (!!)، لعلّهن كن يقضين شيئا عاجلا ثم يرجعن. لعلى أخطأت وكلهن مثل كلهن. أنا لا أستطيع أن أميز وجه هذه السمراء. عن سيقان هذه الشقراء. لكن ما لـلوجوه كئىبة، والأثداء متهدلة، والخطوات نشاز؟ هل هؤلاء حقيقة هن هن اللاتى كن يرقصن ويتمايلن ويضحكن ملء الأشداق؟ نعم هن هن. أخذتنى الشفقة الدفاعية التى كانت ـ ومازالت ـ تملؤنى على بائعات الهوى على أبواب الفنادق الرخيصة فى ميدان كليشى ومحطة أنفير والبيجال.
عدت إلى المطار، كلّمت أحد أبنائى (تلاميذى = زملائى) الذى يعمل فى “رين” فى بريتانى شمال فرنسا، د. رفيق حاتم رد علىّ ولم يرحب بى. هكذا تصورت. العيب فى تصوراتى طبعا. أنا أعرف أن عنده أسبابه. ماذا أريد بالضبط؟ أريد أن أراه عبر الهاتف وهو يرقص فرحاً بصوتى الدافىء؟ أى جوع!! ومـَعَ ذلك صدق ظنى بعد ذلك حين لقيته وعاتبته، فاعتذر بانشغاله ومفاجأته. باريس استقبلتنى كلها، وتلميذى زميلى بدا أكثر فتورا مما هو. هل أَعْددَتْه رقة الخوجات الدمثة (ولامؤاخذة؟)
ليكن، معه الله فى غربته.
كفانى حنان الدفء البشرى الذى يصلنى من مجهولين دون طلب. مازالت نفس الابتسامة فى وجهى. آه لو رأتـِها مُنى ابنتى لكفت عن اتهامى بالـ 111 الدائمة بين حاجبىّ. قال إيش وضع بين حاجبيك المائة وأحد عشر، قال الألف وميّة التى تعملونها فىّ يا أولاد الحلال. “هنا” الابتسامة لا تزال فى وجهى، “وهناك” القنبلة لا تزال فى جيبه، إبن الرفضى، يلقيها فى القللى ونفق الهرم وأمام جامع شبرا، يا شيخ إخص عليك، بل جاءتك نيلة فى ليل ليس له نهار. نعم الابتسامة ـ رغم أنفه ـ ما زالت فى وجهى (لاحظ “فى” وليس “على” وجهى). ساعة واحدة فى مطار شارل ديجول أحيت فـّى 863 يوما. سنة وثلاثة أيام سنة 1968 ـ 1969، هذه السنة التى لم أذكرها بالدرجة الكافية فى الناس والطريق. ولو أن هذا العمل سيرة ذاتية بحق لاستغرقت هذه السنة نصف السيرة بالتمام. الذى عاد لى، أو عاد بى الآن، هو “أنا”حالة كونى وحيدا بين ناس كـُثـْر. أنا “كثير” بين ناس حقيقيين. “الطريق” هو هؤلاء. أنا هو ناس الداخل يوقظهم ناس الخارج الغفل إلا من التواجد معا، ثم ربما: التوجّـه معا.
ساعة واحدة قلت بعدها “كفى”. أتوجّه إلى مهمتى فى سويسرا وأنا فى شوق أن أرجع إلى باريس بضعة أيام لإلقاء التحية والاعتذار عن الغيبة. أذهب إلى باريس هذه المرّة، لا سائحا ولا مؤتمِرا والعياذ بالله، ولا حامل حقائب الأولاد، ولا أمين صندوق المشتريات، ولا “دارس مادرسشى حاجة”. أعود إلى باريس معتذِرا صافحا فى آن. كنت قد خاصمتها أو خاصمتنى فى كل مرّة رحلتُ إليها بعد تلك السنة الطويلة العظيمة. خاصمتها حين لم تكن هى، كان ذلك فى صيف 1986. ذهبت إليها ملهوفاً وإذا بها معجونة فى كتله من القيظ الرطب. كنت ذهبت مع الأولاد لمدة 42 ساعة ثم تركتهم متجها مع زوجتى إلى بوسطن فى مهمة طبية لم تنجح إلا فى أنها أقحمتنى فى أمريكا حشرا. كنت قد نذرتُ ألا أدخلها (أمريكا) حيّآ، لكن الله أراد.
كانت باريس فى تلك الأربع وعشرين ساعة فى يوليو 68 تختنق، كانت الأنفاس ثقيلة تحتاج معها إلى شفّاط حتى يمكن أن تسمح لبعض الهواء الذى مثل قلّته أن يزور رئتيك بلا فائدة. كان الناس فى غابة بولونيا ملقون على الحشائ كالكلاب الضالة التى ارتمت فى صحراء قاحلة بعد أن أنهكها العطش فاستسلمت ليأس تنتظر الشئ ـ لعله الماء. لعله الهواء. نسى الناس اسم ما يلزم ونحن نسينا نحن فى ذلك نحاول أن نجذبه إلى صدورنا. هو شئ لزج أشبه بالعجين الذائب فى صمغ خفىّ.
………………
………………