نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 11-1-2025
السنة الثامنة عشر
العدد: 6342
ثلاثية المشى على الصراط
رواية: “مدرسة العراة” [1]
الفصل السادس
كمال نعمان (1 من 2)
-1-
اقتربتُ من اللوحة، وابتعدت عنها، ملأنى الزهو بنفسى وبالريشة وبالألوان، أتذكر كلام صديقى أمس: “تـُـواصـِل الصعود إلى القمة بسرعة يا كمال! الآن فقط أحس أنك كنت محقا حين تركت الشعر”، صديقى هذا ناقد فنى لا يجامل، هزنى إلى الأعماق، هذه لوحة ستكون صرخة العصر لإعلان مرحلة جديدة، لم يبق على إنهائها إلا لمسات يسيرة .
أتراجع أكثر حتى أتملى من ألوانها، جاءت وقفتى بجوار النافذة، لمحت الأتوبيس وقد خرج من كل فتحاته عجينة مختلطة من البشر “المصريين”، شعرت بوخز عنيف فى صدرى سرعان مازال ليحل محله هاتف قديم، هاتف كنت قد نسيته بعد أن استغرقنى العمل والنجاح، تردد بصرى بين اللوحة وبين الأتوبيس”هؤلاء البشر مصريون! وأنا ؟ ” رجعت أشاهد اللوحة، هذا العمل يدل على أنى منهم، هل هذا صحيح؟ منهم يعنى ماذا؟ عدت إلى اللوحة، أحسست أنها تقف حائلا بينى وبينهم، لم أستطع أن أطرد ما يدور بعقلى، لا يوجد شئ مشترك بينى وبين هؤلاء الناس، من حق صاحب هذا العمل الحقيقى أن يحس به الناس الحقيقيون، أرفض ألا يحس بى إلا ناقد متحذلق، ترى هل يفهم الناقد نبضى أم أنه يتفرج ليحكم علىّ، لا بد أن يعرف هؤلاء الناس ماذا أقول، ومن يقول ماذا، فعلا، أو حتى تقريبا؟ هل حقا أريد أن أقول شيئا أم أنه تفريغ والسلام؟ تـُرى ماذا أريد أن أقول، يتردد السؤال على لسان هاتف شديد الوضوح، ليس تفكيرا داخليا، صوت كأنه أنا، لكنه مازال بداخلى والحمد لله، يكرر السؤال بحدة أكثر مما خطر ببالى.
- ماذ تريد أن تقول فعلا؟
= لا أعرف.
- ولماذا تريد أن تقول ما لا تعرف؟
= لأنه يلزم أن يقال .
- من أين أتيت بهذا اللزوم؟
= ماذا أفعل لو لم أقله؟
- وماذا تفعل لو قلته؟
لأول مرة أقف أمام عملى بهذا الوضوح أراجع قيمته ومعناه، كان يخطر ببالى مثل هذا الخاطر، وخاصة حين تثار المناقشات مع أصدقائى القدامى، الثوار منهم والأدعياء، حول قضية الفن والحياة، أو الفن والشعب، أو الفن والناس، كنت أرفض دائما منطقهم، أكثرهم لم يكونوا يعرفون عن ماذا يتكلمون، لا عن الفن ولا عن الحياة ولا عن الشعب،
فى عز وحدتى، ودون تدخل من إرهاب فكرى أو تشويه تشنجى، أواجه المشكلة بشكل شخصى محض، المسائل الشخصية تموع حين تصبح عامة، والمسائل العامة تلح حين تصبح شخصية، متأكد أنا من زيف أغلبهم وادعائهم وإلا ما تركتـُهم، زيف بعضهم لا يعنى فساد دعوتهم، كنت دائما أرفض أن يوضع بجوار العمل الفنى أية علامة استفهام، الفن كيان قائم بذاته لذاته لا يحتاج إلى “لماذا” أو حتى “لمن” فماذا جرى لى بحيث لا أستطيع أن أرى اللوحة إلا فيها الأتوبيس وعليه الناس بعضهم فوق بعض؟ ما هى هذه العلاقة الجديدة التى تفرض نفسها على؟
” الفن لغة خاصة غير قابلة للترجمة، وعلى من يريد أن يتفاهم بها أن يتعلمها، هذا كل ما هناك”.
ما هذا؟
لابد أن أكمل اللوحة أولا، ربما احتاج الأمر أن يمضى عليها اثنان من موظفى الدرجة الرابعة الفنية قبل أن يسمح لى بدخول التاريخ، ربما أصبح الفن يحتاج إلى مكتب تنسيق بعد آن تزاحم المدعون على أبوابه، عجزت تماما عن إكمالها، أجلت المحاولة بضعة أيام، ثم بضعة أسابيع، بدأت أتأكد أن المسألة ليست وقفة عابرة، الديالوج الساخر المتصل يملأ عقلى، أنتقى من ألبوم الذكريات صور أصحابى القدامى الكذابين لأؤكد خواءهم وزيفهم، لا أستطيع أن أنكر صدق آخرين وكفاحهم.
تركتهم، هؤلاء وأولئك، حين تصورت أن السياسة مهرب خبيث، وهأنذا أكتشف أنه إذا كانوا هم قد هربوا جماعة فأنا هارب “صولو”، هل من وسيلة أخرى للتعبير عن هذه المشاعر الغامرة؟
غيرت مسيرتى قبل ذلك، ولا أعرف وسيلة أخرى حاليا غير اللفظ واللون، كل الناس كانت تتساءَل فى تعجب حين تركت الشعر إلى الرسم؟ هل أرجع إلى الألفاظ لعلها تكون أكثركفاءة وطيبة فتحمل مشاعرى إلى الناس فوق الأتوبيس؟ كانت الألفاظ صديقتى ورهن إشارتى، تطاوعنى حين أصالح بينها وأعيد تنظيمها راقصة أو متماوجة أو مشرعة مثل السيف فى وجه العدم واللامبالاة، حاولت جادا أن أمسك القلم وأن أدعو الألفاظ للرقص من جديد، استعصت علىّ هى الأخرى وكأنها تعاتبنى لأنى هجرتها إلى الريشة دون إنذار ، كل مرة كنت أهرب فيها من السجن إلى الخلاء، كنت أجرى هنا وهناك طويلا قبل أن أتبين أسوار الخلاء، السجن أرحب لأن أسواره محددة، إلا أنه سجن على أى حال، انتقلت من الحبس الانفرادى فى زنزانة المدرسة إلى فناء فى الجامعة، ثم إلى ملاعب الشعر حيث حققت ما يعرفه الجميع، ضاق بى اللفظ وضقت به، لم يعد يسعف خيالى، كنت أحس أن حروفه تنوء بما أحملها من مشاعر وأحاسيس، عجزت عن كتابة الشعر فتسللت من بين القضبان إلى حديقة الرسم الممتدة إلى غابة الدنيا الواسعة، دنيا الألوان والمساحات عامرة بالحركة والحرية، ظللت أؤلف بينها فى تناغم أرضانى بعض الوقت، أجد نفسى الآن فى وسط الصحراء الكبرى، الأخرى الكبرى، لا شجر ولا ماء، لا ألوان ولا وأصوات، خواء الاستغاثة الصامتة أصعب من كل صياح.
كيف أواصل سعيى؟
قبل ذلك وبعد ذلك:
إلى أين؟
-2-
شتان بين السمع والمعاينة، كنت قد قرأت له بعض ما كتب حتى حسبت أنى أعرفه، يكتب عن الناس الناس، ويهـِّون الآمر وكأن الجنون يمكن أن يكون فاتحة عهد آخر، كأنه رحلة اختيارية سعيدة، كنت شغوفا أن أعرف “كيف”؟ هاهى الفرصة تتيحها لى هواجسى التى لاترحم، الواقع الحى أبلغ من كل مقال، لا أنكر أنى أتمتع بالتجربة حتى النخاع، فرصة نادرة للنزهة داخل الإنسان دون استئذان، عادت إلىّ مشاعرى الفنية المتدفقة، لكنها تتجه إلى الداخل، تستوعب كل همسة أو إشارة، لتكن فترة استقبال وتـَمـَثـُّل من تجارب البشر وهم يتعرون فى غفلة من الزمان فى عيادة طبيب مغامر، هذا الرجل فنان كما قلت لغريب، يعيد صياغة الحياة بطريقة فنية بحتة، خطورة فنه أن مادته من لحم حى، أى لذة تجدها فى هذه اللعبة تجعلك تصبر عليها هذا الصبر، أكاد أعرفك يا عمنا أكثر من نفسك، ما أروعك وأنت تستخرج المشاعر من جوف أصحابها وكأنك تفرغ جراب الحاوى الذى تعرف محتوياته تماما، يا لهفى عليك حين تفشل مثلى، أعرف أنك فاشل لا محالة، نحن السابقون، إياك أن تقترب منى فنحن أدرى ببعض، دع وجودى الجسدى واستمرارى فى الحضور يطمئنانك من بعيد، أصفق لك فى السر بعد إخراج كل لقطة تقوم بها، أثنى على لوحاتك الحية بابتسامة خفية، يسر خاطرك حين تبلغك رسالتى فتواصل عملك وأنا أحسدك وأنتظر دورى.
سألنى غريب مرة “لماذا أحضر” ، أجبته “إنى لا أعرف ما أشكو منه” ولم أقل له السر الحقيقى، يستحيل أن أقول له أنى أشكو “مني” أو أنى أعجبت باللعبة وأريد مزيدا من النمر والمفاجآت، أنا فعلا لا أعرف مالى، ياليتك تعرف يا عمنا، يا أبى أنت وأمى، من بعيد لبعيد، يا ليت.
ياليتك تقول لى ما بى دون أن تدعى علاجى، سوف أظل المشاهد الأمين لك وللوحاتك وتماثيلك طالما أنت تتركنى فى حالى، إياك أن تتخطى وتحاول هذه اللعبة معى وإلا فقدتنى وأنت تعلم قيمة وجودى “هنالك”، أنا المتفرج المتميز لمحاولتك المستمرة، كلهم لهم أدوار يلعبونها بمهارة توجيهك يا رجل،…. إلا أنا، حتى غريب أتقنتَ استدراجه من خلال فيضان مشاعر صديقنا إبراهيم الطبيب، كم أحب النظر إلى ملامح هذا الإبراهيم، ضخم فطرىّ فى كل شئ، ملامحه، وعواطفه، وشعر صدره، وكفه المفلطحة وأصابعه المتزاحمة، لم أتوقع أبدا أن يتنازل غريب عن ذاته ولو ثانية واحدة، فما بالك بنصف ساعة ، هذه واحدة “لك”، حسدتـُك عليها، كدت أصفق حينذاك، حتى عبد السميع ظل مثل جبل الجليد حتى أغمدت فيه سيفك عن طريق كلمة من بسمة، انطلق صاروخ النار من داخل جبل الجليد وقذف البركان بالحمم فى كل مكان، لولا أنى اشتركت فى الإمساك به بيدى هاتين ما صدقـّت، أخافك أحيانا رغم إعجابى بك، وكثيرا ما حسدتك وحقدت عليك، أوْلى بى أن أرفضك وأرفض تلاعبك بالبشر فى سبيل إرضاء فنـك الذى تدعى أنه طب، أنا عجزت عن مثل هذا التلاعب بالكلمة واللون ولم تعجز أنت رغم أن مادتك من لحم الحى!، تستغرقك قدرتك الفنية فتتلاعب بمادتك الحية فى براعة ويسر، تتحدى عنادها وجمودها وتصنع بها الأفاعيل ولكنك لا تضيف إليها من عندك إلا ما بداخلها، “مـِنـُّه فـِيهْ
”أنا فعلا أحسدك، أحس برغبة فى قتلك حين تبلغ بك النشوة الفنية أن تنحت بأزميلك فى براعم غضة لم تتفتح بعد فترغمها على التفتح قسرا، كدت أصفعك وأنت تلغى ابتسامة “بسمة” الخجلة لتـظهر ما وراءها من حزن مـُـر، دعها يا أخى تنسى بعض الوقت، أتذكـَّر كيف هزمنى اللفظ واللون فى حين لا تهزمك لا البلادة ولا الخوف، أراقبك فى غيظ، هلاَّ علمتنى كيف أطوّع مادتى ثانية لأرجع إلى قلمى ومرسمى ثم نكون أصدقاء بعد ذلك؟ لك علىّ ألا أفشى سرك، سوف يظل الناس يحسبون أنك طبيب عالم، وسوف أكون تحت أمرك لأشاهد بعض مسرحياتك الحية، ساعدنى الآن حتى أعاود الإمساك بالقلم أو بالريشة ولن أنسى لك فضلك أبدا، النار المجنونة تحرقنى وأنا عاجز، أخشى ألا تتركنى إلا رمادا لا يصلح لشئ، أنا لا أصلح حتى لأتفه دور كومبارس فى لعبتك، نظراتك المغرية المتفائلة تكاد تقسم لى أن هذا ممكن، لماذا لا تفعل شيئا لى مثل الآخرين، هل تعرف أننى الأصعب؟ هل تريد إذلالى لأطلب أنا؟ أنت تعلم أنى سأموت قبل أن أفعلها، تتركنى الأسابيع الطوال أنتظر تعليقا منك أو ألتقط مفتاحا أعاود به فك الألغاز ولكنك أنانى بخيل، لا، لن أخضع لشروطك ولو انطبقت السماء على الأرض، فلألزم مقعدى هذا دون أن أُمَكـِّنـُك من أن أنطلق لحسابك، أريد أن أسألك لماذا كل هذا، وكيف؟ كيف تستمر وعملك محدود بمن يقبل ويتحمل؟ كيف تتحمل تكرار فشلك وهو معلن صريح؟ ، تظل برغم هذا وذاك تحاول بلا تراخ، أنا أحسدك.
أنا توقفت حين سألت نفسى”لماذا”؟ و”لمن”، أمـَا سألت نفسك أنت أيضا “لماذا” أو “لمن” ، كيف نجحت أن تهرب من هذه المواجهة، كدت أنفجر ضحكا لما سمعتك تجيب على “ملكة” حين سألتك “لماذا” “فقلت: لأكسب نقودا، ما هذا الكلام يا رجل؟ هل هذا هو الطريق لكسب النقود؟ إصرارك يجعلك تعتقد أنك تعمل شيئا ذا بال، ليكن، هذا ما منحنى هذه الفرصة على الأقل للفرجة على مسرح حى، شكرا، تعيش فى أتيليه البشر العرايا والمعوّقين، تنحت فيهم تجاعيد الألم على وجوه ملساء من الخوف والاختباء فى البلادة، أزميلك يحفر فى الوجوه وأنت تتقن تنسيق نسب التضاريس فى الجلود الميته، أكاد ألمحك وأنت تفرح حين تراها تدمى بالرغم من موتها بفعل أزميلك الخشن، أنت لا تبالى وتستمر فى جريمتك “الفنية” القذرة لتفجر من قطرات الدم المتناثرة طاقة هوجاء، لست متأكدا إن كنت تدرى أو لا تدرى ماذا يفعل بها من تفجرت فيه دون استعداد، تظل الطاقة تدفعهم لمواصلة الرقص على المسرح، فقط على المسرح، لم أفهم معنى رقصة الطير المذبوح إلا فى عيادتك، أعترف أننى لم أرصد فيك قسوة للقسوة، رأيتك وأنت تكاد تموت ألما حين تهمد حركة الطائر بعد ذبحه فيصمت والدماء تتناثر من حوله فى كل مكان، رأيتك تحاول أن تجمع أشلاء الطير المذبوح لتنفخ فيها من روح أحلامك، ماأبشع هذا وأروعه.
يقول غريب عنك أنك نصاب مجنون، حاستى الفنية تعجب بك على شرط ألا تقترب منى، الخيوط بين أصابعك والمسرح بلا نص، والهدف غامض، وأنا كل جمهورك، أحيانا، بل كثيرا أضبطه يتفرج مثلى، غريب، أنت لا تكف عن المحاولة والسعى إلى لا شئ، الشئ الذى تسعى إليه هو ما يحافظ على استمرارك ، لكنك لا تعرفه، فكرت أحيانا أن هذا هو معنى حياتك، ولكن هل فكرت أنت ماذا تفعل بنا لتحيا؟ ربما عذرك أمام نفسك هو أنهم يجيئون بأنفسهم، بمحض اختيارهم، هم يتحملون بذلك مسئوليتهم، لا تنس أنك مازلت تكتب على لافتتك لفظ “عيادة” لا “أتيليه” ولا “مسرح تجريبي”، أنت تشارك فى الخدعة، فلا توهم نفسك أنهم أحرار فى اختيارهم، جاؤوك على أنك طبيب فاعـْـلـِــْن لهم حقيقة موقفك من باب الأمانة إن كنت شجاعا، أنت أغرب وأجرم وأعظم فنان سرى، لا تتحدث من فضلك بكل هذا اليقين عن الاختيار إلا فى غيابى، نضحك على بعض؟ اختيار ماذا يا عزيزى؟ أنا لا أستطيع وقف الإعجاب بك فى كل حال، لا أعرف أين سيذهب إعجابى هذا لو حاولت الاقتراب منى مثلما تفعل مع الآخرين؟ كل ما يخطر لى الآن هو أنى سأخدعك أول مرة، ثم أنصرف بهدوء إلى غير رجعه حين أشك أننى لم أخدعك بدرجة كافية، أو أنك لم تهمد بدرجة كافية، أحاور نفسىى:
– من أنت؟
= أنا أنت.
- لن تستطيع بدون موافقتى.
= سوف أفعلها بعد هذه الإجازة الطويلة،
- جرِّب.
قبلت التحدى، سوف أعود اليوم وأبدأ فى إكمال اللوحة بلا إبطاء، ما هذا الذى يجرى داخلى؟ ليس هاتفا مثل الهواتف العابرة، هو كيان قائم كما يحاول هذا الطبيب أن يصوره ويظهره ويشرحه ويعيد ويزيد حتى يحدده، لو علم أنه جاهز عندى بهذا الحضور لاستعملنى ليبين للآخرين كيف يبحثون فى داخلهم عن مثل ما عندى، أنا متأكد أنه يعرف أنى جاهز، لكنه لا يتعجل لأنه يعرف أنه لن يجدنى / يجدنا بعد أول جولة، أخشى أن أتورط فى المشاركة عند أول إعلان عما بداخلى، لذا فأنا حريص على الفـُرْجة طول الوقت، تعلمت مما يجرى ألا أخاف الحديث مع داخلى فلا أسارع بتسمية حضوره فكرا، أستطيع أن أسمح وأشطح وأقبل التحدى دون أن أتهم بالجنون، قد أتعلم كيف أصلح ذات بينى، لو حدث، سوف أنصرف من الباب الخلفى فى أمان ولا أحد رأى، ولا أحد درى.
- بعيد عن شنبك كل هذا ما لم تشركنى وتأخذ رأيى.
= ملعون أبوك.
-3-
حاولت فى تحد خطير، عجزت تماما، ظلت اللوحة ناقصة ميتة مشوشة، أمسكت بالقلم أستعيد به أصدقائى القدامى من الألفاظ، أصالحها، أتوسل إليها، أبى القلم وراح يخلط بينها فصنع طبقا من السلطة المبعثرة على ظهر ظرف خطاب وصلنى من الخارج ولم أفتحه، خجلت من نفسى، لعل الذين يكتبون الشعر هذه الأيام يفعلون مثلما فعلت الآن، لو اضطلع أحدهم على ما فعلت لتصور أننى أخلط الشعر بالنحت بالتصوير، العجز له لغته الخاصة فلماذا يأخذونه مأخذ الجد.
لم تسعفنى الفرشاة، وتوقف فى حلق وعيى الشعر، ليكن، سوف أكتب رواية، سوف أكتب ما أعيشه الآن، هذه رواية تستأهل، مادتها جاهزة حاضرة وكل تفاصيلها بين يدى، بدأت فعلا ثلاثة أسطر بالتمام، ثـَقـُلَ القلم فى يدى وكأنه بقايا لغم من رصاص قبيح، نظرت إلى صفحتى البيضاء (لم تكن مسطرة بالصدفة) فشعرت بأنها صحرائى القاحلة، وأنها حريتى المخادِعة، وأنها سجنى السرى، وأنها طريقى إلى المطلق معا.
= المطلق؟ هل حصلت عليه فعلا يا “مختار”؟
- نعم، بلا أدنى شك…. والعقبى لك يا كمال، أنت أقربهم إلى.
= أتأكد الآن من عبث الالتزام وخداعه.
- أنا حر تماما.
= بلا شكل ولا أبعاد ولا وظيفة، ولا هدف؟!.
- تلقائيتى تعطينى ملامحى.
= من أين تعيش؟
- عندى ما يكفينى.
= وثورتك الداخلية، أين تذهب نارها؟
- ماذا؟!!
= ثورتك الداخلية؟
- الثورة ضد ماذا؟
= ضد الأسوار، والعوائق، والخوف والوحدة.
- ألغيت الأسوار والعوائق، بلا خوف ولا وحدة.
= وماذا تفعل بالألم؟
- إذا لم تعد تحتاج لشئ، فلا ألم ولا ثورة.
= ألغيتَ احتياجك يا مختار؟
- بل استغنيتُ عنه.
= يا سبحان الله.
- هذا ما حدث.
= ولكنك ترسل إشعاعاتك الجنسية تثيرهن بلا تمييز.
- هذا هو اختيارهن، وهذه هى حريتى.
= وهو احتياجك أيضا.
- هو وجودى التلقائى بلا تحفظات.
= ثم ماذا؟
- لا توجد فى حياتى “ثـُمَّ”، كما لا يوجد “مَاذَا”؟
= يا نهار أسود.
- هذا أنا.
= وهل يمكن تعميم ذلك على كل الناس؟
- لا يهمنى إلا نفسى.
= ولماذا أنت هنا؟
- أتأكد من طريقى.
= إذن، أنت تشك فيه.
- لن أغيـِّره حتى ولو كان هو الهلاك نفسه.
= لم تنكر أنك تشك فيه؟
- ليكن.
= إحذر يا مختار.
- لم أصل إلى هذا بالساهل.
لا أصدق أيا من هذا، لو كان الأمر كذلك فلماذا يحضرمختار؟ شئ ما يطل من داخله يقول لا تصدقنى فلا حرية بلا قيود؟ أنهى مختار القضية قبل أن تبدأ، صدق أنه تخلى عن كل شئ، يعلن إقباله على الحياة بلا شروط.
”غريب” يعلن إدباره عنها بلا أمل، الاثنان يشبهان بعضهما البعض بشكل ما، تـَـجـَـنـَّـبا المعركة بذكاء منطقى، خيبتى أننى يئست من الفن وفى نفس الوقت لم أحصل على الحرية.
أشاهد صراع ملكة وغالى وأشترك فيه أحيانا بحق الزمالة القديمة، أتعجب من العمى الكامل تحت ستار الثورية أو الإخلاص الزوجى أيهما أكذب، لا شئ يغرى بحل بديل، لماذا جاءا إلى هنا دون غيرهما، هل ليؤكدان منطقهما الهارب؟ لماذا لم يأت هنا ثوار حقيقيون يقنعونى بإمكانية الحياة بالصورة التى يلوحون بها للناس؟ أعرف الرد فهم هناك فى الصفوف الأمامية لا وقت لديهم للمرض أو لغيره، نحن الذين نقبع فى الصفوف الخلفيه بعد أن تركنا، أو قفزنا من قطارالثورة، نحن لا نعرف شيئا عن الصفوف الأمامية وإلى أى مدى وصل بهم القطار، هل يوجد أحد فى المقدمة فعلا أم أن القطار يواصل السير دون ركاب وربما دون سائق بعد أن قفز منه الجميع الواحد تلو الآخر دون أن يعرف أين ولماذا قفز الآخرون؟ أحسن شئ أننى لا أعرف جوابا.
وجودكما بالذات يا ملكة ويا غالى يشككنى أنه ما زال فى القطار مـَـنْ صـَـبـَـرَ على ما كنا نحلم به، قفزت بعيدا حين شككت فى يقظة السائق وبرمجة الرحلة، تصورت أننى سوف أنشغل بالقلم والريشة لألحق بكم فى القطار التالى، لم يأت قطار تال وانتهيت إلى حيث التقيتكما، يا ليتنى ما التقيتكما، كان أفضل لى اليأس التام أو الموت الزؤام مثل “غريب” وأكثر، حين تختلط مرارة اليأس بخدر الاستسلام يتخلق ترياق يشفى أمراض الثورة واضطرابات المستقبل.أنت أنـْـصـَـحـُـنا يا غريب، تواظب على تناول جرعات وحدتك الـمـــرة بانتظام حتى نسيت مرارتها ، لا يعادل نصاحتك إلا مخدرات ”مختار” اللذية، لست متأكدا من مدة صلاحية دواء كل منكما، رؤيتى أحدُّ من كل المخدرات، وثورتى هى التى أصدرت قرار “وقفى عن العمل”.
حالة مستعصية باختيارى.
على الرغم من كل شئ فإن هذه المسرحية الحية مازالت تبهرنى، لو قدر لى فى يوم من الأيام أن أكتب، فسوف أكتبها بالتفصيل، يخطر على بالى أحيانا أن أحضر جهاز تسجيل أحتفظ عليه بكل ما يجرى، أكتفى بالتسجيل الدائر داخلى، المفاجآت رائعة تهز كيانى وتزودنى بمادة لا مثيل لها، لم أكن أتصور أن غريبا المتحفز الحذر يمكن أن يسمح لنفسه بهذا الاستسلام ولو جزءا من لحظة، ولكنه استطاع – بملاحقة إبراهيم وفى حضن المجموعة – أن يتخلى عن يأسه وعدمه وسخريته، استطاع أو اضـّطـُر النتيجة واحدة، كان رائعا مرعبا ما حدث، كأن الدنيا يمكن أن تتغير فى لحظات، لماذا رجع غريب بعد كل هذا التفجر المضىء أكثر يأسا وشكّا وابتعادا؟ لم يبق له من التجربة إلا نظراته الملهوفة إلى إبراهيم، وإلىّ أحيانا،
غريب هو الذى حاول أن يفتح معى حديثا يشككنى به فيما يجرى ولم يدر أنى أكثر منه توجسا، وأن رفضى أكبر من رفضه ألف مرة؟ لم أفهمه حين تكلم معى عن إحساسه الفج الذى لا يميز رغم يأسه وضياعه، لم ألتقط موضوعه، كان غامضا فاستوضحته حتى دعانى إلى بيته.
أفكر جادا فى زيارته.
****
ونبدأ الأسبوع القادم في استكمال تقديم الفصل السادس “كمال نعمان”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “مدرسة العراة” الجزء الثانى من “ثلاثية المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1977، الطبعة الثانية 2005، الطبعة الثالثة 2019) والرواية متاحة فى مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية – المقطم – القاهرة.