نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 16-11-2024
السنة الثامنة عشر
العدد: 6285
ثلاثية المشى على الصراط
رواية: “مدرسة العراة” [1]
الفصل الثالث
نجوى شعبان (3 من 3)
…………………….
…………………….
-5-
تأكدت أننى مجنونة، الألفاظ الرنانة التى كنت أستعملها لأخفى جنونى بدأت تتكشف على حقيقتها حين دخلت إلى الاختبار الحقيقى، النار المقدسة التى كنت أفخر بها هى نار جهنم بلا نقصان، المستحيل الذى كنت أحاول التماس الطريق إليه هو الشكل الجميل لخيال مجنون، كنت أسخر من كل من يتهمنى فى عقلى لمجرد أنه يرفض تصرفاتى، كنت أعتبره جاهلا لا يفهم، كم تساءلت لـِـمَ أذهب إلى الطبيب وليس عندى أعراض؟ الآن، عرفت أن ما بى هو ألعن من كل الأعراض!! لو كنت أرى أشباحا أو أعتقد أن الناس تضع لى السم لهان الأمر علىّ وعليه، لماذا لم يقل لى الطبيب أنى مجنونة “رسمى” منذ البداية؟ هو المسئول منذ البداية، كان عليه أن يشخص حالتى ويعطينى المهدئات اللازمة فى الوقت المناسب حتى أرجع إلى زوجى وابنتى، لا أنكر أنه عرض علىّ ذلك فى أول الأمر وأنى رفضته بإصرار، كان عليه أن يصر حتى ولو أدى الأمر إلى استعمال القوة، تركنى لنفسى حتى اكتشفت مصيبتى بنفسى، ولكن بعد فوات الأوان، أين أنت الآن يا ابنتى يا حبيبتى، كيف تنامين؟ وكيف ترضعين؟ على صدر من تبكين؟
هل تقبلنى يا زوجى الطيب بعد الآن؟ بعد ما كان؟ كنت أخاف الانتقام مما فعلته بك، لم أتصور أنه سيكون بهذه البشاعة، الانتقام يأتى من داخلى، نار جنهم هى بالداخل.
أنا وهؤلاء الناس المخدوعين وقلوبنا التى تحجرت هى وقود هذه النار بلا نفاد، ضاق على الخناق فى كل مكان، أخى الأصغر، الذى كنت أعلمه المشى طفلاً هو هو الذى صاح بى أمس” لا حرة ولا زفت”، ”انظرى ماذا صرت إليه يا غبية” لم أرد عليه، بل إنى لا أنكر أنى شعرت أننى نلت بعض ما أستحقه، لو أن ربع هذا حدث قبل ذلك لكنت انتحرت أو قتـلت، بلعتها فى صمت جزاء لما اقترفت فى حق أبرياء.
أتبين الآن أن طلب المستحيل الذى يبدو براقا وكأنه الشجاعة والطموح فى أرقى صوره ما هو إلا مهرب حقير من مواجهة تحمل مسئولية حياتى اليومية، هأنذا – يا طالبى المستحيل- أنتقل من وجيه يعرض على خدماته فى كازينو على النيل إلى مختار الذى يغرينى بالحرية لحسابه الخاص، وهو لا يكاد يعرف اسمى، إلى إبراهيم الموتور المخادع، إلى غريب المرعوب من مجرد اللمس، كل ذلك يدور فى فلك سيدنا الشيخ ناظر مدرسة تحضير الأوهام؟ ”هنا والآن”، أى عبث هدمت بيتى من أجله؟ وأى ضياع ينبغى أن استمر فيه؟ متى تغلق الحكومة هذه المحال التى تبيع الأوهام للعجزة والأغبياء أمثالى؟ قاع البئر سحيقة حتى لتبدو بلاقاع.
- ما العمل يا إبراهيم؟ أنا لا أسألك، أنا أعرف ما ستقوله لكنى أريد أن أسمعه منك أنت بالذات.
- ترجعين، وبأسرع ما يمكن.
= أبهذه السهولة ؟ أنا لا آكل من بيتك، سوف أرجع حين أريد.
- مازلت تتكلمين عما تريدين وما لا تريدين.
= سافل جبان..تنتقم من زوجتك فىّ.
-…الرجوع أو التراجع أفضل من الهلاك مثلها، إنك هكذا ترقصين على السلم، لا تحصلين على عنب الشام ولا بلح اليمن.
= صفقة هى؟ أنت لا تدرك ما بى من ثورة، وتنتهز هذه الفرصة لتسقط علىّ مخاوفك، وعجزك عن إكمال الطريق.
- مازلت تتحدثين عن الطريق وإكماله وأنت إلى الخلف در.
= أحسن منك يا من أحكمت رباط عينيك وتوقفت تماما تدّعى الفضيلة وتفرز الشقاء.
- أنا سأكمله يا نجوى بالرغم من كل شئ.
= وامرأتك؟
- لها عذرها، لم تر شيئا غير ماهى فيه، لكنك أنت عرفت كل شئ، وحدك، وهذا مادعانى للائتناس بك.
= لا تخدعنى..أنت تحتقرنى من البداية.
- كانت ثورتك تخجلنى من عجزى، وكان إصرارك يزيد يقينى بالخير دون أن نتبادل كلمة، كنت دائما آنس لك من وراء ظهرك.
= كفى يا كذاب..أليس أنت الذى كنت تنصحنى منذ لحظة بما لا ترضاه لنفسك، بالرجوع بأسرع ما يمكن، يا فرحتى بائتناسك بى.
- أنا لا أنصح، أنا أقول ما أرى الآن، وكل واحد يتغير باستمرار.
= شكر الله سعيك..أنا عملتها وحدى، وسوف أتحمل مسئوليتها كاملة.
- إحذرى أن يدفعك عنادك لتكرار ما كان بصورة أخرى.
= حتى لو كررتها، فمالك أنت؟
- تكرار بتكرار، زوجك وبنتك أولى بك.
= هذا ليس من شأنك.
- هو شأنى ونصف، إما الرجوع وإما المسئولية كاملة، كله إلا الضياع
= جبان، كذاب، لماذا لم تمنع زوجتك من الضياع من قبل؟
- نهايتها البشعة هى التى علمتنى ألا أتهاون فى أن اقول ما أرى، وفى الوقت المناسب.
– 6 -
ضاقت بى السبل، انطفأت حاجتى للرجال، أعلن جسدى الموت، تجمد الثلج فى أحشائى وتراكمت الأتربة على مشاعرى، مازلت أصر على الحضور بانتظام، نسينى مختار تماما وكأنه لم يعرفنى أبدا، انقطع غريب عن الحضور، طلـق إبراهيم زوجته بعد أن اختفت من المنزل بضعة شهور، امرأة شجاعة، أشجع من كل هؤلاء المخدوعين، شيخنا العنيد يحصل على الإتاوة بانتظام، كان عليه أن يعلن زيفنا وخداعنا منذ البداية لنتحمل المسئولية فى كل الأحوال، أحسب أنه ينتظر أن نصنع له المعجزة التى عجز هـُوَ عن أن يصنعها لنفسه، عبد السلام مازال يحاول فى إصرار، فردوس بدأت تعيد النظر على ما يبدو.
= عبد السلام.
- كنت أنتظرك يا نجوى، من زمن وأنا أتابع كل ما يجرى.
= قلت لك من الأول أن هناك شيئا يجمعنا.
- أعرف ذلك.
= أُرهقتُ تماما وفشلتْ كل الحلول.
- تقتربين من بداية أخرى، لعلها أطيب.
= صبرك رائع ومزعج.
- لم أتعلمه فى يوم وليلة.
= وكيف حال فردوس، أظن أن هناك شيئا ثالثا بدأ يظهر.
- أنت تحبيننا يا نجوى، تحبين فردوس كما تحبيننا جميعا، أنت إنسانة كريمة.
= لا أظن، أريد نجاحكما لأستند إلى مستحيل ممكن.
- لم تتعلمى بعد يا نجوى.
= لولا أن زوجى تزوج لذهبت خادمة له بقيه عمرى،
- لا أحسب أنك تعنين ما تقولين.
= لاأعنيه، ولا أستطيعه، تعبت، هل يمكن أن يصبح السجن جنة مختارة؟
- كل شئ ممكن لو استسهلنا أن نختصر الطريق.
= المشى على الصراط لا يقدر عليه إلا ذو قلب سليم.
- قلوبنا سليمة ما لم نشوِّهها بالعجلة أو الطمع.
= لو عرض كلب علىّ الزواج الآن لقبلت.
- جهنم شرعية، بدلا من جهنم البحث الفارغ أو الكذب أو الخداع.
= جلدى رخام صدئ، ونار جهنم لم تعد تؤثر فيه.
- هذا تشويه بلا مبرر.
= يبدو أنى سأستمر بلا أمل.
– أنت لم تبيعى نفسك، أو تكذبى عليها.
= هذه مرحلة استـُهْـلكت فعلا، أتساءل كيف تحاول مع فردوس، وباستمرار.
- وستحاولين أنت أيضا، ولكن بشكل آخر، مع شخص يستأهلك.
= حاولتُ مع إبراهيم لعبة الزواج، وفشلت قبل أن تبدأ.
- إبراهيم مجروح، وهو يتجاوز جرحه دون أن ينساه.
= لماذا لا يتزوجنى ألست كزوجته السابقة على الأقل؟
- له حساباته، فلا تقللى من قدرك بحكاية “على الأقل” هذه.
= على الأقل، على الأكثر، أنا تعبت.
- يخاف أن تعملى منه نسخة من زوجك السابق، ربما شعر بذلك.
=… لا تبدو أمامى أيه فرصة لمحاولة أى شئ آخر.
- أنت لا تعرفين نفسك، ما تحدثه فينا هذه التجربة أعمق من أن يظهر على السطح فى ألفاظ.
= الوحدة صعبة.
- وأصعب منها الكذب والضياع.
****
أغلقت خلفى الأبواب الجديدة التى فتحت على مصراعيها، لم يكن لها مزاليج أصلا، تتعمق الوحدة حتى تسحبنى الدوامة إلى أعمق بؤرة لا أعرف لها قرارا، ثم أطفو فأجدنى أقدر على السباحة والطيران، لم يعد الواقع فى السماء، ولم تعد الأجنحة للطيران، أسير ببطء لكننى مفتحة العينين طول الوقت، يتسحب إلىّ معنى آخر للواقع، أرى الناس من جديد، أكاد أعرف ما أريد، الأمل ليس فيما وراء الأفق، بل فيما بين أيدينا.
…….
…….
= إبراهيم، سوف أتزوجك الليلة،
- يا خبر أسود.
= ليس أسود من ظلام الوحدة وعمى الكذب بإدعاء الاستغناء.
-…. هل تتحملين مسئولية ما تقولين؟
= أعرف أى مصيبة نحن مقدمان عليها.
- بـشـَّـرَكِ الله بالخير….. لم تنتظرى ردى.
= أنا أتكلم بالأصالة عن نفسى والنيابة عنك.
- سبق أن رفضت محاولتك الأولى، ماذا حدث؟
= كان عندك كل الحق، شتان بين زواج الاختباء…. وبين اقتحام الواقع.
- وإذا فشلنا.
= كل شىء جائز، لكن لا مفر من قبول التحدى.
- تعرفين ما تفعلين.
= وأنتَ؟
- أعرف الضرورة، فأقترب منها دون أن أتنازل،
= ليكن ما يكون.
- ليكن ما نصنع.
= لا وقت للكلام.
-…المستحيل هو أبسط صور الممكن.
= بلا ألفاظ رنانة،
- ولا حديث عن التطور ولا يحزنون.
= عندك حق: الحديث عن القيمة يـُـهدرها.
- كل يوم زاخر بكل شئ،
=.. كم يظلم الإنسان نفسه بكل هذه الضجة!،
- لابد أن فى الأمر سرا.
= هو أن للاستمرار معنى.
- ربما..
****
ونبدأ الأسبوع القادم فى تقديم الفصل الرابع “ملكَة مَنّاع”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “مدرسة العراة” الجزء الثانى من “ثلاثية المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1977، الطبعة الثانية 2005، الطبعة الثالثة 2019) والرواية متاحة فى مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية – المقطم – القاهرة.