نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 7-12-2024
السنة الثامنة عشر
العدد: 6307
ثلاثية المشى على الصراط
رواية: “مدرسة العراة” [1]
الفصل الرابع
ملكّة مَنّاع (3 من 4)
………………….
…………………..
– 4 -
بوادر خير تلوح فى الأفق.
بدأ غالى يفكر فى لعبة بديلة، ذهبنا إلى بعض الأصدقاء الذين اعتادوا أن يتجمعوا حول الشيخ الضرير بعوده المتحفز ولسانه السوط، فرحت بذلك وتمنيت أن نستغنى بهذه الجلسات عن ذلك الرعب الأسبوعى حتى لو كان الحشيش هو الوسيلة إلى ذلك، حشيش الجوزة أهون من حشيش ذلك الطبيب النصاب، دعانى غالى لمشاركتهم ولكنى لم أستطع، ضحك كثيرا وتكلم كثيرا ولكنه بكى ونحن راجعان فى التاكسى.
لم أدر ماذا أفعل.
****
انتهى غالى، بعد أن أفرغ شحنته، وتمدد على ظهره هذه الليلة دون أن ينام، أصدرت أوامرى لخلاياى بالسكون بعد أن أدت مهمتها الثقيلة، وابتدأت الآلام تتضاءل تدريجيا، نظرت إليه فى تساؤل: لماذا لم ينم هذه المرة كما اعتاد أن يفعل كالطفل الرضيع.
= مالك يا غالى الليلة؟
- لا شئ، أنا أفكر فيك؟
= أنا بخير ما دمت سعيدا، ألم أرضِك الليلة؟
- وأنا، هل أرضيتـك؟
= أنا راضية بك وبجوارك ليل نهار.
- طرأت علىّ فكرة مرعبة فور انتهائى الليلة.
= الأفكار التى تطرأ عليك هذه الأيام أغلبها مرعب، وأنت مصر على الاستمرار.
- هذه جريمة استغلال.
= تتحدث عن ماذا؟
- عن ما حدث الليلة.
= ماذا حدث..؟ الليلة مثل كل ليلة.
- ألسنا نحارب استغلال الإنسان للإنسان؟
= هذه بديهية.
- وهذا الذى فعلتـه بك الليلة، أليس أسوأ استغلال؟
= غالى…. ماذا جرى لك؟ أنت أغلى من عينى وروحى، أنت زوجى وحبى، أين الاستغلال؟
- تفتحت آفاقى على معان أخرى للاستغلال.
= ماذا عندك أيضا من مفاجآت؟ بدأت أخاف كما لم أخف أبدا؟ من يستغل من؟
- أنا أستغلك يا ملكة.
= برضاى، هذا غاية سعادتى.
- أغلب العبيد كانوا يمنحون أرواحهم برضاهم وهم يعتقدون أنهم فى غاية السعادة فى ظل الإقطاع.
=…أنا فى كامل وعيى، وبكامل حريتى، كيف تشبهنى بالعبيد؟
- تكتمين آلامك ولا تتمتعين بحقك، وتطلبين عبوديتى ثمنا لذلك.
= درس جديد حفظتـَـه من حضرة الناظر فى روضة الدعارة الصحية الحديثة؟
- لا تنسبى إليه كل شئ.
= نحن نعيش فى وفاق نحسد عليه.
- أحسست أنى مجرم فى حقك.
= نعم؟ نعم؟ شفقة أم احتقار أم ماذا هذا؟
- أفكر فى حقوقك، أبسط حقوقك كامرأة.
= وهل اشتكيت لك يا أخى؟ عجيبة.!!.
- هذه الجريمة يجب أن تتوقف.
=…. أى جريمة يا مجنون؟ هل اشتكيت لك ؟ أنا لا أجد مبررا لكل هذا الذى تحكى عنه.
-…. السعادة شئ آخر.
=…. لابد أن تكون السعادة ممهورة بإمضاء شيخ الطريقة الجديدة حسب المواصفات التى يلقنها لكم، أليس كذلك؟ عـد إلى رشدك يا غالى قبل أن تفقد شخصيتك تماما.
- قولى لى بصراحة: هل تصلين إلى، إلى “النهاية”؟
= ماذا جرى لك يا غالى؟ نهاية ماذا وبداية ماذا؟ هذا وهم وإشاعات، هل تريدنى بقرة رقطاء مثل الست فردوس، أم لبؤة جوعى مثل الست نجوى؟ أنا امرأة حرة ومثقفة، وهم لا يعرفون القيم الإنسانية فى الاقتراب الجنسى.
- قيم؟ وإنسانية ؟ يبدو أننى لم أعد أفهم، عموما أنا آسف على كل ما كان، منذ..البداية.
= أية بداية.
- منذ زواجنا.
= منذ ماذا؟ ماذا تقول؟ ياسيدى أنا راضية وسعيدة بكل ما كان، وما هو كائن، وما سيكون، مادام منك، ومادام يرضيك، مالك بى؟
- لم يعد يرضينى، لا أولاد..ولا جنس، من أين تأتى السعادة؟
= غريبة أمورك هذه الأيام، نحن نعيش هكذا من سنوات ماذا جرى؟ ماذا استجد؟
- رؤيتى تتضح يوما بعد يوم.
= نجح الطبيب المجنون أن يقلب مشكلة استغلال الطبقة العاملة إلى البحث عن الجنة الجنسية الموعودة.
- الصدق يؤكد الصدق، البداية منا نحن، ثم تمتد إلى كل شئ.
=… البداية من على السرير، أليس كذلك، أهذه آخرتها؟ ما ذنبى أنا؟
- أنا لا أتهمك، أنا اتهم نفسى بالعمى والصمم، لن أقبل أن أستغلك بعد الان، العادة السرية أشرف من هذه العلاقة.
= هذه ليلة سوداء لن تمر بخير.
…..
نجح شيخهم الكلب أن يقلب حياتى رأسا على عقب، دخلها من أسفل المسارب، سوف أنتقم لا محالة، لا أحد يحس بى، لا أحد يفهمنى، حياتى مهددة، وغالى يبتعد عنى إكراما لإنسانيتى على الطريقة ”النور الدينية الجماعية!!” لن أيأس، لن أستسلم للغضب، سوف أقاتل حتى النهاية، سوف أسترجعه بكل وسيلة، يبتعد عنى ويسمى ذلك حبا واحتراما، هذا آخر تفسير للحب، أحدث التفسيرات تقول إن أحسن طريقة للتعبير عن الحب هو الهجر فى المضاجع، ثم الضرب بإذن الله (!) هكذا ننسى جوع الجماهير الكادحة ونتفرغ لتصنيف أنواع الحب السبعة، أو الأربعة وأربعين، طيب.
- 5 -
بدأت المظاهرات من باب اللوق وانتشرت إلى وسط البلد بلا ترتيب سابق، جاءت فى وقتها يا غالى يا جوهر، عليك أن تواجه ذاتك يا كمال يا نعمان، أما أنت يا عبد الحكيم يا نور الدين فلسوف تتضائل أمامنا جميعا حتى يسعك جحر يليق بجبنك وخيانتك، وحين يقرصك الجوع سوف ألقى إليك بكلمة صدق عليها “سم” الفئران الحديث جزاء وفاقا لما تفعله بالناس، ها هو الشعب قد استيقظ وهو يطالب بحقوقه، الحوانيت تتحطم، والمتاجر سوف تنهب ليسترد العرايا والجوعى حقوقهم، الأتوبيسات تحترق، الثورة أعلنت فى الوقت المناسب، وقت أن طعنت فى أنوثتى حتى كدت أنهار، هذه هى الحياة والحرية والمسئولية الحقيقية يا غالى يا ابن جوهر، نحن ننتمى طول عمرنا إلى هؤلاء الناس وليس إلى أصحابك المعوقين فى عيادة سرية، هذا هو الامتحان الحقيقى، من شاء أن يرى صدقه فلينزل إلى الشارع الآن يا كلاب، حين تعرف كذب ادعاءاتهم يا غالى فسترجع الى أحضانى آمنا نواصل الكفاح مثل زمان.
= قامت الثورة، وعلى كل إنسان أن يعرف مكانه ودوره، ويتحمل مسئوليته.
- أية ثورة؟ هل أخبرك أحد شيئا.
= المسألة لا تحتاج إلى إخبار، الشارع يغلى يا غالى، فأين دورك؟
- ياليتنى أعرف.
= دورنا فى الشارع يا غالى، هل نسيت؟ ننزل فورا.
- ننزل إلى أين..؟ هل فى ذلك ما يفيد؟
= أى شئ أحسن مما نحن فيه من ضياع منذ شهور؟
- كنا نبحث عن حل.
= ثم جاءنا الحل بأن نواجه مسؤليتنا بحق، ما قولك الآن؟
(برودى الجنسى يابن جوهر أشرف من برودك السياسى يا حبيبى الغالى).
- لا أنكر أنى أخجل من موقفى ومن جلوسى هنا الآن، لكن…
= هل اكتفيت بالتدريبات الداخلية فى “مصنع” العواطف المستوردة ؟؟
- أحتقر نفسى ولا أعرف كيف أشارك الناس حقيقة مشاعرهم.
= الأحداث أقوى من كل تساؤل.
- هل نترك التلقائية تتحكم فى مجريات الأمور؟
= أفضل من الحسابات الجبانة.
- وهل التحطيم يكفى؟
= إذا كنت لا تؤمن بالتحطيم فلماذا حاولت تحطيمى؟
- هذا ليس وقت تصفية حسابات شخصية، هل يمكن عمل شئ الآن فعلا؟
= هذا وقت الحساب الحقيقى، أين أنت وأصحابك المجانين من كل هذا، وعلى رأسكم شيخ المنسر هذا الطبيب الأفاق؟
- مواجهة النفس هى بداية الطريق، هذا ما تصورت أننى تعلمته.
= ويموت الناس جوعى حتى تتم مواجهة أنفسنا بالسلامة، أليس كذلك؟
- الحماس وحده لا يكفى، لابد من تخطيط وضمان للاستمرار.
= فى عيادة سرية تبيع الوهم للمجانين جلوسا؟ ، أليس كذلك يا غالى يا حبيبي!؟
- أى صدق لابد ينتج ثائرا عنيدا يمكن أن يتحمل نتائج مثل هذا الغليان فى الشارع.
= الصدق الذى تمارسونه هو تبرير التأجيل إلى ما لا نهاية.
- محتمل، محتمل جدا، ولكن ما حيلتى أنا وهذه هى رؤيتى الجديدة.
= لم تصدقنى وأنا أقول لك إنها رؤية مغشوشة، رؤية تبرر التأمل بديلا عن الثورة، لو طبقنا إشاعة حتم هذه الرؤية على هؤلاء الشباب إذن للزموا بيوتهم يتأملون ذواتهم بالسلامة.
- هم يؤدون دروهم بحماس من وجهة نظرهم.
= يا ليتنا أحذية فى أرجلهم.
-… هل تضمنين أنهم إذا دخلوا الامتحان الأكبر سوف يتحملون مسئولية استيعاب هذه المشاعر الجماهيرية الغالية لصالح الناس؟ أصبح رعبى من ورثة الثورات أكبر من فرحتى بهتافات الأبرياء.
=… وصى حضرتك على وعى ومسار المكافحين الشرفاء !!
- لست وصيا ولكنى خائف، خائف من الخدعة الكبرى، للكراسى سحر آخر.
= وحتى نفك السحر، علينا أن نرضى بالواقع أليس كذلك؟ ماذا جرى لك يا غالى؟ أليس بديهيا أن حالنا لم يعد يحتمل أى استمرار، لا بد من التغيير حالا، وجذريا.
- صحيح، لكن: هل آن الأوان أن نمد بصرنا حتى نعرف من الذى سيمسك الدفة بعد أى تغيير، مجرد الفرحة بالغليان لم تعد تكفى، أنا أشك فى نفسى، بشع ما هو بالداخل، أتصور أن مثله عندهم ولا أعرف السبيل إلى ترويضه لصالح هذا الحماس.
= نؤجل الثورات حتى يتم ترويض الداخل بالسلامة، هذه هى التعليمات الجديدة، هؤلاء الشباب هم أمل الأمة، هم شرف الوطن، ماذا يبقى لو رفضنا ما يفعلون؟
- أنا لا أرفض ولا أقبل، من أنا؟ أنا أتصور أن أيا منهم لا يقدر على التعرى لمعرفة حقيقة وجوده، فلا ضمان حين تتغير دوافعهم وظروفهم وآمالهم وموقعهم من السلطة والناس، لا ينبغى أن ننسى دروس التاريخ، لا بد أن نعد من يرث الثورة مثلما نفرح بمن يشعلها، وأكثر.
= أصبحتَ فيلسوفا؟ عينك شيخ الطريقة الطبية الحديثة قاضيا على منصة يقسم الناس إلى شغالة وورثة بعد أن يحكم على المناضلين بالتسطح العاطفى.ألا تخجل من نفسك؟
- أخجل، أخجل جدا، أريد أن أتوارى، أحاول أن أنسى كم تحمسنا وقتل زملاؤنا، ثم ورثها الأعلى صوتا، لا الأعمق إحساسا بالناس وبآلامهم وبحقوقهم، أخشى أن تتكرر المأساة كل مرة، لا يا ملكة سوف أرفض تكرار المأساة.
= وماذا يفيدك أو يفيدنا اعترافك بخجلك من نفسك هذا الذى تدعيه؟
- أواجهه بكل الألام قدر استطاعتى.
= ثم تعلقه على الحائط مصلوبا.
- لا أستطيع أن أخدع نفسى وأنا بكامل وعيى.
= الناس تموت فى الشوارع.
- قد يكون هذا هو الحل.
= أن يموت الناس؟
- لا…. أنا الذى..
= غالى، ماذا تقول؟
- العجز يحكم قبضته علىّ، والخجل أكبر من احتمالى.
= المشاركة..هى الحل الحقيقى.
- شاركنا قبل ذلك واستلمها من هم ألعن ممن أزلناهم، هؤلاء يستعملوننا، وأولئك يزيحوننا، يبدو أن المسألة تحتاج لإعداد جاد وطويل.
= أفسدك العلاج.
- أنا أحمل مسئوليتى وأمضى.
= والشعب يا غالى.
- من الشعب؟
= الطبقة العاملة.
- وأنا وأنت؟
= هذا ليس وقت للقافية.
- أعنى ما أقول، هل نحن من الشعب أو لا؟
= نحن من صميم الشعب الحر.
- ولكننا لسنا أحرارا.
= سجننا هو خوفك، وخوف أمثالك،
- آن الأوان أن نحترم الخوف حتى نزداد شجاعة تمنع أن يسرقونا ثانية.
= كنا نعيش فى وضوح وصدق.
- هناك جانب آخر لما كنا نسميه الوضوح أو الصدق.
= يا خسارة ! حتى النار المشتعلة فى الشوارع لم توقظك.
- لو لم أصل إلى “معني” للآن وما يترتب عليه، فالنار التى تنتظرنى أشد سعيراً.
= تراتيل الخرافة الحديثة؟
- ماذا يفيد لو كسبت العالم وخسرت نفسك؟
= ترتد إلى الغيبيات تبرر بها سلبياتك.
- سمها ما شئـِت.
= الأفيون السرّى الجديد يسرى فى عروقك بسرعة البرق.
- لن أخدع نفسى ثانية.
****
ونواصل الأسبوع القادم استكمال الفصل الرابع “ملكَة مَنّاع”
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “مدرسة العراة” الجزء الثانى من “ثلاثية المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1977، الطبعة الثانية 2005، الطبعة الثالثة 2019) والرواية متاحة فى مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية – المقطم – القاهرة.