الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الثالث: الجَمَالُ تتجدّدُ طزاجته (2)

ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الثالث: الجَمَالُ تتجدّدُ طزاجته (2)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 24-7-2024

السنة السابعة عشر 

العدد: 6171 

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الثانى: “الموت والحنين”

     الفصل الثالث

الجَمَالُ تتجدّدُ طزاجته (2)

الإشكال عندى هو أننى أتمتع الآن بقدر من الحرية، مع هذا الكم من الإنجاز مما يقربنى أكثر وأكثر من مواجهة مسئوليتى عن وجودى ومحاسبة نفسى عن حقيقة إنجازى،

وحين أعلن بعض أفكارى هذه على بعض من حولى .. مترددا خائفا، أواجَه بما أتوقع من أنى لابد “طماع” لا يرضينى “كل هذا ” .

فكان لزاما على أن أجمع نفسى قهرا وفورا، فأنتقل بها إلى حيث تصورت أننى يمكن أن ” أقرر“.

السفينة: أدرياتكا ـ البحر: الأبيض، 10/8/1986

……………

……………

هل أتخلص من آثار عدوان المتدينين الشكليين، من المسلمين الثلجيين، فتنطلق فطرتى تعلن إسلامها أمام غرور الغرب وزهوه بانتصاره المزعوم على الطبيعة، واحتكاره الغبى للتاريخ؟

 كنت قد سألت ابنى الأكبر محمد ـ وهو رفيق رحلة من نوع آخر ـ هل أكتب ـ فيما أكتب ـ عن الإسلام ـ إسلامى هذا، فقال دون تردد، وهو مسلم ولكن بطريقة خلاّقة، قال: “طبعا”. محمد ابنى هذا نادرا ما يبادرنى بالرد، أو الموافقة، إلا هذه المرة، وكأنه يعلن حاجته وحاجة جيله أن يسمع من مصدر آخر، وبلغة العصر، يسمع وصف ما أودعه الله فينا من فطرة نقية، نشوهها مرة بالتكنولوجيا، ومرة باختزال ديننا الحنيف إلى “طرحة”، أو “لحية” أو حتى “ظاهر شريعة”، وكأن ديننا الجوهر قد لصقوا عليه لافتة تقول: “لا يـُتعاطى إلا بواسطة الوصاة” أو لافتة مثل أدوية الجلد تقول “يستعمل من الظاهر”، قال ابنى “طبعا” وكأنه يتصور أنى قادر بما سأكتب على الوقوف فى وجه هذه الموجة التجارية والهروبية التى أغرقت الصفحات بمداد ومعلومات أشد سوادا مما كتبت به، حتى الكتّاب الأحرار الكبار أمثال زكى نجيب محمود وحتى يوسف ادريس لم تفتهم فرصة الكتابة فى هذا الاتجاه بتراجع بيّن  أو بتلفيق سطحى، أنا لا أتهمهم بالنفاق أو ركوب الموجه، ولكنى أعذرهم لتقهقرهم أمام تقدم السن وإحاطة المخاوف….، سواء كان الخوف من الوصاة على الفكر، أو من اقتراب الموت، وهم إذْ يغازلون الإسلام على “كبَرْ” أكاد أسمع باطنهم يقول: بما أننا لم نفلح ـ قديما ـ فى أن نتحول عنه، فمن أدرانا؟ الحيطة أوجب!!

قبل مغادرتنا القاهرة، فى نفس يوم الرحيل، كان علىّ أنا وزوجتى أن أزور جارة قديمة لنا، أصيبت بشلل نصفى قبل سفرنا بيومين، ونُقلت إلى مستشفى حديث يملكه ويديره بعض أقاربى من المتدينين المستثمرين الأطباء المهرة، فذهبت فى زى الرحلة، وهو زى غير مناسب لمثل هذه الزيارة وسط هؤلاء القوم، وقابلت ابنة عمتى الطبيبة الأستاذة المديرة الفاضلة، فأوصيتها بجارتنا خيرا فى غيبتى، حيث أنى مسافر اليوم. فقالت الدكتورة بنت عمتى المديرة جدا: إلى أين؟ فقلت : أتعرّى فى الجبال فى حضن الطبيعة بالقرب من الله، قالت فهو “الحج” (ونحن فى الخامس من ذى الحجة) ففكرتُ أن أجيب بالإيجاب، والأغرب أن زوجتى كان قد خطر ببالها أن تجيبها نفس الإجابة دون تفكير ـ ودون كذب ـ أننا فى سبيلنا فعلاً إلى حجٍّ ما،  قد شعرت أننا صادقين (زوجتى وشخصى).

 حين أدينا الفريضة، كنا ـ تقريبا ـ فى نفس “حالة التجرد للتلقى”، رحت أتساءل هل يا ترى يتفجر الإسلام الفطرة فى قلوب الحجيج هكذا كما يفجره السفر إلى بلاد الله لخلق الله، وهل ياترى ـ بعد أداء الفريضة ـ تنفع الحجة تلو الحجة فى الاقتراب من الفطرة عمق الفطرة ، أم أن التكرار يفقد الخبرة نبض الطزاجة ؟

 الله وحده يعلم ماذا يتفجر فى البشر هنا وهناك، وهو وحده الأعلم  بمغزى الحج .

لا أنسى شعورا قريبا من ذلك  شعرت به أثناء المشاركة العالمية لمشاهدة مباريات كأس العالم لكرة القدم عبر الأقمار الصناعية، ليس حجّا هذا،  لكنه يذكرك بالحج،

تمتد يدى إلى زر المذياع فى العربة الخاصة هذه المرة أختبر الموجات الأدق التى تربطنى بالعالم أثناء ترحالى، فأسمع من لندن خبر موافقة مجلس الشيوخ الأمريكى على تخصيص مبلغ وقدره 295 ألف مليون دولا كميزانية للتسليج هذا العام (1986)، وأن السيد السند ريجان شخصيا ليس مسرورا للتخفيض الذى لحق بالرقم الذى كان قد اقترحه!! كذا؟! كذا؟! فيرعبنى الرقم، ويرعبنى أنه للتسليح،

أراجع نفسى: إذن، فأى قرار أنا ذاهب لاتخاذه؟ وها هو السيد ريجان يقوم عن البشر جميعا بالواجب. هذه القرارات التسليحية المليارية، التى لا راد لها إلا بمثلها على الجانب الآخر (كان ذلك قبل انهيار الاتحاد السوفيتى) ونحن: أنت وأنا، نضحك على أنفسنا بالجرى حول الملعب وكأننا نشارك، مع أن أسماءنا لا تـُدرج حتى فى الاحتياطى، ثم نضحك على أنفسنا ونحن نقول” نحن نقرر”، “أنا أقرر”، يبدو أن الضمائر أصبحت طبقات “هم يقررون”، هو يقرر”

إذن : لماذا التسلح لأمثالنا بالشئ الفلانى؟

 وماذا يحدث لو أن العالم الثالث كله، والرابع والخامس والسابع عشر، رفض أن يتسلح أصلا، أن يدفع مليما واحدا فى هذا العبث المجنون؟

هل سيعود أصحاب السلاح لاحتلالنا؟

وهل سلاحنا (بالمقارنة بهذا الرقم) سيمنعهم من احتلالنا؟

ماذا لو ركزنا أن نقصر حروبنا معهم على حرب العصابات فى حالة الاحتلال، بما يسمح لنا بأن نسرح الجيش العامل، ونوجه التجنيد الاجبارى إلى زراعة الصحراء والتدريب الدورى على حرب العصابات؟

حين تدعو لى أم مريضة شفاها الله عن طريقى أن أصبح وزير صحة أشفق عليها وأقول يا رب لا تستجب لأن أحلامى أن أكون وزير حربية حتى أنفذ هذه الخيالات!!

خيّل إلىّ لمدة ثوانٍ أننى عثرت على  القرار الذى أنا ذاهب لاتخاذه؟، ألا وهو: نزع سلاح العالم الثالث والرابع حتى العالم السابع عشر، مع زراعة الأرض وإخراج الألسن، ثم الاستعداد لحرب عصابات لا تنتهى إذا لزم الأمر!!!”

 سوف أكتفى بأن أقرر أن أكمل كتابة “الناس والطريق”

عائد أنا الى رحلتنا الأولى، وإن كانت إرادة السميع العليم قد شاءت أن أكتب نهايتها وأنا حالة كونى فى هذه الرحلة الثانية فلأفعل،

كنت قد تركتكم ونحن ننهى إقامتنا فى باريس؟

باريس فى 12 سبتمبر 1984

كالعادة، ورغم قيامى بدور المسحراتى، خرجنا متأخرين عما تعاهدنا عليه، فتركتهم يحمـّلون الأتوبيس وجلست على قهوة جوبلان أحتسى قهوة الصباح، وأودع الشارع والمقاعد وزجاج الواجهة وريح الحرية. وتوكلنا جنوبا.

عند بوابة الخروج من ضواحى باريس، ونحن نهم بأن نمتطى صهوة الطريق السريع، أشار الأولاد إلى حيث أمضينا ليلة العيد داخل الأتوبيس بجوار دورة المياه، أشاروا إلى “الموقع” بعتاب وامتعاض، بما يعنى “لا أعادها الله ليلة” فى حين أنى قد خفق قلبى لها (وكذا قلب زوجتى كما أخبرتنى فيما بعد)، وكأن هذا الموقع ـ بالنسبة لى ولزوجتى ـ قد أصبح ـ بمبيتنا فيه تلك الليلة ـ بعض دارنا، نحنّ إليها كما نحن إلى بيت أمضينا فيه العمر كله، ما أبعد ذلك عمّا شعر به الأولاد! . ما الذى جعل الأولاد “هكذا”؟ وجعلنا نحن “هكذا”؟ أهو العمر؟ أهو طعم تاريخ الشقاء الحلو؟ أهو استسهال الأولاد؟ أهو أنى بت فى هذا  العراء مختارا فى حين باتوا هم فيه مقهورين؟

لعله كل ذلك،

لأول مرة بعد أن عبرنا البوابة ودفعنا “المعلوم” أشار لنا رجل الشرطة أن نتوقف، ثم نذهب إلى ناحية على جانب الطريق، وقلت لنفسى: حصل، أخيرا سوف يطّـلعون على أوراق السيارة، ويا ترى، فلست متأكدا إن كانت تلك الرخصة المسماة بالدولية تغنى أم لا، فقد قرأت المواصفات اللازمة للقيادة فى الخارج، وكلها مواصفات شديدة الصعوبة، قد لا تغنى فيها تلك الأوراق التى يصرفها نادى السيارات بالقاهرة (وغيرها) بلا جدية ولا مسئولية. الشئ الوحيد الذى طلبوه منى على حدود إيطاليا ـ كما سبق أن أشرت ـ هو الكارت الأخضر الدال على التأمين لصالح الغير،

الشرطى يشير إلىّ أن تعال الى جانب وانتظر. صدعت للأمر،”ربنا يستر”، وأخذت دورى مع السيارات التى أشير إليها مثلى بالتوقف وكان أغلبها سيارات شحن ونقل، فسألت الجنود الطيبين: “ماذا هناك؟” فقال لى الوزن (ولم يقل العدد كما تصورت). فقلت فى نفسى الـله أكبر!!، صحيح أننا نحمل فوق سطح السيارة ما يجعلنا أشبه بسيارات النقل، لكن كل حمولتنا ليست سوى أدوات التخييم، وصحيح أن عددنا تسعة، لكن مِن هؤلاء التسعة طفلين، وغالبية الباقين من الأوزان غير المدعومة، طيب، لنفرض أنه  ثبت أن الوزن عندنا أكبر من المسوح  ماذا نترك؟ أو “من” نترك؟

تخاطَبَ الجندى الطيب مع الضابط الوسيم، ونظر إلينا، ولعله قرأ أفكارنا أو لعله وزننا بعينه الحرة، أليست عين الحر ميزان، وأشار لنا بالانصراف ومواصلة الطريق دون أن نصعد على “الطبلية” ويزنوننا كما البضاعة أو كما عجول التسمين.

أشفق علينا العسكرى الخواجة، فصرفَـنَا شاكرين، غير موزونين.

وهات يا جرى جنوبا جنوبا. نفس الطريق الذى جئنا منه من ليون، البداية مشتركة، لكن النهار له عينان، وكان المطر قد توقف، فكشفتْ فرنسا عن خضرتها اليانعة، والمتنوعة كما أعرفها،

تذكرت رحلة رأس السنة حين كنت فى فرنسا (68/69). تلك التى قضيتها فى جبال الجيرا، فقفز إلى ذهنى اسم البلدة التى عسكرنا فيها، فى مدرسة ثانوية للبنات، دون تلميذاتها طبعا، حيث كنا نعثر فى حجرات النوم بين الحين والحين على بعض الرموز النسائية، فنتمسك بها، ونتضاحك، ونتغامز، وحين تذكرت كل ذلك عدلت خط سيرى حتى أمر على هذه البلدة “دول” Dole بعد ديجون Dijon.

أخذت أتعجب من ذاكرتى هذه وكيف استعادت فجأة نبض تلك الأيام، خاصة وأن تلك الأيام ـ على ما أذكر أيضا ـ لم يكن لها نبض (ظاهر) يـُذكر،

لست أتذكر أنى سعدت بها سعادتى بذكراها الآن، بل لعلى حينذاك كنت مشغولا بأشياء صغيرة خطيرة حالت بينى وبين ما أسميه الآن نبضا!! فقد كانت القروش قليلة، والخبرة محدودة، والوحدة جافة، والغربة طاغية، والمفاجأة شديدة، لكنى ـ مع كل ذلك ـ وحين اقتربت من نفس المكان الآن بدأت أتحسس فى وجودى ذكريات ما، هادئة، رصينة، وقوية، ورائعة، فمن أين جاءت الآن؟

أنا لم أعش هذه الخبرات أيام كنت أعبُّ منها “هناك” “حينذاك”، فمن أين جاءتنى هكذا؟ كيف تتفجّر منى الآن. حتى كأنها جديدة تماما؟ . أبدو وكأنى لا  أتذكرها بمعنى الاسترجاع، وإنما كأنى أستعيد شيئا لم يحدث، وأتعجب لهذا الذى يصر أن يعيش تماما وأصلا فى “الهنا والآن”، بوعى إرادىّ محدد، وأتعجب أكثر لمن لا يعيش أصلا لا “هنا” ولا “الآن” ولا “هناك”، ولا “حينذاك”، فأكتشف أن هذا الكيان الحيوى المسمى الإنسان، اذا ما تفتحت مسام إدراكاته بقدر كاف، فلم يكتف بأن يـُدخل العالم الى ذاته من ثقب إبرة التعصب، أو يُخرج ذاته إلى العالم مترجمة إلى ما يعرفه عنها، مما يفرضه عليها، إذا لم يفعل هذا أو ذاك، وتفتحت مسام إدراكاته كما قلت، فهو يعيش متجدد أبدا، هو لايذكر أو يتذكر، وهو يجدد باستمرار جدله مع “الآخر”، ومع “الطبيعـة”، ومع “الكون”، يدرك ذلك أو لا يدركه فى حينه، هذا أمر آخر. لكنه إذا ما عاد إليه، سوف يعيد التعرف عليه، سوف  يجدده وهو يتجوّل فيه من جديدا، و لماذا يسمى ذلك ذاكرة أو تذكر؟ وهو ليس إلا ما دخل إليه من مسام وعيه الطازجة الـنشطة، فهضمه وتمثله، ثم احتفظ به فى هذا العمق الكامن حتى إذا عاد إليه نشّطه ليعايشه وليس استعاده ليعيده.

جعلت أتأمل مناظر مرت بى منذ أكثر من خمسة عشر عاما، وكأنى أكشف عنها هى هى فى داخلى بتفاصيل ما حسبت يوما أنها وصلتنى أصلا، ويعاودنى الحقد الوطنى ـ ما كل هذه الخضرة!!! كل هذه الزراعة، فائض الفاكهة، فائض الألبان.. وقد سبق أن تواترات أفكارى إلى مثل ذلك فى يوغسلافيا وسجلته فى هذه الرحلة، لكنى عدت أقارن وأقارن !!!!! ذكرتنى بحديث لاحق جرى على لسان زميل لنا أثناء زيارتنا بوسطن فى أزمة صديقى الراحل التى حكيت عنها طويلا.

………………

………………

ونواصل الأسبوع القادم استكمال الفصل الثالث: “الجَمَالُ تتجدّدُ طزاجته

 

تعليق واحد

  1. تصَّاعدي طوال الوقت
    وراء أي متناول

    هذا هو مصيرك

    قدمك محفورة في اعماق الارض 

    اراقبك طوال الوقت على مسافة

    رحلتك أبدية منه
    نحوه
    اليه

    كلما بعدت المسافة
    قربت الي رحابه
    وسط غمام
    المطلق
    المستحيل
    الممكن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *