نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 26-10-2024
السنة الثامنة عشر
العدد: 6265
ثلاثية المشى على الصراط
رواية: “مدرسة العراة”[1]
الفصل الثانى
غريب الأناضولى (3 من 3)
…………………
…………………
– 2 -
= اسمعى يا نجوى.
-….
= هل هناك أمل أن نجرب شيئا آخر؟
- طبعا.
= هذه اللغة الجديدة قيد على مشاعرنا التلقائية.
- قلها يا غريب، هات ما عندك.
= تقولين أنك تحبينى.
- طبعا.
= لاداعى لـ “طبعا” هذه، أليس هذا ما يحذرنا شيخكم منه؟
- يعنى، إسمع يا غريب، إذا بقيت على هذه الطريقة فدعنى أذهب، ليس معقولا أنى كلما نطقت بلفظ، نسبته له أو لأى أحد غيرى، ألا ترى مبلغ خوفك؟
= أنا أرتاح لك يا نجوى.
-…. وأنا أرفض ضياعك، لا تؤاخذنى، مع أنك أقنعتنى يوما بجدوى اليأس.
= جروحى قديمة يا نجوى ولا أمل فى نسيانها.
- ليس عندى ما أعدك به.
= لا أملك أن أكون الوحيد فى حياتك، ولا أستطيع.
- لا أفهمك.
= أريد أن أن أطمئن على قدرتك على تحمل مسئولية ذاتك، دون الاعتماد على آخر.
- لا سبيل للاطمئنان إلا بالتجربة.
= ليس معى الآن على الأقل.
- إذن مع من؟
= أنت ترفض المجموعة من حيث المبدأ
- لا تهمنى المجموعة.
= من يهمك إذن،ولماذا تحضر؟
- أتحدّى والسلام، وهأنذا أحاول أن أحول دون فشلك؟
= فشلى أفضل من نجاح زائف.
- كلامكِ غامض، أكاد لا أفهم منه شيئا.
= عندك حق، لا شئ يطمئن، خصوصا هذا.
-…. هذا ماذا؟
= إسمع ياغريب، إعرف أولا ماذا تريد، ثم تعال نتكلم.
- أريدك بلا زيادة ولا نقصان.
= لا يا شيخ، !! وشروطك الخفية؟
- تقلبينها علاجا كما علمك شيخك المبارك.
= تعود لنفس الحكاية، أنت لا تريد أن تتحمل مسئولية ما تقول، أو ما أقول.
- تاريخى يقول غير ذلك، لم يتحمل أحد عنى مسئوليتى أبدا.
=…. فأنت الشقاء ذاته.
- هذا شأنى.
= وشأنى أيضا.
- ترجعين إلى الوصاية تحت ستار العواطف المستوردة.
= الله يلعن جبنك يا أخى، حيـَّـرتـَـنى.
- ليكن، أنا أعرف طريقى.
= نعم؟!! نعم؟!!
-.. أحاول أن أعرفه على الأقل، دعينى فى حالى.
= أنت فى حالك طول الوقت.
****
يا حثالة المجانين، مرة ثانية تتركينى يا كلبة، يا مغرورة، تريدين ذكـرا تلقين عليه اللوم كله، وفى نفس الوقت تتمتعين بالحديث عن خدعة الحرية والتطور، هوايتك المفضلة مثل كل بنات جنسك هى امتصاص الرجال ثم الإلقاء بنفاياتهم مثل مصاصة القصب، لولا أنى مازلت أقدِّرُ عنادك لكان لـى موقف آخر، عماك صور لك أن اهتمامى بك يمكن أن يذلنى، عندك حق، فقدت نفسى منذ سمحت لك أن تتفرجى عليها ذلك اليوم.
كيف أمحو ما كان؟
كيف أترك لهم صورة أخرى، صورتى القديمة، صورتى الحقيقية؟
كلما قررت أن أتوقف قفزت إلى صورتى المسحولة بغير معالم.
هل أمضى فلا يذكرونى إلا بها؟
لم يعد يصلنى منهم الآن إلا شفقة خفية، أو استهانة صريحة.
****
هذا الحاوى المناور، هذا الشيخ الساحر، ماهى حكايته؟
المصيبة أننى أحبه أحيانا، وأحيانا أخرى أشفق عليه، وفى معظم الأحيان أشك فيه وأخاف منه، هذه اللعبة أنا أعرفها جيدا، كنت أتصور أننى أنهيتها لصالحى مع أبى منذ سن مبكرة، لم أنجح فى ذلك إلا حين كفرت به، وكفرت بالله، فلم يعد على سلطان يوجهنى إلا ذاتى، من يومها وأنا أومن “بي” إيمانا كاملا، فتفجرت فىّ قدرات خارقة جعلتنى ذات مرة قرصانا يقتل موبى ديك بطعنة واحدة، ويقضم أنياب الفك المفترس ثم يقفز قبل أن يبتلعه.
ذات شطحة أخرى حكمت العالم سرا فترة من الزمن، كان حكما رائعا لم أظلم فيه إنسانا ولا حيوانا ولا طائرا، كان عالمـَـا، ساد فيه الأطفال وكانت الأعمار تسير بالمقلوب فيولد الإنسان عجوزا ويصغر حتى إذا ما بلغ عمر الطفل تولى منصب اللاعب الأول فى الدولة، وزعت الأرزاق بالعدل وزرعت البحر كما نبتت أشجار الفاكهة على سفوح جبال السحاب، كان ديوانى مفتوح على مصراعيه لكل الناس وكان رغم صغره يسع الناس جميعا، لم يكن عندى حجاب ولا وزراء ولا مساعدين، كانت الأمور أبسط من كل ذلك، وحين استتبت الأحوال أحسست أنه لا معنى لسلطانى ولا حتى لوجودى، قررت أن أتنازل عن كل شئ لكننى لم أجد أحدا يصلح له إلا الله، وهو غير موجود، تراجعت حتى لا يفسد الناس من بعدى وقررت ألا أتنازل عن مملكتى حتى أجده ليتولاها بمعرفته ما دام يدعى أنه خلقها، وهو لم يأت ليتسلمها حتى الآن.
حين كنت أنزل إلى العالم الأدنى لم أكن أعرف المشى ولا الحديث باللغة السائدة، ومع ذلك كنت أواصل السعى لأرجع مثخنا بالجراح إثر الوقوع واللطمات، لم يتركوا فىّ موقعا إلا طعنوه، أرجع وجراحى تقطر دما، أحبك اللفافات حولها فلا يراها أحد، أعرف تماما كيف أن رعاياىّ كانوا فى أشد الحاجة إلىّ طول الوقت قويا قادرا على كل شئ، حذقت كيف أجدد جلدى باستمرار، حميت بذلك نفسى من الشفقة الشماتة، الخيط الذى نفعنى فى نسج الكيس الجلدى حولى الطبقة تلو الآخرى وجدته فى الكتب التى راحت تؤكد لى فشل كل من سبقونى، مجرد وجود هذا الكم الهائل من الكتب هو دليل على فشل البشر فى الوصول إلى شئ ذى بال، لو كانوا وجدوه ما كتبوه، ثم تطلع لى يا عبد السلام يا مشد فى آخر الزمان تلوح لى من جديد بمملكة العدل والأمان على الأرض الخراب هذه، لقد كنت مستعدا للهجرة إليها فى سابع سماء، لم يكن عندى مانع أن أصحب البلهاء من المتدينين وهم يحلمون بها فى الآخرة وسط أغلفة المجهول فى مكان ما بالكون السرى الغامض بعد الموت، لم أستطع، يا ليتنى ما كفرت أبدا، يا ليتنى ظللت أحلم مثلهم، تركت لهم جنتهم بعسلها ولبنها حيث كل الناس مثل كل الناس، لا أنا وجدت جنتى، ولا أنا رضيت بجنتهم.
لماذا حكيت لى يا عبد السلام عن تلك الجنة المسحورة البديلة المشفرة فى عيادة هذا الطبيب الأرزقى؟ لماذا لوحت لى بإمكان الحياة بشكل آخر؟ من حقك يا عبد السلام أن تحلم بما يرضيك وأن تجرجر زوجتك المصونة وراءك كما تحب، ولكن من حقى أنا أن أحافظ على ذاتى من سطوة شيخك الغامض المغرور وهو أكثر خوفا واهتزازا منى ومن أى واحد فيكم، يغرينا بالتنازل عن ذاتنا فى حين يتمسك هو بكل قطرة من ذاته، ألا ترى أن نفسه متضخمة فاغرة فاها تلتهم كل ما يلقى فيها من ضحايا الوحدة والألم، وهى تقول دائما هل من مزيد.
نفسى هى زادى وغايتى وشقائى، وعيى يقظ طول الوقت، لن يتفجر ثانية إلا لحسابى، سأعاود صنع مملكتى أنا، أتحين الفرصة للانسحاب، سوف أظل يقظا طول الوقت حتى تستغرقون فى سباتكم، فأتسحب مشفقا عليكم.
****
- قبل أن ذهب أريد أن أحذرك يا نجوى.
=….. ولكن تذكر أننا نحبك.
- ألفاظكم أصبحت متشابهة…. مثل السمك الميت فى حلقة روض الفرج، أشم لها رائحة لا تسرك.
= تلوّح لى فى كل مرة، ثم تقطع أى حديث بهذه السخرية المرة.
- أنا أشفق عليكِ تماما، جاء دورى لأفتح “سبيلا” للشفقة مثلما كنت تفعلين معى.
=..إفعل ما يحافظ على تماسكك، هذا حقك.
– هذا الرجل يوزع حيرته الكبرى عليكم بالتساوى ويتفرج عليكم من أعلى.
= يجوز، فماذا عندك بدلا من ذلك.
- حافظى على نفسك المحدودة المعالم، فلن يعيش أحد بالنيابة عنك.
= هل نجحتَ أنت أن تعمل بنصحيتك، لماذا جئت هنا ولماذا استمررت هذه المدة؟، أليس لأنك أُنْهِكت من المحافظة على نفسك المحدودة المعالم.
- … كنت مخدوعا حين تصورت أن تنازلى عنها سوف يلحقنى بالذات الكبرى.
= لأنك لا تعترف بأن هناك احتمال لوجود ذات كبرى.
- تبينت أن الذات الوحيدة فى هذا الكون هى ذاتى أنا الكبرى.
= ماذا تركت لى إذن فى هذا الكون؟ بم تغرينى؟
- لكلٍّ وحدته الخاصة به، لا علاقة لها بالآخر مثل النجوم فى السماء..
= النجوم تسبح فى كون واحد وبنظام واحد فى فلك واحد.
- عبث تدعونه، عدم تحملنا مسئولية الاستقلال ترعبنا من التناثر حتى نخترع إلها مزعوما يجمعنا إلى الضياع فيه أو نحوه، كل واحد هو إله ذاته لا أكثر.
= كم مليار إله على الأرض؟
- كلهم، ما المانع؟
= منظر الآلهة وهى تتقاتل على لقمة العيش أو قطعة أرض أو خمسة تعريفة، يهلك من الضحك.
- الآلهة طول عمرها تتقاتل، الإنسان لم يصبه البله إلا حين قبل خدعة التوحيد، ألم تكن حياة آلهة الإغريق ذوى الاختصاصات الرائعة أغنى وأجمل، إله للعدل، وإله للجمال، وإله للحب، وحتى الشر كان عظيما وله إله رائع، ثم جاء الهرب الشمولى إلى شئ ليس كمثله شئ، ثم يأتى صاحبك هذا يسميه الصحة ويصلى له بهذه الطقوس العلاجية، أسماء جديدة لغباء قديم،
= نحن لا نملك إلا السعى والمحاولة.
- هل هذا كلام يا نجوى؟ ، هل هذه عيادة أو نوع جديد من المخدرات؟
= الوعى يزداد والإحساس يستيقظ.
- ثم يتلاشى الجميع فى الجميع، وصاحبك يظل هو اليقظ الأوحد، يتحكم فى أسلاك لعبة الإحساس الموجه لتحريك الجميع نحوه بمنتهى الحرية، حريته هو، ولا مانع أن يسمى ذلك إيمانا أو صحة أو ما شئت،
= ليس بالضبط، التوجه الضام إلينا لا يمحونا، يمكن أن تسميه الإيمان إذا شئت، وهو ماينساب إلى الجميع فيجمعهم دون استئذان، ويفرقهم دون ضياع.
- تعتبرين تلاشى الكل فى الكل إيمانا.
= إفهمها كما تشاء.
-….. خبرتى مرعبة.
= لَمْ تُكْملها.
- … لن أتشوه بإرادتى.
= كفرك بكل شئ إلا نفسك، يبعدك عن أى احتمال آخر، وعن نفسك.
- ….
=….
- كيف أراك خارج المجموعة بعد انقطاعى.
= ربنا يسهل،
- أحب أن أتتبع ما يجرى، لم أتخلص من حب استطلاعى تماما، ولكنى لم أعد أحتمل المخاطرة.
= لا أستطيع خداعك بوعد لا أضمن الوفاء به.
- أنا أستطيع أن أحمى نفسى بنفسى.
=….. هذا صحيح ….. غالبا.
- ما أسخف كل شئ.
****
كل ما أتمناه هذه الأيام هو أن أنجح فى إقناعى بفقد الأمل، أنا يائس مثل البداية وأكثر، هذا الذى يطل علىّ من الداخل وبلا مناسبة يشبه ما يسمونه الأمل، بضاعة لا أعرفها، كلما عاودنى هذا الهاتف بالرغم منى تذكرت مسخرة ذلك اليوم، حتى تقفز إلى عقلى فكرة الانتحار، لم أعد أطيق أى شئ يوحى إلى بالأمل أو يدعونى إلى الحياة، حتى زيارات صفية أصبحت عبئا ثقيلا يواجهنى بعجزى أكثر، أفكر فى التخلص منها بأية وسيلة، يخطر على بالى أن أواجهها مباشرة، أرفض شعورها بالواجب وأمقت تصورها حبها لى، أفكر فى مختار، هل أنا أنتقم من إصرارها على ملاحقتى، أو مساعدتى، أو حتى حبى، ينقبض قلبى كلما أحسست أنى ألعب معها لعبة خبيثة لا أعرف حقيقة أبعادها.
هذا السؤال الذى يحيرنى بين أن أعيش أو أموت هو الذى يدفعنى إلى قطع كل صلة يمكن أن تربطنى بالحياة، لماذا لصق هذا السؤال بالذات فى خلايا عقلى من بين كل ما شاهدت عندهم من قمامة؟ زارنى عبد السلام ليدعونى ثانية إلى معاودة الحضور ولكنى راوغته وحاولت أن أحطم كل آماله حتى يحل عنى، هو شخص عنيد يخدع نفسه وتخدعه زوجته، ما لى أنا به، بهما؟ هو السبب، قبل دعوته الأولى كنت متمتعا بأنى لا أعيش ولا أموت كنت قد اكتفيت بأن أكون ناعى الحياة الصادق أمزج الموت بالحياة سرا، أتحدث عن الموت وكأنى أعيش، وأقرأ عن الحياة وأنا ميت، لا يتلاقى الضدان إلا تحت التراب، متى يحين ذلك.
أصبحت القراءة عبئا جديدا، الكلمات تتحدانى شخصيا، لم أعد أستطيع أن أحتفظ بمسافة كافية بينى وبينها، ألفاظ كثيرة تنبض بما تحوى فتحرك شيئا بداخلى يريد أن يلزمنى به، كأنى مسئول عنه، عن تحقيقه، عن اختبار إمكانيته، أى مصيبة حلت بى، لم أعد أستطيع الاكتفاء بهذه النشوة الصومعية، أصبح للكلمة لسان تخرجه لى، حواجبها تتلاعب أمامى وتتحدانى، الحروف أسنة للكلمات تشكنى مثل الدبابيس فى مقلة وعيى.
مصيبة وحلت بى، لا أستطيع نسيانها وإن كنت نجحت فى أن أخفى آثارها، أواجه مصيرى وحدى.
لا….
لن أنتحر.
و…. و….و..
ولن أعيش.
****
ونبدأ الأسبوع القادم فى تقديم الفصل الثالث “نجوى شعبان”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “مدرسة العراة” الجزء الثانى من “ثلاثية المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1977، الطبعة الثانية 2005، الطبعة الثالثة 2019) والرواية متاحة فى مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية – المقطم – القاهرة.