نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 11-12-2024
السنة الثامنة عشر
العدد: 6311
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين” [1]
الفصل الخامس
الفصل المفقود: (2)
أوراق قديمة، وأوراق مبعثرة (2)
من مذكرات 3 يوليو 1950
معذرة لقد نسيت أن أعلق على الحرب الكورية!!!
20 فبراير 1954
قال والدى ونحن نتكلم فى مقدار نصيب الإنسان من الجهد ومعنى الاعتماد على اللّه:
يا إبنى إنى حين أقول أسلمت وجهى لله كل صلاة لا أقولها وأستسلم،
وإنما أقولها لأقبل النتائج، و أتعلّم.
(عود على بدء) 27 / 8 / 1986
“ديكى ديكى، أنت صديقى أنت رفيق البيت، رفيقى
صِح فى الدار، أيقظ جارى، واشرب ماءً من إبريقى“.
هنا فى لبتوكاريا كنت أنا الجار الذى يوقظه الديك، وأنا الصديق معا،
صديق عن بـُعد كالعادة، حتى مع هذا الديك أصادقه عن بعد!!!
8 اغسطس 1987
……………….
……………….
لم تكن هذه أول مرة أكتب فيها مذكرات، فقد بدأت من سن الثانية عشرة على ما يبدو من الأوراق المبعثرة التى عثرت عليها أثناء بحثى عن الفصل المفقود، أكتشف أن “فرط الكتابة” الذى غمرنى فى مأزق منتصف العمر (72 ـ 86) أخرج عدة أعمال ما بين الشعر والرواية الطويلة، وكلها كانت أشبه بمذكرات متصلة حتى انتهت بهذه السيرة الذاتية الجزئية التى أخذت شكل أدب الرحلات فيما أسميته “الناس والطريق” ثم هآنذا أقرر كتابة ما اسميته “أدب المكاشفة” ـ تصورت أن هذه السيرة الذاتية غير المقصودة هى الأهم والأصدق (ربما هذا هو مبرر كتابة الترحال الثالث، بل هو كذلك- لننتظر)، أواصل القراءة:
وجدت أيضا مكتوبا فى 9/8/1987
هل هو الشعور بقرب النهاية؟ هل أعطِى بذلك لنفسى أهمية أكثر مما أستحق؟ هل هو الشعور بأمانة المسئولية وضرورة تسجيل ما أحجمتُ عن، أو خفت من، تسجيله حتى الآن؟ هل هو سبيل آخر (ثالث أو عاشر) لتسجيل خبرتى العـلمية بعد أن عجزت الوسائل الأخرى (حتى الشعر والرواية) عن تسجيلها؟
أريد أن أكتب عن خبرتى، مِن خبرتى، فى ثقافتنا هذه بالذات:
(أ) ملحمة الفصام (تشكيلات ذهانية)
(ب) فن المعالجة ودفع النمـو والإبداع
(ح) معنى الأعراض النفسية!!!!
هذا فضلا عن إكمال نظريتى فى “ماهية تطور الانفعال/ الوجدانية. ونطريتى عن “تطور المرأة” فـ”تحرير الرجل. الرجل لا يتحرر إلا إذا إذا تحررت المرأة من عبوديتها لذاتها وله بالنيابة. من أين نبدأ؟ التحرير كذبة عالمية وتاريخية ؟ لا أحد يعرف عمق ومسئولة ومخاطر الحرية ، خصوصا الرجال. على المرأة أن تعقل وتمسك الدفة فقد خُدعَ الرجال وفشلوا، فهل تسعنى هذه المذكرات؟
وجدت أيضا مكتوبا فى 9/10/1987
أثناء تواجدى بالعيادة، هذا الأسبوع، دخل علىّ ذلك الرجل الذكى المعمم الذى بدا صديقا دون معرفة سابقة إلا استشارة محدودة قبل أسابيع، كان قد أمضى فى جنوب السودان وغرب أثيوبيا وكينيا ما أمضى من سنوات، يتكلم أربع عشرة لهجة أفريقية، كما عاش المجاعة معهم. كان يتنقل بالهليوكوبتر والحمير حسب المتاح والحماس، جاءنى من إحدى قرى محافظة المنيا غرب ملوى، كان مرافقا لمريض جديد بعد أن برأ هو من عارضٍ ألمّ به واستشارنى بشأنه. فوجئت به يقول وهو يشير بيده محتجّا:
ـ”هوه أنت مش حا تكتبها بقى؟
قلت له فى دهشة :
– أكتب ماذا يا فضيلة الشيخ؟ “
أكمَل وكأنه لم يسمعنى:
– هل ستظل هكذا رائحا غاديا، طارقا مترددا، أُكتبها يا رجل وخلصنا.
هذا الرجل لا يعرفنى، وكأنه يعرفنى أكثر من كل من عاشرنى.
قلت له وكأنى أواصل حديثا طويلا ما انقطع، حادثتُه وكأنه يعيش معي، بداخلى، وكأنه أقرب من أقرباء أهلى. وكأنى أحادث نفسى، عرّانى هذا فضيلة شيخ دون استئذان. قلت له:
ـ متى يا فضيلة الشيخ؟ متى؟
رد علىّ فى غضب حقيقى:
ـ هذا شأنك، أم تريد أن تظل على هذا المكتب (يشير إلى مكتب العيادة) تؤجل حتى تنسى، وتعـِدُ ولا تفى.
ذكـّـرنى إبنى محمد، ونحن فى الاسكندرية، بهذا الحديث الذى نقلتُه له قبلاً، هذا الشيخ لم يقرأ حرفا مما كتبتُ تنظيرا وفروضا، ولا سمع عمّا وعدت، فكيف عرف ما أحمله من قول ثقيل يرهقنى، وكيف أتته هذه الإحاطة بمشروعى الذى يلومنى بسبب التقاعس عن إتمامه، كانت تذكرة محمد إبنى لى بحديث هذا الشيخ بمناسبة ما عرضته عليه مما كتبته عن “الضلال” فى الموسوعة النفسية التى تنشر بانتظام فى مجلة الإنسان والتطور، بدون توقيع، قال محمد: إن هذا الذى كتبتـَه فى عجالة عن الضلال فى هذه المجلة التى لا يقرأها أحد، يصلح فروضا لأبحاث تستمر عشر سنوات، وأن أى وقت يضيع من وقتك فى غير هذا الاتجاه هو مسئولية لا يعلم هو كيف سوف أدافع عن نفسى إذا تخليتُ عنها.
فهل هذه المذكرات (فى رزمة أوراق “مى”) هى ضياع وقت فى غير الاتجاه الذى نصحنى به فضيلة الصديق الصعيدى، وذكرنى به إبنى محمد؟
ذات يوم فجأة: قال لى أ. د. عماد حمدى غز (الآن أستاذ طب نفسى، ثم استشارى فى المملكة المتحدة) : إنك تحوم حول نظرية فى الحياة لـلحياة، هى فلسفة كاملة، فلماذا لا تكتبها، بدلا من أن تُخرجها متناثرة متخفية تحت اسم حركى هو الطب النفسى، أو الأمراض النفسية،
كدت أفهم مقصده، وخاصة وأن كتابى “مقدمة فى العلاج الجمعى” كان مقدمة لرسالته فى الماجستير التى أشرفتُ عليها، وكانت به إرهاصات ما يتحدث عنه.
وجدت أيضا مكتوبا فى 10/10/1987
لست أدرى وأنا أكتب هذه المذكرات أهى حديث شخصى أم أنها هى هى هذه النظرية؟ المهم أنى قررت وبصفة عاجلة، بعد ما أحضرتْ لى ابنتى هذه الهدية، أن أكتب هذه المذكرات هكذا (يوميا) ثلاث صفحات على الأقل، هآنذا أبدأ، وكأنى بوجود هذا المجلد الفارغ أمامى أُُحرج نفسى لألتزم بالكتابة، أفرض على نفسى ما فرضه علىّ التزامى بإشغال عامل جمع حروف طباعة حتى يجد عملا منتظما بعد أن كنت السبب فى تركه عمله، فخرج كتاب السيكوباثولوجى، أهم أعمالى حتى الآن، وحكايته كالآتى:
إنه فى ديسمبر سنة 1978 تقرر عقد المؤتمر الأول للطب النفسى، وكنت المسئول عن اللجنة العلمية تخطيطا، وتنفيذا، بما فى ذلك طباعة دليل المؤتمر. وموجزاته وغيرها، ولم أجد مطبعة تسعفنى، ولم تكن تجهيزات الطباعة الأحدث فى المتناول أصلا، فاشتريت على حسابى صندوق حروف كامل، ووضعته فى حجرة بجراج بيتى، وأستأجرت عامل طباعة، قام بالمهمة فى وقتها، وأنقذنا الموقف، وطبعنا اللازم وانتهى المؤتمر، لكننى وجدت أمامى عاملاً ترك عمله وتفرغ لهذه المهمة من أجلى، كما وجدت فى حوزتى حروفاً استُعملت مرة واحدة، ولا يمكن بيعها بسهولة، قـلت أكتب كل يوم عددا من الصفحات أناولها للعامل يجمعها وهو يواصل عمله عندى، فى الجراج، حتى يجد عملا آخر من جديد، ووجدت المهمة جد عسيرة، فما أسهل أن تكتب لنفسك ثم تمزق ما تكتب، أما أن تكتب صباح اليوم ما يُجمع حروفا قابلة للطباعة فى المساء، فهذا شئ آخر، فاستخرت الله أن أقوم بشرح ديوان سر اللعبة الذى صغت فيه “علم السيكوباثولوجى” شعرا، وذلك وفاء لوعدى لصلاح عبد الصبور أثناء مناقشته معى هذا الديوان فى البرنامج الثانى، حين وجده ـ متفضلا ـ شعرا صرفا، وتحدانى أن يكون هذا علم أصلا، وفرحت لكونه شعرا قحا وليس رجزا مثل الألفية مثلا، وقبلت أن أقبل اقتراحه، أو تحديه، ثم وعدته أن أكتب شرحا على هذا المتن الشعرى، ووجدت الظرف الطارئ هذا حافزا لكتابة هذا الشرح حتى أجد ما أشغَـلُ به هذا العامل حتى يجد عملا، وهكذا يوما بيوم رحت أكتب أربع عشرة صفحة وهو القدر الذى قدّره هذا العامل ليملأ به سبع ساعات العمل، فخرج عملى الأكبر “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” كأهم ما كتبت حتى الآن، وليس معنى هذا أنه خرج بالصدفة، ولكنى من يومها تبينتُ كيف أن المثير، أو الدافع المباشر، قد لايتناسب بالضرورة مع المحتوى والناتج.
كنت أسجل مع صلاح جاهين يوما برنامج عن بيرم التونسى، وجاء ذكر الليلة الكبيرة، وسألته بحب : لماذا لم يكرر المحاولة ليتحفنا بمثلها أو ربما يتجاوزها؟
قال لى صلاح: إنك لا تعرف قيمة الصدفة، إن الـصدفة لا تتكرر، وحكى لى كيف ظهرت فكرة الليلة الكبيرة فى جلسة مع سيد مكاوى، وكيف تطورت حتى خرجت هكذا، وقلت لنفسى إن مثل هذه الصدفة ليست صدفة بالمعنى الشائع، لكنها “فرصة” لإطلاق الكامن.
هل هذه المذكرات فرصة، أم صدفة؟ أم مضيعة للوقت؟
إن المبرر الوحيد لكتابة هذه المذكرات، هو أن أقول مالم أستطع قوله من قبل. فهل أجرؤ الآن؟
ثم هبْ أنى تصورتُ أن شرط عدم قراءة ما أكتب قبل عشر سنوات، وعدم النشر قبل عشرين سنة قد نفذتـْـه ابنتى حرفيا، فما معنى أن ينشر هذا الكلام سنة 2007 (ألفان وسبعة ميلادية)؟ ، أليس الأولى أن أمضى مباشرة إلى كتابة النظرية أو النظرة أو الفلسفة دون التـلكع والتهرب هكذا؟
أنا بالذات، أشعر أنى مدين بكتابة ما هو أنا، أشعر أنه واجب لا مفر منه أن أسجل هذا الجانب من تجربة حياتى، فأنا أحسب أنه قد أتيحت لى فرصة لم تتح لغيرى، وأن معرفة هذا الذى كان هو من حق الناس، وأحيانا أبالغ فأقول إنه من حق الوعى البشرى، نعم؟ نعم؟ حقه فى ماذا؟ فى تعرية نموذج بشرى هو أنا، وليس فى مجرد الإعلان عن أحداث مرّت بشخص ما. هذه أهمية وهمية لا أساس لها ، فانتبه!!
انتهت الصفحات الثلاث الأولى، ولم أبدأ بعد،
………………
………………
ونواصل الأسبوع القادم بقية الفصل الخامس: (الفصل المفقود: 3) “أوراق قديمة، وأوراق مبعثرة”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – ترحالات يحيى الرخاوى: (2000) وتتضمن الترحالات: (الترحال الأول: “الناس والطريق”) و(الترحال الثانى: “الموت والحنين”) و(الترحال الثالث: “ذكر ما لا ينقال”) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والترحالات موجودة فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم.