الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الخامس “الفصل المفقود” (2) أوراق قديمة، وأوراق مبعثرة (5)

ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الخامس “الفصل المفقود” (2) أوراق قديمة، وأوراق مبعثرة (5)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 8-1-2025

السنة الثامنة عشر 

العدد: 6339 

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الثانى: “الموت والحنين” [1]

الفصل الخامس

الفصل المفقود: (2)

أوراق قديمة، وأوراق مبعثرة (5)

من مذكرات 3 يوليو 1950

معذرة لقد نسيت أن أعلق على الحرب الكورية!!!

20 فبراير 1954

قال والدى ونحن نتكلم فى مقدار نصيب الإنسان من الجهد ومعنى الاعتماد على اللّه:

يا إبنى إنى حين أقول أسلمت وجهى لله كل صلاة لا أقولها وأستسلم،

وإنما أقولها لأقبل النتائج، و أتعلّم.

(عود على بدء) 27 / 8 / 1986

ديكى ديكى، أنت صديقى أنت رفيق البيت، رفيقى

صِح فى الدار، أيقظ جارى، واشرب ماءً من إبريقى“.

هنا فى لبتوكاريا كنت أنا الجار الذى يوقظه الديك، وأنا الصديق معا،

صديق عن بـُعد كالعادة، حتى مع هذا الديك أصادقه عن بعد!!!

8 اغسطس 1987

………………

……………..

في 20 فبراير 1954

قال والدى ونحن نتكلم فى مقدار نصيب الإنسان من الجهد ومعنى الاعتماد على اللّه:

يا إبنى إنى حين أقول أسلمت وجهى لله كل صلاة لا أقولها وأستسلم، وإنما أقولها لأقبل النتائج وأتعلّم. أنظر إلىّ مثلا وإلى ما قدرتُ لكم، كان نهجى فى تربيتكم أن أتبع ما تعلمته فى علم النفس فى دار العلوم، وهو  أن أحقق المبدأ القائل “إصنع النموذج الأول، المثل الأعلى” يأتى الباقى سهلا، فأردت أن أصنع النموذج الذى تصورته فى أخيك أحمد، واتبعت كل الطرق التى تعلمتها وحسبتها مفيدة لتتبعوه أنتم الأصغر، فتكونوا على مثاله، أردت أن أربّيكم من “فوق لتحت”، ولكن الله أرادالعكس، وإذا بى أجد المثال مقلوباوأنه “من تحت لفوق”.

بدا لى أنه كان يمدحنى، هو فعلا لم يقترب منى مثلما فعل مع أخى الأكبر، حتى أننا كنا  إذا أخطأنا جميعا، كان يعاقبه نيابة عنا، وكنا نحسب أن أخى الأكبر بعد أن يأخذ نصيبه من الضرب سوف ينادينا الواحد تلو الآخر لنأخذ ما تيسّر، لكنه كثيرا ما كان يكتفى بضربه هو، هل كان ينهك؟ هل كان يراجع نفسه؟ هل كان يلاحظ أن ضرب أخى لم يظهر على وجهه تعلما وردعا، فيكتفى بهذا، ظل والدى ن مشغولا بمشروعه هذا فنفذت بجلدى، لكنى تساءلت: إلى أى مدى يفهمنا والدى، وبأى مقياس يقيسنا؟ أنا الأصغر. وهو يرى أننى الأفضل،  ليت شعرى هل هذا الرجل الممتاز يكون سطحيا فى حكمه مثل عامة الناس، .. .. . الذى أدريه يقينا أننى لست كما يظن، بل ولا أنا قريب مما يظن،

 26 يونيو سنة 2000 (من الذاكرة الآن)

فى يوم ما. شتاء سنة 1954

 نادى والدى أخى الأوسط وهو مكشر عن أنيابه، وسأله أين يذهب أخوك ليلا، وكنت قد اعتدت أن أقفز من الشرفة، كان منزلنا فى الدور الأول بشارع قمبيز بمصر الجديدة لأذهب إلى السينما، وقد فعلتها فى تلك الليلة، فحسبت أنه قد علم بذلك أو لاحظ ذلك رحت أتصنّت لكن صوتهما  كان قد بعُد عنى، ولما عاد أخى الأوسط (أكبر منى بسنتين فحسب) قال لى إن “بابا” يشك فيك، ويقول إنه سمعك تحلم وتغنى”هات الإزازة وتعال لاعبنى، والمزة طازة، والحال عاجبنى” وكنت أيامها لا أعرف الزجاجة، من الكوب، من القلة، لكننى تذكرت أن هذه الأغنية كانت فى الفيلم الذى شاهدته متسللا، وفرحت أنه لم يعرف حكاية القفز من الشرفة هذه، وتجرأت يومها (أعتقد أنى كنت فى التاسعة عشرة سنة أولى طب)  وذهبت بكل مغامرة مستعبطا أسأله (أسأل والدى) : هل ما يقوله الإنسان وهو نائم، وهو يحلم بصوت مرتفع يعنى ما يفعله فعلا فى يقظته، فعلمَ بأن أخى قد أخبرنى بحوارهما، فانقلبت سحنته وأشاح بوجه وأجاب بالإيجاب، فقلت له “حتى حضرتك يا بابا؟ “، وهنا التفت إلىّ متجهما وسألنى، ماذا تقول يا ولد؟ فأعدت تساؤلى، فسكت قليلا ثم صاح بى ناهرا أن أنصرف فورا. لا أذكر إن كان وصفنى بالوقاحة أم بقلة الأدب، أم اكتفى بصرفى فقط، والواقع أنى كنت سمعت منه سبابا قبيحا وهو نائم، سبابا لم أعتده منه يوجهه إلى شخصٍ ما، كان يصيح يا بن المـ.. .. . ، هذا كل ما فى الأمر، ولعله انتبه من تساؤلى إلى احتمال أكثـر من ذلك، فطردنى ولم يفتح الموضوع ثانية.

 قفزة أكثر من ربع قرن  بعد هذ التاريخ  وجدت  أوراقا أخرى أكثر تناثرا، قرأت:

 الأربعاء 25 / 11  /1987

كنت أعدو مع مرضاى أول أمس، فوق هضبة المقطم، قبل طلوع الشمس، وظل هذا المصرى الصعيدى ينظر لنا من بعيد، ونحن نردد “حمدا لله” “حامدا لله” (نرددها بتنغيم غنائى : حامْدّا” للاااه، حامْدّا لله)، وبعد أن عبرناه لا حظت أنه ابتسم جدا، ثم التفت إلى الناحية الأخرى، وراح يعدو مبتعدا وهو يردد نفس ما كنا نردده ( حامْدّا” للاااه، حامْدّا لله). ولا يلتفت إلينا إلا بعد كل فترة، راح يبتعد وهو يعدو، وكأنه يقترب جدا. تصورتُ أنه لا ينظر إلينا خجلاً ويردنا ألا نغيب عن ناظرية فهو من وجودنا رغم ابتعاده، تماما مثل الطفل الذى يتأكد من عدم غيبة والدته بلعبة تغطية رأسه بالملاءة. هؤلاء المصريون، ما أبسطهم وأرقهم وأطيبهم، وأيضا ما أخوفهم ، وأسطحهم، وأسلسهم.  قريبا من هذا الموقف سجّلت يوم:

 الجمعة 27 / 11 / 1987

كنا قد قابلناهم فى مرة سابقة ونحن نعدو (مرضاىَ و أنا) فى نفس الميعاد قبل طلوع الشمس، كانوا خمسة من الصعايدة الذين بنوا وما زالوا يبنون مصر وغير مصر، ألقينا تحية الصباح فلم يردوا حذرا، أو لم يصدقوا أننا نعنى ما فعلنا، وكنا نتناقش مازحين فى موضوع شارب أحد المرضى الذى أطلقه مؤخرا، وهل الأفضل أن يهذبه أم يحلقه، وكان هو يبادلنا المزاح، وزيادة فى ذلك اقترح أن نسأل هؤلاء العمال الصعايدة الخمسة رأيهم فى المسألة كأنهم محلفون فى قضية تعرض فى محكمة بريطانية !!!، ولم نفعل طبعا احتراما لهم، واكتفينا بتحيتهم ونحن نعدو، إلا أنهم لم يردوا، فاستدرنا نحوهم وقد قررنا أن نصر على إلقاء السلام من جديد، حتى يردوا لكنهم تصوروا، دون أى مبرر واضح، أننا نريد بهم شرا،  أخذو ذيلهم فى أسنانهم (حقيقة لامجازا)  وانطلقوا عدوا. أصبحت مطاردة فعلاً.

أىُّ قهر نعيشه ياسادة ياكرام يجعلنا نجرى من بعض هكذا دون أى ذنب اقترفناه؟

كنت قد قابلت من أىام صديقا أستاذا ترك القصر العينى، ومازال يحاول أن يـفَحِّـر فى نفسه، مثلى، وربما لذلك ابتعدنا عن بعضنا جدا، لنظل قريبين بشكل ما، سألنى عما أجلسنى هكذا على الأريكة الخشبية وسط المرضى وبجوارى إحدى الطبيبات، فذكرت له أننى أشرِف على رسالتها عن الاكتئاب، فقال لها مازحا، يعنى تبحثين فى حالتى، قلت له: ألن تكف عن تسمية فصامك باسم اكتئاب، فقال لقد انصرف عنى الفصام ليحل محله هذا الغم الأزلى،  ومضى الحوار هزلا كالجد، أو جدا كالهزل، لأتهمه، مازحا بجد يعرفه، أن مرضه ما زال فصاما، وأن الاكتئاب هو الاسم الحركى لما به، أو هو على أحسن الفروض اسم التدليل، أوربما لمنع الحسد.

ضحكنا، وتذكرنا، وتذاكرنا أيام كنا نحاول أن نحتفظ بالأمل واقعا حيا، وأصررت أننى سوف أظل كذلك آمِلا حتى لو لم يبق أحد سواى، فنبهنى أن حالتى أصبحت مستعصية، وأشار إلى أن كل شئ قد تغيّر، فاستعبطتُ متسائلا : إلى أىن، وقال إلى أسوأ، ورفضت التمادى فى الترحم على الماضى كما يفعل النعّابون الكهول أمثالنا.

قال لى  زميلى هذا إنه لا يقول ذلك لـلشباب، لكنه يـُسِرّ به إلىّ لأنه يعرف أنى أعرفه، وأضاف: إنى حين أحافظ على آمل شاب جاء يسألنى فى أمر ما أُصاب بالغم والهم فور ذهابه،

قلت له إن تفسير ذلك أحد أمرين: فإما أنه يشفق على هذا الشاب من متطلبات تحقيق الأمل، وإما أنه يتحسّر على نفسه حين كان شابا آمِلا يوما ما،

قم أضفت، وكأنى أحدّث نفسى أو أنبهها:

 إنى قررت ألا أخدع الشباب إلا وأنا أخدع نفسى معهم،

الخداع الواعى وسيلة رائعة للحفاظ على الأمل.

 17 سبتمبر 2000

هذا الصباح كان المرور الكبير فى مستشفِى دار المقطم مع زملائى الأصغر، كنت أغلى مما يجرى فى القدس وغير القدس (انتفاضة القدس!!) سألت المريض الذى كنا نفحصه عما يجرى هذه الأيام، فذكر إغلاق مطارغزة،  ومنع الطائرات من الهبوط، وإغلاق معبر رفح، حاولت بكل طريقة أن أستدرجه  لأن يذكر جرح مواطن، أو مقتل طفل، أو استشهاد شاب، فلم يستجب، وحين ألححت عليه ماذا يسمع، قال أغنية هانى شاكر، (وهى أغنية حديثة بمناسبة اغتيال الطفل محمد الدرة) . مضيت أسأله ما الذى استرعى انتباهه: الأغنية أم ما تحكى عنه، أى الطفل القتيل، أكد أنها الأغنية وليس الطفل. هذا المريض يمثل موقفا يمكن أن نجده عندأغلبنا ،خصوصا المثقفين والمتحدثين جدا. امتلأت غيظا ورحت أكرر لزملائى أنه لا يمكن علاج مريض أو الانتصار على عدو إلا بتنشيط وعى فاعل طول الوقت، وأن تعداد الأمة وقوتها ليس بعدد أفرادها، ولا بعدد أغانيها، ولا بندوات مثقفيها، ولا بكمّ معلوماتها، وإنما هو بجماع الوعى الفاعل.

أدركت الآن وأنا أصحح التجربة الأخيرة قبل الطبع أنى مازلت عند عهدى ، ألاَّ أخدع الشباب إلا وأنا أخدع نفسى !!!  فتماديت فى خداع نفسى !! (نوفمبر 2000)

فى أوراق أخرى متوسطة القِدمْ

………………

………………

ونواصل الأسبوع القادم بقية الفصل الخامس: (الفصل المفقود: 2) “أوراق قديمة، وأوراق مبعثرة” (6)

ـــــــــــــــــــــــــ

[1] –  ترحالات يحيى الرخاوى: (2000) وتتضمن الترحالات: (الترحال الأول: “الناس والطريق”) و(الترحال الثانى: “الموت والحنين”) و(الترحال الثالث: “ذكر ما لا ينقال”) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والترحالات موجودة فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة  الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *