الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الثالث: الجَمَالُ تتجدّدُ طزاجته (8)

ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الثالث: الجَمَالُ تتجدّدُ طزاجته (8)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 4-9-2024

السنة الثامنة عشر 

العدد: 6213 

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الثانى: “الموت والحنين”

     الفصل الثالث

الجَمَالُ تتجدّدُ طزاجته (8)

الإشكال عندى هو أننى أتمتع الآن بقدر من الحرية، مع هذا الكم من الإنجاز مما يقربنى أكثر وأكثر من مواجهة مسئوليتى عن وجودى ومحاسبة نفسى عن حقيقة إنجازى،

وحين أعلن بعض أفكارى هذه على بعض من حولى .. مترددا خائفا، أواجَه بما أتوقع من أنى لابد “طماع” لا يرضينى “كل هذا ” .

فكان لزاما على أن أجمع نفسى قهرا وفورا، فأنتقل بها إلى حيث تصورت أننى يمكن أن ” أقرر“.

السفينة: أدرياتكا ـ البحر: الأبيض، 10/8/1986

………….

…………

أتذكر مهارة شبابنا التى فاجأتنى يوما من حيث لم أتصور، كانت رحلة نظمها نادى  من النوادى القاهرية  إلى “دهب “على خليج العقبة،  فشاهدت حفلا شابا بسيطا يقوم فيه الشباب الذى كنت أحسبه هشا «خرعا» مائة بالمائة برقصات أشبه بنوع من ألعاب القوى، أحب أن أسميها رقصة الاختراق (هذه هى الترجمة الاقرب ـ كما تصورت ـ حيث يسمونها Break dance ) وفرحت بهؤلاء كما فرحت بأولئك، ولكن يا ترى: هل هذه المهارات الأصيلة (فى جنيف) أو المستوردة (شباب نادى الجزيرة فى دهب) تصب فى وجود ماهر، حاذق، فعلا، متحد، أم أنها استمناءات جسدية تدور حول نفسها؟ أنا لا أشك فى العلاقة بين هارمونية الجسد وهارمونية الوجود،لو كان ذلك مقصودا وتدربنا عليه منذ البداية، وهذا غير وارد فى تصورى فى مثل هذا النشاط،  فأتصور أن هؤلاء الشباب ـ عندنا ـ قد أغلق عليهم وعيهم حتى صارت المسألة كلها ـ على قدر علمى وملاحظتى ـ سيرك آدمى جميل،

وأعبر لابنتى عن تاريخى القديم مع هذا القبقاب ذى العجلات، وكيف استعرته من صديق ـ رحمه الله ـ بمصر الجديدة، وكيف اختليت بنفسى فوق سطح بيتنا المبلط غير المستوى ، وكم وقعت ووقعت حتى كدت أكسر عظامى عدة مرات، لكنى وحتى الآن ما زلت مستعدا أن أعاند من جديد، ويبدو أن ابنتى صدقتنى، وأن رغبتى مازالت قائمة، وهذا صحيح، فاشترت لى بما ما تبقى معها من نقود قبل ركوب طائرة العودة مباشرة اشترت لى حذاء ذى عجلات (تطور القبقاب الآن)، وقد فرحت به جدا، للذكرى، ولأنها تذكرتْ رغبتي، لكننى لما رحت أجربه فى السر بعد عودتنا ـ فى هذه السن، اكتشفت تيبسى وخطورة التمادى، لكننى ـ ولا تقل لأحد ـ ما زلت أحاول، ومع تحفظى على جدوى مهارة الشابين على الطوار، فقد انحنيت لهما ـ سرا ـ إعجابا وقبلت وساطتهما لأتصالح على جنيف، لكن قبول الوساطة لا يعنى نجاحها.

ونعود للمخيم، ونتوه، ونجده بعد لأْى، فيفتح لنا الرجل السويسرى الألمانى وهو نصف نائم، وبعد شخط ونفخ وطيبة وتسامح، يعود يكمل ما كان فيه مما لا ندرى،

أطل علىّ وجه هولندى يشبه هذا الألمانى المنتفخ الصدغين وهو يفتح لنا بالصدفة فى عجالة، وأحسب أن الهولندى والألمانى أولاد عوممة حتى فى اللغة، لكن الذى أحضر وجه الهولندى هو  الحركة  التى استقبلنا بها الرجل ” فتحٌ ٍبالصدفة من شخص متعجل”آ

أول ما وصلنا بالسيارة إلى هناك، أمستردام (سبتمبر 1969) صادفْنا بيتا متواضعا فى الضواحى يؤجر صاحبه حجراته لأمثالنا من أبناء السبيل على قدر حالهم، وكان مديره بحارا ـ أو لعله صاحبه ـ وقد رجحتُ بغير دليل، أنه أمى (مستحيل؟؟ لا أعرف)، وقد وشم ذراعيه وصدره بما ينبغى لبحّار أمّى (هكذا قررت شخصيا)، ووجدنا إيجار الحجرة شديد الرخص لى ولزوجتى وزميل إيرانى (رافيانى) وزوجته وزميل مصرى (المرحوم د. وجيه اليحكى)، فما صدقنا، فتركنا أشياءنا عنده ومضينا مسرعين إلى جولة التعرف والاستطلاع، وإذا بنا نكتشف أننا قد ابتعدنا بما يهدد عثورنا على العنوان من جديد، لكن المثابرة فى المحاولات استمرت حتى رجعنا إلى البيت حوالى العاشرة مساء، وكنا قد علّــمنا الباب بسقاطة تتدلى منه ومقبض قديم مكسور، فجعلنا ندق الباب دقا عنيفا متواصلا ونحن نسمع صوت صاحب البيت وأصحابه وربما نزلائه يغنون ويضحكون سكارى هائصين. نحن متأكدون أنه البيت وأن أشياءنا فى الداخل، وهذه الأصوات الصاخبة هى أىضا فى الداخل، ولا أحد يفتح. جلسنا على الثلاث درجات التى تتقدم الباب، وقلنا نعاود الطرق دقيقتين كل خمس دقائق حتى لا يتعوّدوا على الطرق المنتظم، والدنيا لا تزال فى الداخل تضرب تقلب، ولا أحد يفتح. ومالَ بعضنا على بعض واستسلمنا لاحتمال النوم على السلالم الثلاث، لكن الأصوات علت أكثر فأكثر، فقدرنا أن قتالا قد نشب بين الصاخبين، وأنه لا بد أن يكون ضاريا، قد لا ينقصه إلا استعمال السلاح الأبيض والأسود جميعا، قلنا ليلة لـن تمر، وإذا بنتيجة الشجار تنتج عن “هبوط اضطرارى” لأحد أطراف  الصراع عدوا على السلالم ثم خروجه مندفعا كالقذيفة قاصفا الباب وراءه، لكن منْ!!، كانت قدمى قد قفزت إلى العتبة قبل رزعته بقليل، فحالت دون إغلاق الباب، ولم أحاول أن أتبين ما لحق قدمى من أذى. صعدنا نتنفس الصعداء وعرفت مرة أخرى لماذا سموها “الصعداء “، وتأكدنا أنه المنزل، ووجدنا أشياءنا حيث تركناها، كما وجدنا البحار فى عز عزه، لم يهتم بنا أصلا، بل لعله لم يرنا، فقد كان فى حال، فلم نجد جدوى من المطالبة باعتذار أو الحديث عن عتاب، ونمنا، ليس فى الحجرات التى أراها لنا، وانما حيثما وجدنا ما ننام عليه ـ فى أى مكان، وحين استيقظنا وجدنا الرجل مستيقظا قبلنا متعجبا كيف دخلنا (وربما”مَنْ نكونً؟)، وهو فى غاية الصداع والأسف، حاول أن يتنازل عن الأجر مقابل ما لحقنا. رفضنا، وشكرناه رغم كل شئ ، فقد كان ابن بحر حقيقى (على وزن ابن بلد)، لكن للصحو حدود، وكان الصنف شديدا على ما يبدو.

  ذكرت كل ذلك وأنا ألاحظ مقابلة هذا السويسرى ذا اللسان الألمانى، وهو يتركنا إلى ما كان فيه بعد أن فتح لنا، ربما مصادفة مثل الآخر.  قلت لذاكرتى: ما هذا، وكيف استطاعت اندفاعة صاحب المخيم هنا راجعا محتجا، أن تستدعى اندفاعه نزول السلم هناك متدفقا مندفعا ؟

 فسبحان من جعل من كل حركةٍ حكاية!!، وفى كل اندفاعة شبه، ومن كل ترابط مغزى.

حين التففنا فى المخيم المهجور حول طاسة الشواء، والأولاد منهمكون فى إعداد “العشاء الأخير “سنحت الفرصة لاسترجاع بعض مواقف الرحلة، اقترح بعضهم – لا أذكر من – أن يعلنوا رأيهم فى شخصى بمناسبة افتراقنا غدا، ما المناسبة؟ ما الذى شجّعهم؟ هل اقتربت منهم أكثر؟ هل تشجعوا أجرأ؟ هل حققوا هم من الرحلة ما عجزت أنا عن تحقيقه على الرغم من أنه كان هدف الرحلة الأول ، أن أتعرّف عليه فى أرض محايدة، وسط نبض ثقافة مغاير؟

ولست أدرى أى جو من السماح جعلهم يتحدثون بلا تردد لعله: التعب، والجوع، وقرب النهاية، ورائحة الشواء، وخلو المخيم جميعا. لن  أحدد الأسماء : أولا لأنى لا أذكر مَنْ بالضبط قال ماذا، فإذا ذكرت بعضها فأنا لا أريد أن أحدده.

 أسمتنى إحداهن “الطاغى الطيب”،

وأجابت أخرى: “لكنه مُحتمل”

فأضافت الثالثة أن مشكلة صحبتى “أنه لا يمكن التنبؤ بما أفعل”

فردت أخرى: أنى حين أخطئ مندفعا يصعب تصحيحى، ولكنى حين أخطئ هادءا فثمة أمل فى حوار.

 قبلتُ كل ذلك، بل وفرحت به، على الرغم من أنى لم أوافق على تماما.

أيضا لم أقاوم.

تعشينا “العشاء الأخير” واحتوانا الكوخ جميعا هذه المرة.

وأمضينا الليلة الأخيرة فى خيمة واحدة،

 دافئة بأنفاسنا وذكرياتنا جميعا.

الخميس 13 سبتمبر 1984

أصبحنا ونحن راضون عن كل ما كان، وما لم يكن، ودعنا الأولاد وودعونا، وتواعدنا أن ينتظرونا فى الإسكندرية عند وصولنا بالباخرة، حيث كانوا سوف يستقلون الطائرة من جنيف، وتعاهدنا أن نقضى يوما فى الإسكندرية قبل السفر إلى القاهرة على اعتبار أن هذا اليوم ضمن الرحلة ، وبالتالى فالرحلة لا تنتهى بالوصول. فرحت من الفكرة التى تؤكد الفرض الذى أشرت إليه مرارا، وهو ضرورة التمييز بين الانتقال والارتحال، يمكن أن تنتقل ولا ترتحل، كما يمكنك أن ترتحل وأنت فى المكان.

منحناهم ـ بعد حسبة صعبة ـ ما تبقى معنا من نقود يمكن الاستغناء عنها، باعتباره “بدل تأخير”، ففرحوا بها لأنها جاءت فى آخر لحظة على غير توقع.

ركبتُ وأمهم العربة وأخذنا نلوح بالأيدى وكأننا قطعنا معهم عمرا آخر، وسط عمرنا العادى الممتد، أو عمرا موازيا لعمرنا الذى نعرفه.

ما أن اختلينا فى العربة بدونهم حتى أحسسنا بفراغ صعب، لكنه بدا فراغا طيبا، فرغنا منهم، وفرغنا إلينا، وعلمتُ أن الفراغ ليس دائما سلبا، بل هو عادة دعوة إلى امتلاء، أو هو ينبغى أن يكون كذلك، فجعلنا نقطع الطريق فى هدوء، فالوقت متسع، والتأمل واجب والجو صحو، ففضلنا أن نسلك الطريق العادى ـ لا السريع ـ حول ضفاف البحيرة (ليمان) متجهين إلى لوزان فمونتريه، وتذكرنا كل ما كان فى العام الماضى، وتوقفنا مع المزاحمين فى “مونتريه” دون أن نزاحم، فما كان غرضنا إلا أن نقولها فى صمت: نقولها للناس والطبيعة، نقول شكرا، وقد كان.

عاودنا المسير، وفى نيتنا أن نصل إلى فينسيا فى نفس اليوم، برغم هدوء الإيقاع، فقد كنا نقطع المسافات دون أن ندرى إذ يبدو أن المسير أصبح يحمل مقومات راحته واستمراره فى ذاته، فجعلنا نستنشق ريح جبال جديدة، على الرغم من أن عموم المنظر أصبح مألوفا. دخلنا فى نفق ممتد أكثر من عشرين كيلو مترا (على حسب ما شعرنا) إلا أنه كان نصف نفق بشكل أو بآخر حيث كان مفتوحا من جانب فذكرّنى بطريق عين الصيرة، وأيضا ببواكى مصر الجديدة كما بناها البارون “امبان” قبل حكاية الحى السادس والحى السادس عشر، وأيضا تذكرت بواكى سوق الحميدية فى دمشق، هو لم يكن نفقا إذن، فليمتد كما يشاء، فاعتدناه حتى أننا أسِفنا حين انتهى، ومررنا من نقطة الحدود بنفس السهولة التى دخلنا بها.

حين وصلنا الى سلسلة جبال “سان برنارد” مالت العربة تلتقط أنفاسها على الرغم من أنها لم تكن تلهث، وفى خلال ربع ساعة أو أكثر، حيث توقفنا، ساد صمت ثرى، كان مليئا بما كان. وشعرنا، دون كلام أيضا، أننا نحتاج عمرا بأكمله لنستوعب هذه الخبرة بما تستحق، ناهيك عن تحمل مسئوليتها، (و أحسب أن من بعض ذلك خروج هذا العمل “هكذا”(.

………………

………………

ونواصل الأسبوع القادم استكمال الفصل الثالث: “الجَمَالُ تتجدّدُ طزاجته

 

تعليق واحد

  1. يحضرون رغما عنهم

    في الحضور

    من يغلق نوافذه

    يرتد الي نفسه 

    منفصلة

    رغم حضورها 

    من ورائه!!!

    من يفتح نوافذه 

    يتعرف علي انينه

    يبحث عن اصله

    عن وصله

    يدرك الادراك

    يهرب 

    يحاط

    يعاود الهرب

    تحاصره نفسه

    اصله

    وصله

    يواجه بحتم العبور

    الي كهف الوجود الناضح

    كي يبدأ لأم الاصل

    بحتم الوصل.

    يبزغ ضوء وهاج

    يهديه الي حتم الطريق

    الي الطريق

    عند حدود

     مفترقات الطرق

    يتمسك 

    بأهداب الاصل

    تحاول ان تجذبه قوي حلزونية

    كي تصرفه

    عن الصراط

    يسقط

    ليقفز

    اذا صدقت

    ارادة اليقين

    لا يأتي 

    يتأتي اليقين 

    الا في رحلة الظلام 

    النور!!!

    كي يعرف

    يدرك 

    حتم الادراك

    حتم الكدح

    حتم الوصول

    حتم اللأم.

    تصله رسالة

    ان الذي فرض عليك الحياة

    لرادك الي ميعاد

    وأن الوعد يتحقق

    وأن الارض يرثها

    من عبد

    عرف

    أدرك 

    وصل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *