نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 6-11-2024
السنة الثامنة عشر
العدد: 6276
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين” [1]
الفصل الرابع
الفصل المفقود: (1)
ممَـرُّ حانَةٍ فى عطفةٍ مجهولةٍ بلا هُويةْ (7)
…. واللحنُ ظِلُّ الناس فى حُضْن القمرْ
تنوُّعاَت البرق ِ والرعودِ
لــحفر بئرٍ غائر بلا مياه،
وزهرةٍ بلا شجرْ،
وبيضةٍ بلا يمامْ.
وغَارُهَا:
ممَرْ حانَةٍ فى عطفةٍ مجهولةٍ بلا هُويةْ.
وعنكبوتُها:
يدبّج النقوشَ فوق طينٍ أَحْرَقَـتْهُ ناَرُ أحلامِ الّذهَبْ
غجريّةٌ فى ثوبِ سهرةٍ عريقْ،
تسحَبُ عَنْزَها الثَّمِلْ.
المقطم 22/3/2000
………………………
……………………..
وصلنا جرابلس أخيرا، ولا علامات ولا عساكر ولا أحد، ومع ذلك استمررنا فى السير نسأل عن الحدود، وأخيرا وجدنا جنديين من الجنود السوريين المتواضعين الطيبين، ونسأل أليست هذه هى الحدود؟ نعم هى الحدود؟ نسأل ويزداد عجبنا كيف تكون الحدود دون صفوف السيارات ولافتات الإرشاد؟ أين نحن بالضبط؟ ونقول لهم بسذاجة ” نريد أن نعبر إلى تركيا”، فيرودن بعجب أكبر من عجبنا بكثير أنه ما الذى جاء بنا إلى هنا؟ نعم إنها نقطة حدود ولكنها ليست نقطة عبور؟ ولا نفهم لأول وهلة، ولكن المسألة تبدو أبسط من أن تُفهم، وينصحونا أن نعود إلى حلب ومنها إلى “باب الهوى”، وأتذكر فجأة أن هذا هو الأسم الذى سمعته كنقطة حدود عبورية، وأنه هو الذى يبعد عن حلب حوالى ستين كيلو مترا فقط لا غير. وماكنت قد نسيته لكن الذى حصل!!! لم يكن قد تبقى على المغرب سوى ساعة وبعض ساعة، والطريق ليس به علامة واحدة ذات دلالة كافية، وعلينا أن ننطلق عائدين. وقد كان، ويستر ربنا فقد كنا قد عرفنا بعض الطريق فلم نحتجْ إلى أسئلة كثيرة ونصل إلى مشارف حلب حول العِشاء.
جولة ليلية سريعة فى حلب كانت كافية لنتعرف على غلبة التحجب،وغلبة الجمال، وغلبة اللِّحى، وبالتالى على حالة التعايش السلمى (أو السلبى) بين الفئات والعقائد الذى تعيشه سوريا منذ حوالى ثلث قرن. ونضطر للمبيت فى الفندق الفخم الذى لا أحب أمثاله، وتفرح زوجتى على الرغم من كل شىء. ويوقظنى رجل الفندق فى منتصف الليل ليسألنى عن المرأة التى معى فى الحجرة، وأن هذا فندق محترم لا يسمح بذلك، ذلك من يا عمّ؟ وأكتشف أننى لم أخطره أن معى زوجتى، ربما من قرفى من الفندق، وانشغالى بآثار ما حدث لنا وبنا، وأسوّى المسألة وأنا فى حال.
جميلة المرأة السورية، لكن المرأة المصرية “حِــرْشَةْ” و”نغشه” وكلام كثير من هذا.
نكتشف كم أضعنا من وقت وجهد بالذهاب إلى جرابلس، هذا التوْه هو من نوع آخر غير توه أوربا أو أمريكا، كان توها موحشا غريبا، ومع ذلك لم يخل من جدّة، فالناس فى أقصى الشمال طيبون، والفلاّح هو هو فى كل مكان، كأن الأرض تنبت ناسها كما تنبت نباتها، وقد فهمتُ بعد مدّة من أىن أتت فتوى مرشدنا صديقى إياه المضياف الذى غادرنا فى حلب بالعافية، ذلك أن جرابلس تقع فى اتجاه القامشلى محافظة صديقنا هذا، وقد أشارـ بحكم موطنه والعادة ـ إلى أقرب نقطة حدود من بلده، وليس من حلب.
نتعجب، ولا نندم، ونحن نقطع المسافة من حلب إلى باب الهوى فى حوالى نصف ساعة، لا أكثر، وندخل إلى تركيا بسهولة وطيبة بعد أن انتظرنا رجل الحدود حتى ينتهى من صلاة الظهر، إذن فتركيا مسلمة فعلا، لماذا أشك فى هذا كثيرا؟ ونغيّر النقود، ونصبح مليونيرات نملك أوراقا كبيرة بأصفار كثيرة، (مثل حالنا فى إيطاليا، يا خيبة الأرقام !!. ونصل عبر سلسلة من الالتواءات وسط زراعات وأشجار شديدة الجمال، والتنوع فى درجات الخضرة وألوان النباتات الأخرى، يزداد الجمال جمالا كلما تنوع.
نصل إلى أنطاكية بسرعة قبل الظهر، وبعد جولة سريعة يهدينا شاب اسمه محمد، يتكلم العربية رغم صغر سنه، ونسأل ـ تجنبا للمدن الكبيرة كالعادة ـ عن ضاحية قريبة بها فندق متواضع، فيصحبنا هذا الشاب محمد، إلى ضاحية اسمها “حربيات”، فنجد مطلبنا جدا، ونمضى أياما نتعرف فيها على التاريخ، وعلى استقطاع هذا الجزء من سوريا منذ أقل من قرن، الموسيقى هى هى، والمشهيات الشامية تكاد تفوق فى مذاقها وأصالتها أصلها فى الشام، وأيضا الأغانى السورية واللبنانية تصدح فى المقاهى والمطاعم المتواضعة فى حربيات، والأسعار تسمح لكل واحد بما يستطيع دون أن تحرم أحدا تقريبا.
رجل الفندق ذو الساق الصناعية فى حربيات يفرح أننا من مصر، يتكلم العربية الشامية أحسن من فلسطينى فى العريش، يعزم علينا بجناح مكوّن من حجرتين وصالة بنفس ثمن الحجرة الواحدة، كنوع من الكرم، فنقبل من باب الطمع، ولكن ما إن ندخل إليه حتى نجدنا كأننا فى شقتنا فى مصر، ما هذا؟ نحن نريد أن نسافر لا أن ننتقل من شقة إلى شقة،؟ ونرفض عطية الرجل شاكرين ونفضل الحجرة الصغيرة المطلة على الجبل، وتشاركنى زوجتى الرفض، فأنظر إليها ممتنًّـا،
هل أصابتها عدوى الحنين إلى الركن الصغير؟
انتهى الاستطراد وعلىّ أن أنتقل من أقصى الجنوب الشرقى إلى أقصى الشمال الشرقى. وأيضا ننتقل إلى الوراء فى الزمن بضع سنوات،لنكمل الرحلة الأولى.
20/8/1986
نعود إلى أوربا عبر مضيق البوسفور، وينتهى التهديد بالسفر إلى أنقرة، فتطمئن زوجتى إلى حين، وتسألنى عن ناتج”فرصة التفرغ” فى هذه الأيام الأربعة، وأنها كانت تتعمد إطالة التسوّق حتى أنجز بعض ما يعننى على الاستقرار نسبيا، تريد أن تطمئن على الآثار الجانبية لما مارستْه من ضغطٍ خفىّ حتى أكملنا الرحلة، وبالإضافة: فهى تعلم أننى أكون أقرب إليها وإلى نفسى حين أتم عملا أحبه، وأنى أقلبها غما فى أى رحلة إذا أنا لم أقرأ ولم أكتب أضعاف ما أفعل وأنا مقيم بالقاهرة، وأقول لها إننى شخبطتُ كثيرا، وترابطتْ عناوين وتقاسيم كثيرة، وعرفتُ مداخل كثيرة لما أريد، لكننى لم أكتب شيئا، ولم أستقر على شىء، لكنها تطمئن لعدم انقلاب سحنتى حين أصاب بالعُقــلة التى تطمسنى أحيانا.
21/8/1986
استبانت لى فعلا أثناء هذه الأيام الأربعة فى ضاحية اسطنبول الخطوط العامة لجدلية الجنون والإبداع، وتصورتُ (أو حدث) أننى أمسكت بالخيط، ففرحت، بل إنى وددت لو نمد إقامتنا ليوم واحد أو يومين لعلى أثبتُ ما وصلتُ إليه ببعض التفصيل خشية أن يفلت منى الخيط أو يتلخبط، وحين عادت زوجتى من جولتها النهارية، عرضتُ عليها أنا هذه المرة أن نقضى سهرة متواضعة مع عشاء خفيف فى ذلك الحى الذى حدثتْنى عنه وأحبته “تاكسيم”، لم تصدق، ولم تقترح أن نبقى لأتمكن من مواصلة الكتابة، إذ يبدو أن شكلى كان مختلفا.
فى تاكسيم، تركتنى زوجتى أقودها هذه المرة، فالأماكن التى تعرّفتْ عليها هى غير الأماكن التى يقودنى حدسى (المكانى) إليها: من شارع واسع إلى شارع ضيق إلى زقاق إلى مقهى أو مطعم صغير إلى حارة سد. هكذا الحال فى كل مدينة مهما اتسعت شوارعها الأكبر، وهكذا وجدنا نفسينا فى حى فـرعى، أو قل زقاق على مقهى أو حانة أو كليها، والناس تقصف وتصخب وتضحك ولعلها تفرح، لكنى افتقدت فرحة المطعم الألمانى فى سان فرانسيسكو، وفرحة الطليان الراقصة فى فينسيا، وفرحة الفرنسيين الهائصة فى دُولْ (فى جبال الجيرا) خيل إلىّ أن الناس هنا يضحكون بحِدّة وليس بانطلاق، وهم يتصايحون لا يغنون، وهم يسكرون لا يشربون، وهم يأكلون ولا يستطعمون.
جلسنا محشورين فى المقهى،أوالمقصف، جاءت جلستنا بجوار رجل متوسط العمر، كان وجهه قد احمر من أثر المدام، بدا لى: وحيدا جدا لكنه ليس حزينا مثل فتى المسجد وسط المدينة، لكنّه مع التمادى فى الشراب كسرت وحدته ليبزغ من ورائها حزن ثرثار، نظر إلينا الرجل وحيانا بمنتهى الثقة دون تردد(أو هذا هو ماخيل إلينا) رددنا على سؤال تصورنا أنه عن جنسيتنا أو بلدنا، قلنا “إيجيبت”، فلم يفهم وانتبهنا الى اسم مصر بالتركية فصححنا أنفسنا بسرعة وقلنا: “مِـسِــرْ” كما ينطقونها، انتفض الرجل واقفا يهلل، وراح يحيينا وينحنى و هو يقول كلاما كثيرا، وبدا لى أنه نطق كلمة الأزهر. لكننى غير متأكد، المهم أنه عدل كرسيه ناحيتنا وصمم أن يعزمنا على شىء. فهمنا ذلك بوضوح وهو ينادى النادل ويشير إلينا، فاعتذرنا وشربنا ما كنا طلبناه، لكن صاحبنا واصل الشرح والتأكيد والتشويح والإعادة (فى الأغلب) دون أن ينتظر منا أى فرصة لـلتعبير عن أننا لم نفهم حرفا، لكن الأمور كانت قد تخطت الإنذار المبكر، والمتأخر. الأعجب أن زوجتى كانت تسمع له بانتباه، ويبدو أنها كانت تصدّقه (تصدق ماذا؟ لست أدرى) لأنها كانت تومئ برأسها بالموافقة بين الحين والحين، ليست مجاملة، بل خيل إلىّ أحيانا أنها تفهمه، ولا يعدم الأمر أن تلتفت إلىّ وتترجم لى بعض ما يقول، تكون قد سمعت كلمة (بالتركية طبعا) لها رنين كلمة عربية، أو تشترك مع كلمة عربية فى حرفين أو أكثر، فتتحول إلىّ وهات يا ترجمة، ماذا جرى بالضبط؟ أصبحتُ أنا وحدى الذى لا يفهم تركى، وكما عجزت أن أهدئ الرجل أو أوقفه عن طلاقته أو انطلاقاته، كذلك عجزت (إلى درجة أقل) أن أوقف زوجتى عن محاولة ترجمة ما يقوله الرجل.
خيل إلىّ أنها تقرأه كما كانت تقرأ الفنجان، فهى قد مارست هذه الهواية فترة من قبل، وكانت تصدُقُ معها فى أحيان ليست قليلة، وقد عدلتْ عن ذلك تدريجيا ثم نهائيا، وقد أخبرتنى بأنها حين كانت تقرأ الفنجان لم تكن تنظر فى الفنجان أصلا، ولم تكن تحل نقوشه، أو تترجم رموزه، بل كانت تترك حدسها بوعيها المتغير قليلا ينطلق، وكانت تتعجب ـ هكذا حَكَتْ ـ حين كان طالب أو طالبة القراءة تصدق ما تقول، لم تكن تستعمل ذكاءها أوتلفق الحكايات بشكل يصلح لكل الأغراض، ومع أنها هى التى كانت تقوم بكل هذا إلا أنها لم تعتقد أبدا فى مصداقية ما تفعل،
تذكرتُ ذلك وهى تقرأ وجه الرجل وتترجم لى أصواته بكل هذه الثقة والوضوح، كانت كأنها تقرأ وجهه كما تقرأ الفنجان، هل يمكن؟
قضينا ليلة طيبة لم أكن انتظرها فى تركيا أصلا، فكل ما كنت أتصوره فى تركيا أنها بلد إسلامى، خلع إسلامه ليصبح مسْخا أوربيا، وأنها سوق أرخص من غيرها، أما أن نقابل فيها ناساً نتعرف عليهم، ويتعرون إلى هذه الدرجة، حتى نتقارب ونحن لا نفهم حرفا ممايقوله بعضنا لبعض، فنتعاطف بكل هذه الحرارة، فهذا هو الجديد، وهو جديد رائع يذكرنى بعلاقتى الأصلية بالناس والطريق.
هل تركيا هذه هى تركيا العثمانية التى كانت فوق أنفاسنا دهورا (كما سمعنا)؟
هل هى بلد أوربية كانت مسلمة؟ هل هى بلد مسلمة تأوْرَبَــتْ؟
أين ناسها مما صارت هى إليه؟ وهل هى إلا ناسها؟
أين يقع هذا الرجل السكران الـمسلم الطيب من كل هذا؟
تذكرت كيف أن الفقراء بالذات حين يسكرون يكونون أكثر طيـبة وأبيض قلبا، وذلك قبل أن يرحلوا إلى المرحلة التى يستحقون فيها إقامة حد السكر (الذى لا يصح ـ فقهاً ـ أن يقام إلا إذا لم يعد السكران يميز الليل من النهار ولا الرجل من المرأة) ذكرنى هذا الرجل الطيب بسكارى حانات العتبة أمام محطة الأتوبيسات قرب مسرح الطليعة، أو حانات الأوبرا فى مقابل المسرح القومى وإلى درجة أقل حانات شارع التوفيقية حيث يجتمع كثير من العمال وبعض البوابين يشربون ويتحدثون دون سابق معرفة، أو بسابق معرفة، وتمر عليهم المرأة بائعة الفول السودانى بقشره، والترمس، ويزدادون طيبة أكثر فأكثر، ثم يزدادون صمتا، ثم يغط بعضهم فى النوم، فيكاد الآخر يغطّىه ويهدهده، ذلك كله وأنا أحاول أن أتعرف على خلفية مجموعة قصص “خمارة القط الأسود”، وجو البوظة فى الحرافيش، ونوع الحوار فى عوامة “ثرثرة فوق النيل”، فإذا بى أكتشف نبض وجدان العرايا المصريين الفقراء الهاربين، خيل إلى من بعض مشاهداتى تلك أن الشرب ـ بدرجة ما ـ يوحد بين البشر الفقراء بالذات قبل أن يغيبوا عن الوعى، وحين تقوم المعارك بينهم مع السكر البيّن، سرعان ما تهدأ أسرع من العاديين. من يدرى ؟ يغفر الله لهم ويهديهم، هو أدرى بهم.
هذه الحانات الصغيرة هى أمعاء المدن الكبيرة، ما الحكاية؟
من هو التركى؟
ليس جلفدان هانم، ولا راكبى السايرة الذين قابلناهم فى طريقنا إلى بلجراد (قلت إنهم كانوا أكرادا فى الأغلب)، ولا هو هذا الرجل الذى كسرت الخمر وحدته وأطلقت ثرثرة حزنه فى حانة حى ماكسيم، من هو التركى؟
هو كل هؤلاء، وهو غير هؤلاء.
…………………….
…………………….
ونواصل الأسبوع القادم الفصل الرابع: (الفصل المفقود: 1) “ممَـرُّ حانَةٍ فى عطفةٍ مجهولةٍ بلا هُويةْ”(8)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – ترحالات يحيى الرخاوى: (2000) وتتضمن الترحالات: (الترحال الأول: “الناس والطريق”) و(الترحال الثانى: “الموت والحنين”) و(الترحال الثالث: “ذكر ما لا ينقال”) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والترحالات موجودة فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم.