نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 18-12-2024
السنة الثامنة عشر
العدد: 6318
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين”([1])
الفصل الخامس
الفصل المفقود: (2)
(الفصل الحادى عشر: من الترحالات الثلاثة) (2)
أوراق قديمة، وأوراق مبعثرة
من مذكرات 3 يوليو 1950
معذرة لقد نسيت أن أعلق على الحرب الكورية!!!
20 فبراير 1954
قال والدى ونحن نتكلم فى مقدار نصيب الإنسان من الجهد ومعنى الاعتماد على اللّه:
يا إبنى إنى حين أقول أسلمت وجهى لله كل صلاة لا أقولها وأستسلم،
وإنما أقولها لأقبل النتائج، و أتعلّم.
(عود على بدء) 27 / 8 / 1986
“ديكى ديكى، أنت صديقى أنت رفيق البيت، رفيقى
صِح فى الدار، أيقظ جارى، واشرب ماءً من إبريقى“.
هنا فى لبتوكاريا كنت أنا الجار الذى يوقظه الديك، وأنا الصديق معا،
صديق عن بـُعد كالعادة، حتى مع هذا الديك أصادقه عن بعد!!!
8 اغسطس 1987
………….
…………
أرى أن أذكر حادثا مؤلما غامضا تراودنى آثاره بألم دفين: هو هجومى القاسى على أمى منذ عام، فى محاولة تثنيتها عن القيام بلعبة كاذبة وقاسية تحت وهم تكفير عن ذنب خفى تجاه خالتى المتوفاه (أمى الأخرى)، وقد أعود إلى تفاصيل ذلك مرة أخرى وقد لا أعود.
المقطم فى 9/6/2000
هذا ما كان مكتوبا هكذا، ولم أعد أبدا: ولم أكتب شيئآ عن ذلك، ولا أذكر الآن ماذا فعلتْ أمى بذكرى خالتى مما جعلنى أكتب هذا الكلام، ولكن الذى أذكره تماما، وذكرته سالفا أن لى أمَّـين، خالتى وأمى، وأن أمى الأكثر مالا وولدا كانت تحقد على خالتى المطلقة عديمة الولد وحيدة الإقامة محدودة الرزق جدا جدا، لماذا؟ ما هذا؟ كيف هذا؟ لم أكتب شيئآ عن كل ذلك رحمهما الله رحمة واسعة، وسامَحَنى إن كنت أسأت إلى أىهما. (أنظر فصل “أمى” فى الترحال الثالث إن شئت”)
وجدت أيضا مكتوبا فى
1987/8/27 الساعة الخامسة صباحاً
اليوم أسافر إلى اليونان مع بعض أولادى وأصدقائى، قررتُ أن أكتفى بأخذ هذه الأوراق الخالية (المذكرات) معى لأعفى نفسى من حمل أثقال الكتب الأخرى، ولألزم نفسى بالكتابة دو ن القراءة هناك، ولكنى فى آخر لحظة حشرت عدة كتب داخل الملابس وكأنى أهرّبها من شخص ما، كتبٍ كنت أجّلت قراءتها، ومن بينها رواية جبرا إبراهيم جبرا “البحث عن وليد مسعود”، لا فائدة، لا أتغير. الرحلة قصيرة، وهى هدية زواج ابنى الأكبر الذى لم يتمكن من اصطحابنا فى رحلتنا الأولى بسبب التجنيد،
إبنى هذا ـ محمد ـ هو الأقرب، ومع ذلك أتبين كيف تتسع المسافة بيننا باضطراد، لا أعرف لماذا يتجنب كتبة السيرة الذاتية الحديث عن أبنائهم فى حين يتحدثون عن طفولتهم وإخوتهم ووالديهم بإسهاب لا حدود له، أكتشف الآن أن طه حسين ـ على حد علمى ـ لم يذكر شيئاً ذا بال بشأن أولاده أو علاقته بهم، أليس الأولاد هم صناعتنا نحن، فهم أدل على ما هو نحن، فى حين أننا صناعة أهلنا؟ سيرتنا الأولى أؤلى أن تكون سيرة أهلنا.
المسافة بينى وبين إبنى الأصغر، مصطفى، ظاهرة منذ البداية، منذ لاحظت عليه ميلا للرفاهية أو الفوقية، فاضطررتـُـه أن يذهب معى إلى مزرعة صغيرة أنشأتها بالقرب من الجيزة وأرغمته (وهو بعد فى الثالثة عشرة على ما أذكر) أن يمسك الفأس ويعمل مع الفلاحين معى، أو بدونى، لا أذكر، حتى يعرف معنى العمل، والعرق، والفلاحة، والفلاح، والوقت، والطين، والطبيعة، والناس. ومنذ ذلك الحين ارتفع حاجزبينى وبينه مع أننى أتصوّر أن هذه الخبرة حوّلت ما رفضتـُـه فيه إلى إبداع رائع فى مجالات لا تخطر على بال، مجالات متنوعة لست أدرى كيف اكتسبها كلها مرة واحدة، من أول التصميم المعمارى حتى فن الترتيب المنزلى الداخلى (الديكور)، حتى الطبيخ،حتى تصميم موديلات جديدة لأثواب نسائىة لأختيه وأمه وقريباته بما فى ذلك :”فساتين الزفاف”.
لكنّه مع احتفاظه بكل هذا أصبح طبيبا نفسيا. ولا أدرى إن كان سيستمرأم لا.
“أنا مالى” أنا بكل هذا؟
2000/7/23
ثم تزوج إبنى الأكبر ـ محمد ـ من بنت رجل طيّب، لكنّه يحب الأفراح والرسميات، وله معارف من علية القوم بلا حصر هو المرحوم أ.د. حلمى نمر، فكان الزفاف فى فندق من إياهم، ورفضت هذا النوع من الاحتفال من حيث المبدأ، لكننى لم أعترض حتى أحول دون ذلك. فقط عملت لهما زفافا أسبق فى مزرعة لى قريبة من القاهرة دعوت إليه كل أصدقائى الفلاحين وغير الفلاحين، وحين جاءت مناسبة هدية الزواج أو “النقوط”، فكرت فى أن تكون هديتى لهما هى أن أصحبهما فى رحلة إلى الخارج، أعوض بها غياب ابنى هذا عن صحبتنا فى الرحلة الأولى (كان مجندا آنذاك كما ذكرت). ثم لعلنى أؤكد بها ما أنتمى إليه من”ناس وطريق”، وأيضا لعلى أتعرف على أولادى فى مرحلة أخرى بعد أن بدأوا مسيرة الاستقلال الفعلى،وهل أنا نجحت فى التعرف على من اصطحبنى منهم فى الرحلة السابقة ، هم الذىن تعرّفوا علىّ.
وجدت مكتوبا فى الأوراق التى أهدتها لى “مى”:
الجمعة 28 / 8 / 1987
لوكاندة الشاطئ اليونانى Greek Cost Hotel
ضاحية فولياجمينى Vouliagmeni تقع بعد ضاحية جليفادا فى اتجاه الشمال الشرقى من أثينا (فى الأغلب) فى الطريق إلى سونيو، كنت قد تعرفت عليها من رحلتى مع زوجتى عند عودتنا من تركيا.
ابنة صاحب الفندق اسمها كاترينا، تبدو كأنها نمرة هائجة بشكل ما، لم تكن مفرطة الحركة أو قافزة الخطى، أتذكرتشبيهاتى للمرأة المهرة فى مخيم “ألبادورو”، بالقرب من فينسيا، والمرأة البومة أعلى بوليو بالقرب من نيس، والمرأة القطة (العانس) فى فيل نيف بين نيس وكان، ما الحكاية / ما تفسير ذلك؟ ولماذا راعيات الفنادق بالذات هن هكذا؟ هكذا ماذا؟
كانت كاترينا هذه متحفزة تكاد تثب عليك فى أنوثة فائرة واثقة. استقبلت تهيجها من نظراتها المقتحمة، وقوامها الفاره، واحمرارها الملتهب، هياجٌ يخبرك بأن النار ليست دائما عذابا للجاحدين، كاترينا هذه أقرب إلى النمِرة المختالة المتحفزة للقفزة الرشيقة العملاقة معا، ومع ذلك، أو ربما لذلك، لم أستطع البقاء فى فندق أبيها إلا لليلة واحدة، ثم انتقلنا تحت زعم السفر المفاجئ إلى فندق مجاور يبعد عن الشاطئ قليلا لكنّه على ربوة أجمل،
فى هذا الفندق الجديد قابلتنا المرأة البطة: فرنسية الجنسية (هى التى تقول)، من أم يونانية ووالد فرنسى، وجدة لبنانية، ونشأة اسكندرانية، وأبناؤها ـ على حد قولها أيضا ـ متزوجون ويعيشون فى فرنسا، حكت لى بعربية مصرية ليس فيها حتى اللكنة اليونانية أنها ولدت فى الاسكندرية وتربت حتى سن السابعة عشرة هناك، وأنها تعيش على أمل أن ترجع. وأقول لها “لماذا؟ ” نحن نأتى وأنتم تريدون الرجوع؟ فتقول : أنا لا أحب “الجريك”.
لم أفرح بكلامها المصرى الطليق، ولم أرفض شهادتها وعواطفها.
أنا؟ ما ذا بى؟ ما ذا بى أنا؟ أريد أن أشعر أنى”قريب و غريب معا “أننى “حـر ومطلوب فى نفس الوقت” (وجدتنى قد كتبت هاتين العبارتين فى الأوراق بالإنجليزية لست أدرى لماذا: Free and Wanted together ، A near stranger).
أريد أن أنطلق بعيدا عنهم دون أن ينسونى،
أن أقترب مع ضمان حقى فى الابتعاد فى أى وقت.
وهم؟ من أين يأتى لهم الأمان تجاهى ما دمتُ كذلك؟
أم أننى أريد أن أتمتع بحق لا يحق لهم.
من هم؟ هل يحقق لى السفــر تلك العلاقة المتصلة المنفصلة فى آن؟
أعتقد أن فى السفر شيئا من ذلك.
ثم يبدو أننى على سفر دائم، مسافر أنا فى الزمان، فى الوقت، فى اللحظة، فى الـ “لا لحظة”. فلماذا الإصرار على تفعيل ذلك واقعا على الطريق بين الناس؟
السفر هو تجسيد حى “من”<=>”إلى”، وبالعكس،
هل هو يوضح لى أكثر فأكثر علاقتى بتلك الحركة الحتمية “الذاهبة<=> الآيبة” أبدا؟
تلك الحركة التى تحافظ على قدرتى على الاستمرار والتجدد؟
لا أستطيع أن أحيا إلا على حافة المجهول الواعد.
(هل هذا ما التقطه سعد الله ونوس فى طقوس الإشارات والتحولات؟ يوليو 2000)
إن من يحيا على يقين مطلق ساكن: ليس حيا.
والذى يتحرك إلى معلوم، يكاد لا يتحرك.
أما الذى يتحرك إلى يقينٍ يتحرّك وجوده وينبض بمجرد الحركة إليه، فهو مَـن أقدّم له نفسى هكذا. هل نأتنس إذن ونواصل؟
………………
………………
ونواصل الأسبوع القادم بقية الفصل الخامس: (الفصل المفقود: 2) (الفصل الحادى عشر: من الترحالات الثلاثة) “أوراق قديمة، وأوراق مبعثرة” (3)
_______________________
[1] – ترحالات يحيى الرخاوى: (2000) وتتضمن الترحالات: (الترحال الأول: “الناس والطريق”) و(الترحال الثانى: “الموت والحنين”) و(الترحال الثالث: “ذكر ما لا ينقال”) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والترحالات موجودة فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم.