الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ديوان: “سر اللعبة” المقدمة

ديوان: “سر اللعبة” المقدمة

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 9-3-2025

السنة الثامنة عشر

العدد:  6399

 

ديوان “سر اللعبة” [1]

مقدمة الطبعة الأولى

وما تعلمت الشعر وما ينبغى له …….

فلماذا هذا الشكل؟

لست أدرى هل أستطيع الإجابة على هذا السؤال بعد أن تمت التجربة وأصبحت كيانا قائما يفرض نفسه حتى لو لم يـُـعرف سبب وجوده؟

لا أظن.

إلا أنى لابد وأن أحاول التنقيب فى نفسى، ولو لم أصل إلى الدافع الحقيقى، فمدى مسئوليتى – الآن- هو ما وصل إلى وعيى، فلأعرضه كما هو، ولأترك الحكم النهائى للقارئ.

لعلى قد أردت بهذا الشكل أن أطوّع حقائق العلم المعيشة فى الممارسة الإكلينيكية للتعبير الفنى التلقائى من واقع المشاركة الوجدانية للمرضى، تقمصا وتواصلا، وتحملا لمسئولية المعلومة، والكلمة والمريض فى آن واحد.

أو لعلى أتحدى به الإتهام الموجه للغة العربية بالقصور فى مجالنا هذا فأردت أن أثبت قدرتها على التعبير عن علم من أصعب العلوم الحديثة، وهو علم السيكوباثولوجى (علم تكوين المرض النفسى) فى هذا التشكيل الذى لايحتمل مظنة النقل أو التقليد، فأعلن بذلك أن أصالة هذه اللغة لاشك فيها، وأنها قادرة على التعبير بكفاءة غير محدودة عن أصعب العلوم، متى ما تمكن طالب العلم، أو شارحه من تملك قيادها وقياد علمه معا (الأمر الذى أحاوله ولا أدعيه) فيخلطهما بلحمه ودمه، ثم ينطلق فى تعبير جديد مباشر.

وأخيرا لعلى قد سننت به سنّة، أو ابتدعت بدعة، وهى إمكان التزاوج والتأليف بين العلم والفن، وليكن اسم هذا التوليف هو: الفن العلمى، أو العلم الفنى، الأمر الذى سبق أن حاولته بأكثر من أسلوب، فكتبت القصة القصيرة والرواية الطويلة، ونظمت خبرة خاصة بالعامية المصرية، فى وقت سابق ولاحق لهذه التجربة من نفس المنطلق على نفس الأرضية.

* * *

 وعلى كل حال فإذا كان الشعر “حالة” لا “حلية” ولا “أسلوبا” – كما يقول صلاح عبد الصبور – فليكن هذا شعر.

أما مدى علميّة محتواه، فهذا متوقف على تعريف العلم، الأمر الذى أعفى نفسى من تفصيله هنا (وقد بدأت تسجيل موقفى من هذه القضية فى كتابى “مقدمة فى العلاج الجمعى”) [2] ، ولكنى أكتفى بإعلان مسئوليتى عنه علما من أدق ما خلصتُ إليه من واقع ممارستى الإكلينيكية ومواجهتى ذاتى معا.

وعندى أن العلم والفن وجهان للحقيقة.. ولكن اقترابهما فى عصرنا هذا يلزمنا بعمق من نوع جديد، تصحبه شجاعة مخاطرة تناسب أسلوب سعينا المعاصر نحو التكامل، بلا تخصص مصطنع يحرم كل فريق من رؤية الفريق الآخر، فيعطل المسيرة.

لا نفع للإنسان المعاصر فى مزيد من التباعد بين العلم والفن وإلا واجهنا مجتمع المعرفة منشقا بين آلات متقنة ومشاعر محيطة أو ثائرة، نحن حاليا أحوج مانكون إلى التزاوج بين الطاقة البشرية النابعة من الإحساس الصادق، (أحد وظائف المخ مجتمـِـعاً) وبين جهاز الكمبيوتر البشرى الذى يمثل أعلى مراتب الترابط وحساب الاحتمالات (فى المخ أيضا، أعنى فى كل الأمخاخ!!).

فن الطب النفسى عامة، وعلم السيكوباثولوجى كأحد أساسياته، هو أكبر مثل حى على هذا التزاوج الصحى الذى ينبغى أن نسعى لتعميقه ونشره .

هذه التجربة التى بين أيدينا هى محاولة فى هذا الاتجاه لتقديم العلم بأسلوب فنى، أو تقديم الفن بالتزام علمى.

* * *

لعلىّ بهذا أكون قد حاولت الاجابة على السؤال الأول ” لماذا هذا الشكل؟”

إلا أنى بعد أن انتهيت من هذه التجربة وتركتها جانبا لسنوات، ثم رجعت إليها وكأنى غريب عنها، أخذتنى دهشة مبدئية، وتساؤل مؤلم يقول: وماذا لو عجزت هذه التجربة عن الوفاء بما أردت لها بادئ ذى بدء؟ فلا هى بلغت مبلغ الفن النافذ المشرق القائم بذاته، ولا هى أدت الفائدة العلمية المرجوة لتوسيع المدارك وتعميق المعرفة؟

داهـَـمـَـنـِـى تردد جديد فسَّرت به – متداركا- هذه الوقفة الطويلة التى حالت دون مغامرة النشر طوال هذه الأعوام الأربعة، وذهبت إلى بعض الأصدقاء الذين أثق فى حكمهم أستشيرهم، فطلب فريق منهم، أغلبهم من المتحفزين المتوهجين، أن أنشرها كما هى دون إضافة، وطلب فريق آخر أغلبهم من الأطباء والعلماء أن أكتب شرحا علميا مستفيضا لكل ما أشرت إليه فى صلب المتن وكأنهم يطالبوننى بكتابة “شرح على المتن” أسوة بتقليد عربى تليد وزادتنى آراؤهم حيرة، ثم قررت بعد طول أناة أن أكتب حواش موجزة ، لعلها لا تزعج الفريق الأول، ولا تخيب رجاء الفريق الثانى.[3]

المقطم فى 8 مارس 1977

يحيى الرخاوى

مقدمة الطبعة الثالثة (الحالية)

أربعون عاما مضت على ظهور ما سمى بالطبعة الثانية، وهى فى حقيقة الأمر ليست إلا الطبعة الأولى، لأن الطبعة التى سبقتها لم تتعد عشرات النسخ على الآلة الكاتبة، ثلاثون عاما اهتديت اثناءها إلى  طبيعة هذا العمل بعد أن أتيحت الفرصة لصدور ما أسميته “شرح على المتن” انطلاقا من هذا الديوان وهو كتابى الذى ناهز الألف صفحة، أما حكاية ظهور هذا الكتاب، وما  صاحـَـبـَـه وما تـَبـِعه، فهى حكاية تستأهل التسجيل:

بعد ترددى الشديد الذى أعدت إثباته هنا فى مقدمة الطبعة الأولى، وبعد ترجيحى نشر المتن دون شرح، وحتى دون هوامش، كما قلت فى مقدمة الطبعة الثانية، اتيحت لى فرصة أن أشرُفَ بمناقشة المتن الشعرى فى البرنامج الثانى فى الإذاعة المصرية، وقد شرفتُ بأن كان المناقش هو المرحوم الشاعر المبدع الفريد “صلاح عبد الصبور” الذى أثنى عليه شعرا خالصا، وحين ناقشته فى ذلك خشية أن يكون قد جامـَـلـَـنى فعدّنى شاعرا وأنا لا أزعم ذلك، رحت أشرح له كيف أن معظَم، أو كلَ، ما جاء فيه هو تشكيل إيقاعىّ لمراحل وتطورات نمائية ونكوصية يمر بها المريض النفسى فى رحلته من السواء إلى المرض وبالعكس، نافيا فى نفس الوقت أنه نَظْمٌ أو أرجوزة لتسهيل الحفظ مثل ألفية ابن مالك، وإنما هو “الحالة” التى انطلقتْ منها خبرتى بهذا التشكيل وأنا أحاول أن أحتوى ما وصلنى من مرضاى وخبرتى ومعرفتى حتى غمرنى ما خرج منى هكذا، وهو الذى اعتـَبـَرَهُ هذا الرائد الفريد  شعرا خالصا، وحين شرحت له تفصيلا كيف يمتزج وعى الطبيب الذى يمارس مهنته بأصولها التاريخية والفنية والنقدية والإبداعية، كيف يمتزج بوعى المريض (والمرضى) فيصبح جاهزا لإبداع نفسه ومريضه، فيفعل ما يمكنه أو ما يأتيه فى حدود فرَصـِهْ وأدواتـِه، وقد يمتد ذلك إلى أى مجال للإبداع، حين شرحت له كل ذلك فـَرِحَ به، لكنه بدا أنه يتردد فى أن يصدق أن المرضى بتشتتهم الشائع، يمكن أن يكونوا مصدر مثل هذا الشعر الخالص، بصراحة أثلجنى ذلك واعتبرته مديحا لا أستحقه، لكننى تماديت فى شرح طبيعة ما يجرى عبْر ما يسمّى الوعى البينشخصى إلى الوعى الجمعى وما بعده، وقلت له إننى كنت على وشك أن أكتب شرحا على هذا المتن الشعرى لأكمل به توصيل الرسالة التى وصلتنى من خبرتى ومرضاى، وهنا تحمس المرحوم صلاح وقال: “فلتفعل، وأغلب الظن أنك لن تنجح لأن هذا الشعر لا يحتمل الشرح”، ولم أفهم ساعتها ماذا يعنى بأنه لا يحتمل الشرح، فقبلت التحدى شاكرا راضيا، مترددا حذِراً.

وحين أتيحت لى الفرصة بعد ذلك كتبت الشرح على مدى أيام طويلة قاربت العام، فكان كتابى: “دراسة فى علم السيكوباثولوجى”، شرح على متن ديوان “سر اللعبة”([4])، الذى اعتبره حتى الآن “الكتاب الأم” أو “المرجع الأساسى لفكرى” فى الطب النفسي ([5])، وقد أرجعت الفضل فى ظهور هذا المرجع العلمى  إلى ما اسستثارنى من استبعاد هذا العبقرى الشاعر الفيلسوف المبدع الجميل لهذا الربط الذى يكاد يكون محور علاقتى بمهنتى وتخصصى ونشاطى عموما والذى انتهى مؤخرا إلى اعتبارى ممارستى للعلاج فى مهنتى هو بمثابة “نقد إبداعىّ مشارك عبر الوعى البينشخصى وامتدادته “، الأمر الذى رحت أواصل شرحه وتقديمه وتدعيمه فى العقود الثلاثة الأخيرة تحت مسمى “نقد النص البشرى”.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] – يحيى الرخاوى، (2017) ديوان: سر اللعبة، الطبعة الثالثة، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، وقد كانت طبعته الأولى،1978 منشورات دار الغد للثقافة والنشر، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى  للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net.

[2] – ثم توالت مناقشتى للمنهج وخطورة إغلاقه، ونقد العلم السلطوى  فى نشرات الإنسان والتطور اليومية طوال العشر سنوات الأخيرة (2007 – 2017) www.rakhawy.net

[3] – ولم أفعل، خوفا مما يصيب الشعر حين يـُشرح، لكننى فعلت ما يمكن أن يكون أكثر تشويها، أو إفادة،  بعد ذلك بسنتين اثنتين (انظر مقدمة الطبعة الثالثة).

[4] – يحيى الرخاوى، 1979، دراسة فى علم السيكوباثولوجى، شرح ديوان سر اللعبة، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، دار الغد للثقافة والنشر، القاهرة، وقد ناهز هذا الشرح الألف صفحة، وأصبح مرجعا فى النفسمراضية (وهو الأسم المنحوت ليقابل الاسم بالانجليزية Psychopathology )

[5] – ذلك قبل تطور ما استحدثتُ أخيرا تحت اسم “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى”.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *