نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 12-2-2025
السنة الثامنة عشر
العدد: 6374
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين” [1]
الفصل الخامس
الفصل المفقود: (2)
أوراق قديمة، وأوراق مبعثرة (9)
من مذكرات 3 يوليو 1950
معذرة لقد نسيت أن أعلق على الحرب الكورية!!!
20 فبراير 1954
قال والدى ونحن نتكلم فى مقدار نصيب الإنسان من الجهد ومعنى الاعتماد على اللّه:
يا إبنى إنى حين أقول أسلمت وجهى لله كل صلاة لا أقولها وأستسلم،
وإنما أقولها لأقبل النتائج، و أتعلّم.
(عود على بدء) 27 / 8 / 1986
“ديكى ديكى، أنت صديقى أنت رفيق البيت، رفيقى
صِح فى الدار، أيقظ جارى، واشرب ماءً من إبريقى“.
هنا فى لبتوكاريا كنت أنا الجار الذى يوقظه الديك، وأنا الصديق معا،
صديق عن بـُعد كالعادة، حتى مع هذا الديك أصادقه عن بعد!!!
8 اغسطس 1987
……………..
……………..
وجدنا المركز “كاتيرينا” بلدة كبيرة كما توقعت أول مرة، وكما كرهتها احتياطيا، واشترت زوجتى بعض الستائر الأجمل والأرخص فوفّرت الشئ الفلانى، وأنا مالى؟ مادمت لن أزن الحقائب فى المطار، هذه هى ميزة السفر بالعربة، كانت ميزانيتنا قد اعتدلت تماما بما وفرناه بإقامتنا فى لبتوكاريا. الفندق إيجاره حوالى خُمس أى فندق فى أثينا، والأكل شديد الرخص، ولو كنا نأكل ما اسمه باليونانية على ما أعتقد”خورينو” لكنا وفرنا أكثر. كانت زوجتى هى التى اكتشفت أن “الكفتة” لها رائحة غير مألوفه (قبيحة، بل، ولا مؤاخذة، نتنة) وحين سألنا بدقة، اكتشفنا أن الخورينو باليونانى هو الميالى، بالإيطالى وتذكرنا مقلب مخيم “الألبا دورو” قرب فينسيا.
عند عودتنا من كاتيرينا إلى لبتوكاريا، وجدنا الساحة الرئيسية بها ثلاث عربات شحن مليئة بآلات موسيقية، وعدد من الشباب يقوم بإنزالها وترتيبها، والناس ، على قلتهم،تتجمهر من حولها، سألنا بالإشارة، وفهمنا أنها فرقة كذا، وسوف تحيى الليلة حفلة عامة فى هذه القرية الهادئة. بدا لى عدد أفراد الفرقة أكثر من سكان القرية، وسألنا عن ثمن التذاكر فقالوا: بلا تذاكر، إنها مجانا، خير وبركة، لكن داخلنى توجس ما، فقد تحرمنا هذه الآلات العملاقة من الرقص الزورباوى، ومن رقة العازفين الثلاثة، ومن جمال الـقِــلَّة، أضيع أنا وسط الأعداد الهائلة.
كنا فى الليلة السابقة قد تعرفنا على “وحيد” يونانى، ذكّرنا بـ”وحيد” حانة تاكسيم فى اسطنبول، لكن هذا الوحيد كان ربعة فى الجسم، له كرش صغير وأنف مدبب، وكان لا يكف عن الشراب والرقص ثم الرقص، فالشراب، لم يكن يراقص أحدا بل كان يرقص مع نفسه، لم يعرض أن يرقص مع أحد، ولم يعرض أحد أن يرقص معه، هذا الرقص الزورباوى (كما أسميناه) لا يحتاج إلى رفيق، وفى إحدى جولات الرقص، أخذتـْه الجلالة فدعا طفلا لا يزيد عمره عن أربع سنوات إلى دائرة الرقص، وراح يراقصه فى نشوة بالغة، والطفل يشاركه فى أبوة حانية (الطفل هو الأب)، وحين صفّقنا لهما أنا وزوجتى بشدة حتى بعد أن عادا إلى المائدة، حيّانا الرجل فرِحاً بنا ثم أرسل لنا مشروبا، ورأسه وألف سيف أن يدفع حسابنا كاملا ترحيبا وكرما، ولم نردّه، وقد تأكدنا من أصالة كرمه ونحن نشاهد سعادته بقبولنا ضيافته، وكأننا بذلك كسرنا وحدته كثيرا أو قليلا، وقررنا، زوجتى وأنا، أن نعزمه على العشاء فى اليوم التالى، تذكرناه ونحن نشاهد اليوم هذا الاستعداد لـلحفل الكبير وسط الساحة، قلنا كيف سنعثر عليه وسط الزحمة المتوقعة، وفعلا لم نجده هذه الليلة وسط هذا الجمع الذى لا أعرف من أىن أتى إلى هذه القرية الصغيرة، وكادت تضيع علينا الفرجة لحساب البحث عنه.
ازدحمت المساحة الكبيرة بعدد من الناس لم نرهم من قبل (وكأننا رأينا ناس القرية من قبل)، رجحنا أنه شئ مثل الموالد فى القرى عندنا يحضرها كل من يهمه الرقص والحب والغناء، من القرى المجاورة، لم يعد الأمر عندنا مثلما كان زمان، الأمور تزحف عندنا، بل فى الدنيا كلها: ضد لقاء الناس بالناس، يحل محل ذلك نوع من التخلى، ليس تخليا بالضبط لكنه خليط من القهر والكسل والحياء الزائف ثم استبدال الناس بما يشبه الناس ، كما تستبدل الطبيعة بتقليدها (ولامجال للتفصيل الآن).
فى بلدنا كلما تخلّينا عن بعضنا البعض، زادت الأحضان والقبلات، خاصة بين الرجال. ما هذه العادة الجيديدة القبيجة؟
وعندهم ، يحل التواصل عن بُعد (بالإنترنت مثلا) محل الحميمية والدفء الطبيعى المباشر، يحيا الشذوذ الجنسى !! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
لم نستطع أن نكمل الليلة ولا بعضها، ليس هذا هو ما شدّنا إلى هذا المكان، قارنّـا ما يجرى بالليلة السابقة التى عَزَمَنَا فيها ذلك الرجل البديع الراقص مع الطفل الجميل، وانصرفنا مبكرين، غير ساخطين، وغير مؤتنسين.
عند العودة، وعلى باب الفندق وجدنا صاحب النزل وزوجته الصغيرة وقد خلعت “مريلة” العمل وتزينت، وثمة ثمان أوتسع أفراد جالسون معهم، وثم جيتار وغناء وما يشبه حفل عشاء أمام الفندق، حفل يغلب عليه الطابع الأُسرى بشكل أو بآخر. عند دخولنا أصرّ صاحب الفندق (المنزل/ النزل/ الكوخ الجميل) أن نشاركهم. كانوا يحتلفون بعيد ميلاده، ولم نستطع أن نعتذر، ولم نتمكن من المشاركة بحق، فجاملناهم حسب ما تبقى لدينا من كل شىء، واستأذنا،
نحن منبهران من هذه الحياة الزاخرة، فى هذه القرية النائىة، حياة بها دفق العمل، وجذل الرقص، ودفء الناس، وجمال الطبيعة!!
31/8/1986
فى الصباح ذهبت إلى مقهى الشاطئ كعادتى، وكنت قد استأذنت زوجتى فى البقاء ليوم اخر، وأنه يكفى لأثـينا التى حفظناها عن ظهر قلب بعض يوم وليلة، ووافقت بطيبة حقيقية، مع أننى أكاد لا أكلمها طول النهار، وقد تيقنتُ من أنها تفرح إذا أنا كتبتُ ما أريد أن أكتبه، لأننى أكون حينذاك أقرب إلى نفسى، هى لا تفرح لما أكتب، بل إنها عادة لا تعرف ماذا أكتب، لكنّها تطمئن إلى حالتى حين تشاهد أثر ذلك بوضوح على كل ما هو أنا.
دائما كنت أتصور أنها لا تطيق استغراقى فى القراءة والكتابة طول الوقت على حساب أشياء كثيرة ينبغى أن تكون فى الحياة الزوجية، إلا أننى لاحظتُ أنها راضية هادئة مبارِكة لما أقوم به دون أى احتمال لألعاب المجاملة أو أوهام المرأة التى هى وراء كل عظيم، أين العظيم أصلا؟
ذهبتُ إلى مقهى الشاطى أو دعه صباحا، وجدت الرجل صاحب الفندق، ومعه ابنه (حوالى 14 سنة). وهما منهمكان فى إصلاح، أو إعداد، شبكة صيد كبيرة كبيرة، غلبنى حب الاستطلاع وسألته فقال لى بإنجليزيته المكسرة إن هذا هو عمله الأصلى الذى يعمل به طول السنة، وأن ابنه يساعده معظم الوقت، فموسم التصييف قد انتهى، وعليه أن يعاود الصيد، أكل عيش، والمدارس ستبدأ بعد أيام، وما الفندق (أو الموتيل أو الكوخ) الذى كنت فيه إلا عمل صيفى مؤقت أعده ليستضيف اليوغسلاف بقروشهم القليلة حين يحضرون ليصيّفوا بعض الوقت، وهو ليس فندقا تماما (هذا ما لاحظناه فعلا)، ولكنها بعض حجر منزله يخليها بأن يسرب أولاده إلى بيت أمه لفترة الموسم لا أكثر. فإذا ما انتهى الموسم عاد كل شئ إلى حاله، ومن ذلك أن يعود هو إلى شباك صيده.
شعرت أننى قد أخذت حق هذا الشاب الجميل (ابنه) حين سكنتُ فى حجرته، وفرحتُ أنه برحيلنا اليوم سوف يعود الشاب إلى حجرته وإلى أركانه، وحين عدت إلى الحجرة كنت استودعها وطيف الصبى معى وكأنى أسلمها له شاكرا، حاولتُ أن أرجع كل شئ إلى مكانه، وأنا لا أعرف مكانه أصلا، بل إننى لست متأكدا إن كانت الحجرة التى أشغلها هى حجرة الشاب بالذات أوهى حجرة أخته مثلا. لمْ أحجر على مشاعرى وأنا أعيد ترتيب كل شىء، صدّقت افتراضات خيالى.
1/9/1986
نهاران وليلتان هما ما تبقى لنا فى الرحلة كلها، الطريق أصبح طريقنا، ولم يبق أمامنا إلا توديع الأماكن دون الالتزام بوعد معها بالعودة، أثينا تنادينا على الرغم من الود المفقود من جانبى، ومع ذلك ما إن لمحتُ لافتة لفندق صغير فى الطريق حتى عرجت إليه أملا فى تجنب البقاء ليلتين فى أثينا، لم نجد أحداً رغم أن الباب كان مفتوحا، انتظرنا طويلا حتى حضرت لنا سيدة أنيقة وهى لا تصدق أن ثمة زبائن يطلبونها، وسألت وتعجبنا، وأفهمتْنا السيدة أن الموسم انتهى، وأن الفندق سيظل مفتوحا لشهر سبتمبر بشكل روتينى لا أكثر، وأنها ترحب باستضافتنا ليلة أو كما نشاء، أحسست بوحشة صعبة، ولم أحاول أن أنظرفى وجه زوجتى أصلا لأننى أعرف ما اعتراه، وانصرفتُ شاكرا شكرا حاولتُ أنت يكون خواجاتيا، فتنفستْ زوجتى الصعداء.
فرقٌ بين حجرة فى نزل ريفى، وبين زنزانة مكيفة فى فندق خال حتى من أصحابه!
أخجل أن أقول أننا حين اقتربنا من “باراليا” تذكرتُ ما كان منى نحو الركن الصغير وهو يجذبنى وكأنى سوف ألقى إليه بنفسى إليه من أعلى الجبل، تباطأتُ عند محطة البنزين إياها لكننا كنا على الجانب الآخر، وكان عندنا ما يكفى من الوقود، فلم ألمح ذلك الكوخ المعزول فى السفح على الشاطئ. بحثت عن رغبتى التى كانت، فلم أجدها، ولم أشر لزوجتى إلى المكان ولا إلى محطة البنزين ولا إلى وصيتى أن يذكرَنى أحد أولادى “هنا”. وأنى رغبت يوما فى المبيت ليلة واحدة ثم أقضى.
عاودنى شعور بالألم لما ألحقتـُه بزوجتى دون مبرر.
23 يوليو 2000
يتضح لى الآن بجلاء كيف اهتممت فى ممارستى وتنظيرى (فى السيكوباثولوجى، والعلاج النفسى وغير ذلك) بوصف صعوبة العلاقة مع الآخر وميكانزماتها. أما الممارسة فليس هنا محل الإشارة إليها الآن، أما التنظير فسوف أكتفى بعرض عيّنات محدودة، ظهرت بشكل أدبى قد يتفق مع سياق هذا العمل.
ظهرذلك فى شعرى بالعربية الذى رسمت به حركية الإمراضية (ديوان سر اللعبة ـ دراسة فى علم السيكوباثولوجي) وأيضا بالعربية المصرية (العامية) كما ورد فى ديوان”أغوار النفس.
إن ما وصلنى وأنا أكتب هذا العمل، خصوصا فيما يتعلّق بالموت من جهة، والعلاقة بالموضوع (الآخر) من جهة قد أضاف لى بعدا شخصيا أحسب أنه من صلب المكاشفة. إنه يضيف رؤية تربط بين ما أحاوله هنا من تعرٍّ شخصى وحوار متعدد الأطراف، وبين ما وصلنى من مرضاى أصحاب الفضل بلا حدود، ليس فقط لأننى تعلّمت منهم ما هم، ولكن أىضا لأننى تعلمت من خلالهم ما هو “أنا.
حين أفقتُ لنفسى وأنا أمر على “باراليا “لأدرك كيف خفّ الحنين إلى الركن، على الأقل بالمقارنة بحالتى أثناء الذهاب، حمدتُ الله على أننى لم أسارع بإنكار ما غمرنى أثناء الذهاب بافتعال تفسيرات سطحية، أو بقمع قهرى ممنطق. أخذ الحنين حقه بما ترتب عليه من ظلم لزوجتى وغم كاد يجهد الرحلة أصلا.
تُرى هل شفيتُ من داء “الحنين إلى الركن”؟ هل شفتنى لبتوكاريا؟ هل كان هو علّة أصلا أم هى بعض تجليات الطبيعة الإنسانية حين يصل إلى الوعى أحد ذراعىّ “برنامج الذهاب <=> العودةً فى صورة هذا الحنين الجارف إلى”ركن قصى”؟ ،
أحاول فى هذا الاستطراد، ومن باب أمانة التعرية أن أجيب، بدءا بتساؤل هام:
هل هذا هو أنا دون غيرى، أم أن لكل واحد منا ركنه الظاهر أو الخفى، وأننا لا نفعل شيئا فى هذه الحياة إلا تنفيذ برنامج “الذهاب والعودة” طول الوقت طول العمر، حتى يحل وقت الذهاب بلا عودة؟ أو إلى عودة أخرى ترتبط عندى بالإيمان بالغيب ؟
ثم : لماذا يحتد وعيى تجاه هذا الجذب/العودة هكذا بشكل ملح؟
يزداد تأكّدى من أن أسفارى المتعددة هذه، وبهذه الصورة ليست إلا تأكيد لهذا الفرض القائل : “إنها تفعيل Acting out لهذا البرنامج الأبدى،
هل كنتُ أعلم كل ذلك عن نفسى وعن الناس، مرضى وأصحاء، حين كتبت ديوان سر اللعبة ثم شرحته فى “دراسة فى علم السيكوباثولوجى”، وأيضا حين كتبت ديوان “أغوار النفس”، وألحقت به شرحا فى العلاج النفسى؟
رحت أقلّب أوراقى ـ قصدا هذه المرّة ـ بحثا عن وظيفة “الركن” (ومكافئاته) وتجليات ظهوره فى أعمالٍ لم أقصد بها تعرية ذاتية أصلا، ولا مكاشفة، لكنّها قد تثبت بشكل أو بآخر بُعداً لما هو “المنهج الفينومينولوجي” حين يكون الفاحص والمفحوص جزءا من الظاهرة، فلا هو استبطان وتأمل ذاتى، ولا هو رصد من الخارج يدّعى الموضوعية،
………………
………………