الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الخامس “الفصل المفقود” (2) أوراق قديمة، وأوراق مبعثرة (9)

ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الخامس “الفصل المفقود” (2) أوراق قديمة، وأوراق مبعثرة (9)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 5-2-2025

السنة الثامنة عشر 

العدد: 6367  

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الثانى: “الموت والحنين” [1]

الفصل الخامس

الفصل المفقود: (2)

أوراق قديمة، وأوراق مبعثرة (9)

من مذكرات 3 يوليو 1950

معذرة لقد نسيت أن أعلق على الحرب الكورية!!!

20 فبراير 1954

قال والدى ونحن نتكلم فى مقدار نصيب الإنسان من الجهد ومعنى الاعتماد على اللّه:

يا إبنى إنى حين أقول أسلمت وجهى لله كل صلاة لا أقولها وأستسلم،

وإنما أقولها لأقبل النتائج، و أتعلّم.

(عود على بدء) 27 / 8 / 1986

ديكى ديكى، أنت صديقى أنت رفيق البيت، رفيقى

صِح فى الدار، أيقظ جارى، واشرب ماءً من إبريقى“.

هنا فى لبتوكاريا كنت أنا الجار الذى يوقظه الديك، وأنا الصديق معا،

صديق عن بـُعد كالعادة، حتى مع هذا الديك أصادقه عن بعد!!!

8 اغسطس 1987

……………..

……………..

أتذكر رد الست نعيمة حين حدثتها عن مرض د. السعيد، أرد على نفس السؤال  الذى لاح لى بعد مرض الدكتور حلمى، أرد قائلا :

واشمعنى غيره؟  إشمعنى غيرى؟

منذحوالى عام  وبعض عام دخل علىّ فى العيادة  مريض فارع الطول حاضر الهيبة، كان يلبس الجلباب البلدى الأنيق، وكان أيضا حاسر الرأس، عمدة هو أو كالعمدة ، هذا الحضور الجميل أعرفه عن أعيان بلدنا الظرفاء

 كان مريضا، قطع كشفا، وقال لى شكواه باختصار، فتبينت أنه يعانى من اكتئاب من النوع الشريف اليقظ ، وكان يتجرع ألمه بطيبة وصبر، حين سألته عن سبب لجوئه إلى ّ  وهو بهذا التماسك ؟ ردّ ردا طيبا متواضعا، وحين تطرق السؤال عن أولاده والظروف التى سبقت معاناته، ذكر لى بنفس الهدوء أن ابنه مات فى حادث طريق ولم يمض على عرسه بضعة أسابيع، لم أصدّق أن يذكر هذا الخبر وكأنه ليس سبب اكتئابه مع أن معاناته بدأت مواكبة لهذا الفقد. لاحظ  الرجل دهشتى وألمى من الخبر، فسألنى وكأنه الطبيب وأنا المريض، ماذا بك يا دكتور، فذكرتُ له – مع أن الأمر لا يحتاج إلى رد –  أننى جزعت من الخبر، لكن يبدو أن اضطرابى كان أكثر مما ينبغى، فأخذ الرجل يطيب خاطرى وكأنى أنا الذى فقدت ابنى . قال لى بإيمان طيب أن ابنه الفقيد ” ما يغلاش على اللى خلقه”،  رحت أنظر فى وجهه ، واحترمته ، وشكرته ، وأحسست أنه هو الذى يستحق أن يأخذ منى كشفا لنجاحه فى مواساتى.

لا أحد “يغلى على الذى خلقه”. فلماذا أجزع هكذا من الموت؟

خلال وقوفى بجوار هالة قبل أن يصل الجثمان من انجلترا  شعرت أننى حزين جدا، (جدا)، وعرفت أن علاقتى بالموت لم تُحلّ رغم كل ادعاءاتى، وعرفت أكثر أنه يبدو أننى لا أحزن على الميّت، بل أحتجّ على الموت.

 كذلك اكتشفت اكتشافا أخطر، وهو أن الناس تقترب منى جدا حين تموت، بعد أن تموت!! ألم أقل إنه رغم كل ما جاء فى الفصل الأول فى هذا الترحال الثانى ورغم ما لا أحب أن أذكره من حديث الناس عن حميمية علاقتى بسعيد واحترامهم وقوفى بجواره مريضا ومع أسرته كل الوقت ، أنه لم يكن صديقى،

أيضا : لم يكن الدكتور حلمى صديقى . فلماذا كل هذا الجزع على موته؟ وجدت نفسى حزينا جدا، عندما أخبرنى ابنى مصطفى بنبأ وفاته، وكان ما زال فى إنجلترا، كانت هالة  وحدها فى بيتى، ذهبت إليها، أخذتها  فى حضنى ثم رحت أقرأ قرآنا طويلا شجيا، ودموعى تنساب ، وأنا أذكر نفسى أنه “واشمعنى غيره”؟ ” واشمعنى غيرى”؟ وأيضا أنه “مايغلاش على اللى خلقه”.

 عنونت كلمة رثائى للدكتور حلمى بعنوان فرعى يقول: “صداقة الاختلاف” ويبدو أنه كان عنوانا غريبا  غامضا فاكتفى الأهرام بالعنوان الأول: “عطاء المصرى الطيب”.

20/6/2000

“فجأة، فعلا فجأة، وكل رحيل هو فجأة، على الرغم من كل ما نردد، أقول: فجأة رحل عنا رجل شديد الطيبة، بالغ المصرية، سهل الحضور، جميل العطاء، وافره. وحين رحل حلمى نمر، اكتشفت أنه كان صديقا لى أكثر كثيرا مما كنت أتصور، نعم رحل صديق حميم كنت أتعلّم منه أكثر مما كنت أحسب، كان الاختلاف بين طبعينا شديدا بقدر شدة احترامنا لما يحاوله كل منا بطريقته، ولم أكن أتصور، كما تنبأت زوجته الكريمة أ. د. إجلال رأفت، ألهمها الله الصبر، لم أكن أتصور أنه يمكن أن تنشأ بيننا صداقة كما هى بين الناس، لكننى الآن، فور رحيله أكتشفُ أنه كان صديقا جدا، فأنا أفتقده بجزع لم يخطر على بالى.”

وقد أنهيت الكلمة باعتراف آخر، يرتبط بطريقتى فى التعلم ممن أعرف، سواء اختلفت معهم، أم اتفقت، كانت نهاية كلمتى تقول :

يا د. حلمى من الذى سيعلمنى بعدك أن ما أمارسه فى حياتى مع الناس ليس هو السبيل الوحيد، ولا الأمثل، على الرغم من شركتنا فى حبهم؟ من سوف يفهمنى “المعنى” الذى تمثله لى ولغيرى؟ يا د. حلمى:أعاهدك أن أواصل الحوار معك رغم رحيلك. مع أننى أشعرأنى أعجز عن تصحيحِى بدونك. أىها المصرى الطيب البديع. صاحبتك السلامة.

أنا أتساءل الآن: هل صحيح أننى كنت أعاهده على ذلك؟

هل كنت أعنى أننى أريد تصحيحى فعلا؟ مع أننى اعترفت على الملأ أنه لا فائدة (منّى)؟

هل تصنعت أنى أحاول؟

فوجئت بحزن زوجتى عليه حزنا شديدا، مثلى وربما أكثر، لكننى حزنت حزنا آخر.

بمنتهى القسوة قررتُ أن أختبر معنى حزنها، ومعنى موتى (بالمرّة). لا أقصد أختْبرها أو أختبر صدقها، حاشا لله، فهى لا تنافق أحدا بحزنها ولا تجنى من ورائه أى شىء، لكننى تعجّبت من أنها تصر أن تلبس الأسود عليه، وهى لم تفعل بنفس الإصرار بعد موت بعض أختيها، كانت إحداهما – أم نبيل – بمثابة أمها،

الذى رحت أختبره هو معنى هذا الحزن وليس صدقه، رحت أجرّب  “بروفة موتى أنا” إن صح التعبير،

 فقد تصادف موت د. حلمى مع تمام إعداد ركن “محلى” لى فى أعلى المستشفى،

حققتُ فيه كل ما تمنيته من بساطة وعزلة ودفء وطبيعة، فيه : أعرف أين تطلع الشمس وأسمح لها بمساحة محسوبة، كما أستطيع أن أحاور القمر لا أقل من عشرين يوما فى الشهر، يودعنى القمر قبل أن أنام فى أول الشهر، و ينتظرنى عند استيقاظى قبل الفجر. أطل على القاهرة كلها فى صمت وأنا أعمل، قلت فرصة: أختبر موتى، بالذات بالنسبة لزوجتى، وصارحتُها ببساطة، منتهزا فرصة خلافٍ عابر، أننى لن أحضر البيت، بيتنا/ بيتها، بعد الآن، وأن تفترض أننى رحلت مع د. حلمى، وأن الفرق الوحيد هو أن الدكتور حلمى الآن يزار وهو تحت التراب، أما أنا فيمكن أن أزار ـ بعد موتى هذا ـ وأنا ما زلت حيا فى ركنى أعلى القاهرة. وفعلتُها.

ما هذا بالله عليكم؟ لن تصدقونى؟

ليكن، لكن هذا هو الذى حصل، وهو ما زال حاصلا، كنت أعنيه وهو متحقق حتى كتابة هذه السطور. ويبدو أن نتائجه ليست كلها إيجابية، يمكن أن تكون خطيرة ، مع أن  هذا “الموت التجريبى” هو الذى أتاح لى كتابة هذا العمل – وغيره – بعد أن تأخر ظهوره ما يقرب من عقدين حتى ضاع ما ضاع، وزاد ما زاد ، فكان ما كان.

قفزة إلى الخلف (الآن) طولها ستة عشرة  سنة وشهرين لأحكى ـ من الذاكرة ـ عن لبتوكاريا وجدلية الجنون والإبداع أثناء عودتنا من تركيا إلى أثينا.

27/8/1986

كانت الانحرافة التى انحرفناها إلى ليبتوكاريا فرصة للمقارنة بين جذب الحنين الغامض إلى ركن الـ “باراليا”،  (أو البارانويا)، ذلك الركن الهادئ المظلم الواعد الخطر، بالمقارنة بما تمثله تلك القرية التى كانت بمثابة الركن الدافئ المحاط بأنفاس الناس الطيبين، وسماحهم وبهجتهم.

 شعرت أن أيامى فى لبتوكاريا هى أشبه بتلك لأيام التى قضيتـُها داخل الخيمة وحيدا فى مخيم فى فينسيا، وحيدا لكنى كنت محاطا بالناس جدا، و حين أمطرت السماء بعد أن أوصلت زوجتى وإبنى إلى السفينة فى طريقهم إلى مصر فى سبتمبر سنة 8691 قبعت داخل الخيمة مضطرا بسبب استمرار المطر، لكن أنفاس المخيمين كانت تصلنى بكل ما هو إنسانى جيّد، كانت تلك الخلوة الإجبارية بمثابة نقطة تحول فى فكرى فى الطب النفسى حيث أتاحت لى قراءة كتاب جانترب عن “الظاهرة الشيزيدية، والعلاقة بالموضوع والنفس” Schizoid Phenomenon Object Relation and the Self  مرتين،

فى لبتوكاريا عشت نقطة تحول أخرى فى فكرى، من خلال الكتابة لا من خلال القراءة هذه المرة،  فقد رحت أكتب كل يوم فى موضوع ” جدلية الجنون والإبداع ” كتابة لم تخطر على بالى من قبل، وقد يثبت (كما تبين لى حتى الآن يونيو 2000) أن هذا الموضوع هو أهم ما كتبته فى حياتى،  (ولعله أقرب للتصديق، من الموضوع الأول فى سلسلة نظريتى فى الإبداع عن “الإيقاع الحيوى ونبض الابداع”، ولعله أقرب فى التناول من استلهامات النفرى- ياخبر !! كلما كتبت موضوعا تصورت أنه الأهم بين كل ما كتبت!!!!).

كل يوم يوقظنى ديك الجارة الفلاحة اليونانية جارتنا فى النزل الذى لا ينزل فيه غيرى أنا وزوجتى، لأول مرة أعرف كيف يصادق طفلٌ ديكا، كنت أعرف صداقة الكلاب وأحبها، ولا أحب القطط ولا أطيق صداقتها، أما الديك فلم أعرف أبدا كيف تكون صداقته منذ كنا نغنّى صغارا:

ديكى ديكى

 أنت صديقى

أنت رفيق البيت رفيقى

 صِح فى الدار

 أيقظ جارى

واشرب ماء من إبريقى”

 هنا فى لبتوكاريا كنت أنا الجار الذى يوقظه الديك، وأنا الصديق معا، صديق عن بعد كالعادة، حتى مع هذا الديك أصادقه عن بعد!!! كنت أصحو فأحييه من نافذة حجرتى المتواضعة، ثم أنزل فورا إلى الكرسى الخالى والمنضدة الصغيرة أمام النزْل (هل كلمة النزل هى الترجمة المناسبة لـ Motel؟ لا أعرف، فهو لم يكن حتى موتيلا)، أجلس أمام الباب وكأنى أجلس على المصطبة على جدار بيت جارتنا (خالتى تُحفة) فى بلدنا، وهات يا كتابة، كنت أحيانا لا أرفع رأسى من على الورق قبل خمس ساعات، الكتابة طول النهار، وحضور الغناء ومشاهدة الرقص (ياليتنى أعرف كيف أرقص هكذا جميلا) ومشاركة الناس الطيبين فرحتهم كل ليلة، ناس قلائل وقلوب فرحة جدا، الله!، تصورت أننى لو أمضيت هنا عاما وبعض عام أكتب هكذا، إذن لغيّرتْ الأفكار التى تأتينى هكذا الكون، وحمدت الله أن أحدا (خصوصا من زملائى آلأطباء لم يسمعنى).

29/8/1986

بقيت فى لبتوكاريا ليلتين أكثر مما حسبنا، وإن كنت شخصيا لم يكن عندى مانع أن أبقى هنا حتى يوم السفر لأذهب إلى أثينا ومنها إلى القاهرة فى نفس اليوم، لكننى لا أعرف ميعاد اقلاع المركب تحديدا، ولابد أن أودع االفندق كما وعدتُـهُ، ألم أتحدث طويلا ومكررا عن علاقتى بالأماكن؟

قررت مع زوجتى ليلة أمس أن نزور “البندر” نعم، نحن فى “لبتوكاريا” مركز “كاتيرينا” محافظة سالونيكى، وعيب علينا ألا نمر على “المركز” لنوقّع بالحضور.

فى الطريق إلى كاترينا (على بعد 30 كيلو متراتقريبا) مررنا على الرجل نصف اليونانى ونصف البلجيكى صاحب محل الملابس على ناصية مدخل القرية. كنت أود أن أشكره، على أنه ، وغروب الشمس، كانا صاحبا فضل فى تعرفى على لبتوكاريا هكذا. لم نجده، فشكرت الله.

………………

………………

ونواصل الأسبوع القادم بقية الفصل الخامس: (الفصل المفقود: 2) (الفصل الحادى عشر: من الترحالات الثلاثة) “أوراق قديمة، وأوراق مبعثرة” (10)

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *