نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 8-6-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 6125
(ثلاثية المشى على الصراط)
رواية “الواقعة” [1]
الفصل الخامس:
عقل بالى (1)
أخذت المشاكل تتصاعد بعد أن خانتنى ذاكرتى فى كل موقع، بدأت أول الأمر بنسيان أشيائى الصغيرة بالمنزل، البيت ستر وغطاء، وزوجتى صابرة حتى الآن، أما فى العمل فالأمر قد استشرى حتى امتلأت الملفات بالتأشيرات الحمراء تزيـن كل الصفحات وعرفت الأوراق الرجوع إلى مكتبى حتى تصورت أنها سترجع بعد ذلك وحدها دون أن يحملها الساعى إلىّ بعد المراجعة والتأشير عليها بما لا لم أعد أفهمه، ارتفعت الهمسات حتى أصبحت تلميحات علنية، أخذت شكل القفشات ذات المغزى، ثم أصبحت التعليقات تلقى فى وجهى مباشرة ولا شىء يوقظنى من ذهولى، وحتى الحمار الجنسى فى جوفى توقف عن هز ذيلة.
ذات صباح جاء الأستاذ نصحى عبد الصادق رئيسى المباشر وجذب كرسيا إلى جوار مكتبى، بدأ حديثه معى فى وداعة وأدب ظاهر مثل طلبة مدارس الفرير أيام زمان، …. وجهه ملئ بالرقة والجـد معا، رجل طيب بلا شك.
- صباح الخير يا أستاذ عبد السلام.
- صباح الخير يا افندم.
- كيف حالك اليوم؟
أى جديد تسوقه الأيام، وكيف أرد هذا الطارق وهو يجلس قبالتى طول النهار.
- مثل كل يوم يا افندم.
- أريد أن أتحدث معك على انفراد.
انـفراد؟ هل فى الأمر سر؟ تـرى هل لاحظ مشاعرى فى تلك الفترة التى انتهت؟ ماذا بينى وبينه من أسرار؟
- أنا تحت أمرك.
قلتـها ولم أتحرك من مقعدى فاقترب أكثر بكرسيه وقال هامسا.
- أنا أعرف محللا ممتازا ساعد صديقا لى يمر بمثل حالتك وشفى على يديه تماما.
- مثل حالتى؟ مالها حالتى يا أستاذ نصحى.
- كلنا معرضون لمثل هذه الأمور، والمرض النفسى لم يعد عيبا هذه الأيام إنه علامة حضارية، من منا يستطيع أن يتحمل كل هذه الضغوط، ..؟
- أنا علامة حضارية يا أستاذ نصحى؟. أى ضغوط وأى مرض تتكلم عنه؟
- لن تخسر شيئا وأنا على استعداد للذهاب معك.
يبدو أن الوصاية بدأت تـُـفرض علىّ من الخارج أيضا، لابد من مزيد من الحذر،
- إطمئن يا أستاذ نصحى لقد ذهبت من قبل للطبيب، وتبينت أنى طبيعى تماما، لن أشل عقلى مرة ثانية باستعمال تلك الأقراص، لقد توقف عقلى عن العمل وحده يا أستاذ نصحى دون حاجة إلى كيمياء.
- لا أقراص ولا يحزونون هو محلل نفسى ممتاز، لا يعطى أقراصا.
- إذن ماذا يعطى؟.
- لا عليك من التفاصيل، ولكن صديقى يقول إنه يحسن الاستماع ويبحث عن الأسباب، وإذا عرف السبب انحلت العقد والمشاكل.
- إذا عرف السبب ؟؟ ..كان غريب أشطر.
- مـَـنْ غريب؟
- آسف، لا شئ، الأمر غريب، ولا غريب إلا الشيطان.
- لست أمزح يا أخ عبد السلام، أنت صاحب أولاد، والهمس يزداد من حولك، والحالة بدأت تهدد عملك.
مزيد من اليقظة والحذر، التهديد أصبح علنا وليس عندى ما أضمن أن ينفعنى إذا أنا وعدته بإصلاح عملى، لم أعد أستطيع أن أحتفظ فى عقلى بأى رقم إلا لمدة ثوان لا تكفى لنقله من صفحة إلى أخرى. نسيت جدول الضرب، ولابد من الرضوخ ولو من باب المناورة أو التأجيل.
- شكرا يا أستاذ نصحى. سأحاول.
حاولت الانصراف إلى ما بيدى من ملفات ولكنه أكمل برقة وأدب دون تصنع.
- ماذا ستحاول يا عبد السلام يا أخى؟ إنك لم تسأل حتى عن العنوان.
- آسف كنت سأسألك فيما بعد.
-… أم أنك نسيت ما كنا نتحدث فيه؟
يعايرنى بالنسيان، لا مفر من التسليم قبل أن يذكرنى بمصائب أدائى فى العمل.
- أبدا، .. ولكنى لا أحب أن أزعجك بشئونى الخاصة.
- إسمع النصيحة، لم يعد هذا الأمر من شئونك الخاصة، وأنت على هذا الحال، أنت تعلم أنى أتلقى الإهانات من المدير العام كل يوم بسببك، اعتبرنى صديقك يا أخى، جرّب، هو أمر إدارى إذن، وليست نصيحة!!! لا مفر من التسليم.
-.. أنا تحت أمرك.
تناول الأستاذ نصحى ورقة من فوق الكتب وكتب فيها بضعة كلمات تصورت أنها إنذار بالفصل، كورها وناولها لى، أخذتها فى صمت وانصرفت بعد أن ربت على كتفى فى حنان.
جلست إلى مكتبى لا أجرؤ على فتح الورقة، حاولت أن أسترجع الحديث كله أو بعضه فلم أستطع أن أتبين إلا أن إنذارا رسميا قد وجه إلى، بدأت حالتى تهدد رزقى، فى يدى ورقة تؤكد ذلك، انتهزت فرصة أن أحدا من الزملاء لا ينظر إلى وفتحت الورقة فى هدوء.
الدكتور “….. “.. مستشار نفسى، الإستشارة بميعاد سابق، ما علاقة هذا الدكتور بعملى بالإنذار بالفصل؟ لم أسمع عن حكاية “المستشار” هذه قبل ذلك، هل هو مستشار فى اللجنة الثلاثية قبل الفصل؟ لا أملك التراجع حفظا على مرتبى ووظيفتى ولن أعدم فائدة فى أن يكون عندى عذر دائم لأخطائى فى العمل، الأمر الذى سأرفضه حتى الموت هو التسليم لتلك الأقراص مرة ثانية، أكد لى نصحى أفندى أن هذا المحلل المستشار ليس له علاقة بالأقراص، ولكن خوفى مازال قائما، لن أفعلها ولو كان مصيرى التسول على النواصى، شىء لله يا أم العواجز!!.
مر يومان وثلاثة وأنا أحاول أن أؤجل التجربة خوفا من المجهول، إلا أن نظرات الأستاذ نصحى المتسائلة كانت تلاحقنى مع تأشيراته الحمراء المنتظمة، حالتى تزداد سوءا، يبدو ألا مفر.
- التليفون دائما مشغول يا أستاذ نصحى، فكيف أحصل على ميعاد؟
- لا بد أن تطلبه إلا عشرة، ..
- إلا عشرة؟ ماذا تعنى؟.
- إنه يرفع السماعة فيما عدا آخر عشر دقائق من كل ساعة حيث يتلقى المكالمات ويعطى المواعيد،
- ولماذا يا أستاذ نصحى.
- حتى لا يقطع أحد الجلسة أثناء العلاج، ألم أقل لك إنه عمل جاد، ليس مجرد أقراص، أو تطييب خاطر.
إذن فهو عمل جاد، قالها وهو يطمئننى، إلا أن ترددى زاد، كان فى نيتى أن أذهب لمجرد الوقاية من الفصل، أما أن يأخذ أحدهم الحكاية جدا فهذا مالا أحتمله، بدأ الشك يساورنى فى أن الأستاذ نصحى نفسه كان من بين زبائن هذا المستشار، وإلا فما الداعى لكل هذا الحماس والدفاع؟ ثم إن معلومات الأستاذ نصحى تبدو”نفسية جدا”، من أين له بها؟ هل يريدنى أن أشاركه شيئا ما، هل يريدنى أن أكون مثله حتى لا يخجل مما فعل؟ لكننى لست مثله، هو إنسان يتكلم بالحساب كأنه يقرأ من كتاب، يعامل الناس فى رقة تدعو للشك، يلمع ذقنه كل يوم حتى أتعجب كيف يفعلها بهذه الصورة، تساءلت مرة أيام نشاط عقلى الساخر إن كان يستعمل الزلطة التى كانت تستعملها خالتي”نجيبه” فى تزليط قاعة الفرن بعد دهاكتها، إن كان هو يحتمل الوقوف أمام المرآة لإتمام هذه المهمة المعقدة، فهو لابد أنه كان يحتمل الخمسين دقيقة التى حدثنى عنها عند هذا”المستشار”، أنا لست هو، خاصمت المرآة منذ أخرجت لى لسانها، ليس عندى أدنى فكرة عن هذه الأمور”الجادة”، أحس أن عقلى قد تحلل بحيث لم يعد يحتمل أى نبش فى أنقاضه، أين المهرب؟
كلما زادت مخاوفى تعجلت الذهاب إلى المغامرة حتى أنتهى من هذه التخمينات والمحاذير.
* * *
أخذت موعدا عجيبا بعد محاولات أقرب إلى المناورات العسكرية، كان الموعد خمسة إلا خمسة، ما هذه المواعيد المضحكة؟ هل هذا من لزوم الصنعة؟ التليفون إلا عشرة والموعد إلا خمسة، لابد اننا لسنا فى مصر العزيزة، كيف يمكن أن تكون المواعيد بهذه الدقة فى بلد بهذه الفوضى؟ من أين لى بالأتوبيس أو حتى بالتاكسى الذى سيوصلنى إلا خمسة؟ لهجته كانت حاسمة ومحذرة فى نفس الوقت، هو شخصيا الذى أعطى الموعد بلا وسيط، ليس أمامى إلا احترامه بقدر ما شعرت منه بالاحترام.
* * *
قبل الموعد بأكثر من ساعة كنت قد وصلت إلى باب العيادة، وجدته مغلقا بعكس عيادة النطاسى السابق حيث كان المنظر أقرب إلى جمعية استهلاكية، يبدو أنى على وشك الدخول فى تجربة مختلفة فعلا، دققت الجرس، فتحت لى سيدة فى منتصف العمر ولم تدعـنى للدخول، سألتنى ماذا أريد، فلما أجبتها بأن ميعادى الساعة كذا طلبت منى فى رقة أن أحضر فى الموعد، انصرفت محرجا منبهرا.
أين أقضى هذا الوقت؟ أليس عند هذا الدكتور حجرة لأمثالى من الرعية التى لا تستطيع أن تحضر فى الموعد إلا حسب الاحتمالات اللوغاريتمية للمواصلات العشوائية؟ تركت لقدماى العنان مثل أيام زمان، وكان عقلى قد كف عن الفرجة والفلسفة والنظريات، كما كف عن التفكير أصلا، وربما عن الإحساس اليومى حتى بلمس الأشياء، لم تأخذنى قدماى بعيدا فانحرفت إلى أقرب مقهى بلدى ذكـرنى بأيام تجوالى فى حوارى سوق السلاح والسيدة، طلبت شايا” كشريا” مثل أيام زمان، أخذت اتأمل مـَـنْ حولى ممن يشدون فى أنفاس الشيشة أو الجوزة فى هدوء وإتقان، أو يرتشفون المشروبات الساخنة فى تأن وتأمل، ذكرونى بعلاقة غريب زمان بفنجان القهوة، الوجوه تغيب بين الدخان والبخار ثم تظهر فى وضوح هادئ، لا حظت أن عقلى بدأ يعمل بدقة، هكذا وحده، أبعد هذه الأجازة الطويلة يصحو فجأة بعد أن كاد أن يـُـكـَـهـّـن باعتباره لم يعد صالحا للاستعمال الآدمى؟ هل هى صحوة الخوف من المجهول؟ هل زال الكابوس تلقائيا؟ رجعت إلى القدرة على التأمل الدقيق والتربيط، يبدو أن مفعول هذا”المستشار” أكيد حتى شفانى “على الريحة”، لعل عدم السماح بالانتظار فى عيادته هو جزء من التمهيد للعلاج الذى أتى بهذه النتيجة قبل أن يبدأ، استعاد عقلى نشاطه وقدرته على الربط بين الأحداث، حاولت أن أتذكر بعض المواقف التى كان يخيل إلى أنها قد غرقت فى طوفان النسيان، نجحت بشكل ملحوظ، إلا أن أياما وأسابيع قد اختفت برمتها تحت القاع، نظرت إلى كوب الشاى الذى يكاد ينتهى وابتسمت، يا سلام!! منذ زمن لم أبتسم هكذا، رجع عقلى الساخر إلى نشاطه الحاد اللاذع حتى صور لى أن فى هذا الشاى مادة كيميائية تغسل الصدأ الذهنى، وأن كوبا آخر يمكن أن يتيح لى أن أفتح بقية خزائن عقلى، ثم خطر ببالى أن أغمس فى الشاى مفتاح الشقة الذى طالما عاكسنى وأنا أفتح الباب إلى درجة كنت أخشى معها أن يلحقنى الأستاذ غريب على السلم وأنا على غير استعداد للقائه، لمحنى الجالسون وأنا أهم بوضع المفتاح فى بقايا الشاى فتراجعت سعيدا بعودتى، فلتبق تلك الخزائن المجهولة مغلقة ما شاء لها الصدأ، وليرجع عقل بالى إلى نشاطه السرى الساخر حتى لو أصيب بالفلسفة، هأنذا أكتشف أخيرا أن لى عقلين على الأقل، واحد علنى يتكلم مع الناس وليكن اسمه “عقلي”، والآخر يتكلم فى الخفاء وسوف أطلق عليه”عقل بالى” مثلما كنا نقول صغارا، يبدو أن هذا الحل السعيد يمكن أن يسهـّـل علىّ ما سبق أن حيرنى لما تبينت أن هناك صدقين، وكذبين، وخوفين، وحبين فأكثر، تفسير مباشر: كل ذلك لأن لى عقلين على الأقل، يا حلاوة!! عقلى وعقل بالى، كنت أعلم من بعض قراءاتى القديمة أن المحللين النفسيين، مثل هذا المستشار الذى أنتظر لقاءه، يتكلمون عن الشعور واللاشعور فهل يا ترى أيهما يكون الشعور؟ وأيهما يكون اللاشعور؟ اللاشعور على حد علمى لا بد وأن يكون غير مشعور به (!!) وأنا شاعر بكل من العقلين بلا خلط ولا تردد، وفى نفس الوقت، لا بد أنى أتميز عن الناس بهذين الشعورين ياعم نصحى، كل الناس لهم “شعور” “ولاشعور” وأنا لى شعورين، فأيهما سوف يعالجه محللك المستشار يا عم نصحى، خصوصا وأنه فى الغالب مسكين مثلك ليس عنده إلا شعور واحد فقط؟! من يدرى؟ كلها ربع ساعة، ونرى.
نظرت إلى الساعة فوجدت أن الميعاد قد اقترب وحمدت الله أن يقظتى قد تمت قبل اللقاء الموعود حتى أستطيع أن أجتاز هذا الامتحان القادم بنجاح مناسب، وحمدت الله أكثر أنى انتبهت لهذه الصحوة قبل الكشف، حتى لا تختلط علىّ الأمور أكثر، فأحسب أن ذلك من مزايا التحليل النفسى وآثاره، ربما تمت الإفاقة خوفا من التحليل قبل التحليل، هذا فضل على كل حال، خشية اللقاء هى التى أجبرت عقل بالى على النشاط فجأة، ثم تابعه عقلى، أنا استطيع الآن أن اسمـِّـع جدول الضرب، ولا بد أنى أستطيع أن أؤدى عملى بكفاءة تختفى معها تأشيراتك يا أستاذ نصحى، ومن ثم تلميحاتك بالرفت إذا أنا لم أعالج،
ما فائدة أن أذهب إلى هذا المستشار بعد هذه الإفاقة؟ إجراء لن يـُـخـَـسـِّـر، أنا دفعت الكشف، من حقى أن أمارس قدرا من حب الاستطلاع، والأهم من كل ذلك إسكات الأستاذ نصحى، أسرعت الخطى حتى دققت الجرس فى نفس اللحظة التى فتحت لى فيها الباب، لعلها سمعت وقع أقدامى، يبدو من منظرها أنها ربة هذا المكان وليست ممرضة أو مساعدة، أدخلتنى إلى الصالون مباشرة، ناولتها ورقة الحجز محرجا بناء على طلبها، قالت لى دقيقة من فضلك وانصرفت.
لا يوجد غيرى فى المكان، شككت فى وجود الدكتور المحلل، هل أنا فى عيادة أو فى منزل؟ هذا الصالون وتلك التحف توحى أن هذا منزله وأن هذه السيدة زوجته، شعرت بالراحة قليلا حين أحسست أننى فى بيت، لابد أن ساكنى هذا البيت من البشر العاديين، لكن ما هذا الصمت الذى لا يقطعه إلا بندول ساعة الحائط فى الصالة، صوت البندول يقطع الصمت فى أول الأمر إلا أنه يضاعفه بعد حين، أو لعلنى فى مدفن مثل مدافن الناس الأكابر تخليدا لتقليد قدماء المصريين، كله جائز.
مع دقة ساعة الحائط فى الصالة، حضرت السيدة الفاضلة تدعونى إلى الدخول، لم أعد أطيق كل هذا النظام والدقة، راحت يداى تهتز مثل البندول وأنا أتجه إلى حجرة المكتب، تذكرت جلستى فى القهوة البلدى منذ قليل وكيف عاد لى عقلى يحسب ويفكر ويعلق، وتعجبت للفرق بين الموقفين، تساءلت: تـرى لو أنى دخلت إلى هنا مباشرة هل كنت سأصحو هذه الصحوة؟
المكتب جميل رقيق، والرجل يشبه المكتب كأنهما صنعا معا، كان جالسا فقام بنصف وقفة، لم يمد يده وإن كان أومأ برأسه نصف إيماءة، وابتسم لى نصف ابتسامة، كل شىء “نصف” حتى ضوء الحجرة، هى أيضا نصف مضاءة، مازلت مأخوذا بالنظام والنظافة والصمت والدقة، جلست قبالته عبر المكتب، قشعريرة تسرى فى جسدى رغم جو الحجرة المكيف، حاولت أن أستقرئ وجهه فلم أستطع، كل شىء بالحساب مثل الموعد والصمت وحركة بندول الساعة، يداه أيضا تتحركان بالحساب، وحتى تجاعيد وجهه مرسومة بالحساب، هبـت على ريح الشمال الباردة، وتذكرت أدب الأستاذ نصحى ورقته التى تبعث الشك، لابد أن هناك علاقة بين هذا المكان وبين ما آل إليه الأستاذ نصحى من رقة ناعمة مثلجة، لم أحتر هذه المرة فى تحديد الموطن الأصلى لهذا المستشار الدكتور المحلـل مثلما احترت سابقا مع زميله العصبى، أستطيع أن أجزم أنه من سلالة مستوردة من النرويج على وجه التحديد، النرويج دون أى بلد من بلاد الشمال الباردة، أما لماذا النرويج، فلأنى لا أعرف عنها شيئا.
انتظرت فترة طويلة بعد أن أخذ اسمى وعنوانى ومعلومات مستفيضة مثل الأستاذ الدكتور النطاسى السابق وزيادة، سأل عن عدد إخوتى وترتيبى بينهم ونوع رضاعتى، كدت أضحك إذ كيف أتذكر نوع رضاعتى إلا إن كان يقصد عبث خيالى بفردة اليمامة اليسرى لزميلتى آمال، ساد الصمت برهة حتى كدت أستأذن فى الانصراف إلا أنى نظرت فى ساعتى ووجدت أنه لم يمض سوى دقائق محدودة، مازال من حقى، وربما من واجبى أن أبقى، ماذا أفعل فى المدة الباقية يا ترى؟.
قطع هو الصمت مشكورا بصوت يكاد يخرج من بطنه، كان وجهه يحمل نفس التعبير طول الوقت، فلا بد أنه يتكلم من بطنه فعلا، قال فى هدوئه الدمث.
- الآن تفضل,عليك الدور، تكلم، .. هات ما عندك.
قلت فى دهشة.
- ماذا أقول؟ ؟
- قل ما بدا لك.
(رد عقلى بالى فجأة، وهو يلعب حاجبيه: “إحنا رجالك”).
إلا أن عقلى رد فى رزانه.
- أرسلنى الأستاذ نصحى عبد الصادق لما لاحظ كثرة نسيانى حتى أثـر ذلك على عملى، وهو رئيسى المباشر، ولكنى استعدت ذاكرتى منذ قليل والحمد لله.
خيل إلى أنه كان يعرف الأستاذ نصحى كما تصورت، لاحظت ذلك من خلجاته حين مر الأسم على سمعه ومضى يسألنى.
- متى استعدتها.
- قبل الحضور مباشرة.
سأل فى ثقة.
- هل أنت خائف، ..؟
(قال عقلى بالى سرا:” بل أنت الخائف”)
قال عقلى.
- استطعت أن أتغلب على أكثر مشاكلى فجأة، بعد أن كادت تهدد مستقبلى.
قال فى ثقة.
- أنت تحاول أن تقاوم العلاج منذ البداية.
(قال عقل بالى فى صمت وهويتذكر بعض القصص والنوادر، “هكذا خبط لصق”؟؟)
قال عقلى.
- فى الواقع أنا لا أعرف شيئا عن العلاج.
قال فى هدوء.
- أنت مصاب بفقد الذاكرة للأشياء التى لا يريد عقلك الباطن أن يتذكرها.
(قال عقل بالى “وأنت إيش عرفك بالباطن والظاهر” يا جهبذ !!!).
قال عقلى.
- لقد أدركت سر أخطائى.. وكان طمعى فى تسامح الأستاذ نصحى يجعلنى أتمادى فى الإهمال، هذه هى الحكاية.
استمر فى غير كلل.
- إذن فهى مسألة إدارية.
(قال عقل بالى: “بل، … ميتافيزيقية وأنت الصادق”).
قال عقلى.
- تقريبا، حتى اسأل الأستاذ عبد الصادق.
سكت فترة وكأنه يفكر، ثم بدا هادئا غير مكترث، ..
- على كل حال نحن تعارفنا وأنا تحت أمرك، وقتما تشعر أنى أستطيع مساعدتك.
(قال عقلى بالى: “قلنا حانبنى، وادى احنا بنينا السد العالى”).
قال عقلى:
- شكرا وآسف لإزعاجك ولكنى أريد بعض الاستفسارات عن طريقة العلاج.
قال فى وضوح:
- تأتى فى الميعاد وتستلقى على هذه الأريكة لمدة خمسين دقيقة، وتقول ما يخطر على بالك، ويتكرر ذلك مرتين أو ثلاثا أسبوعيا حتى تشفى.
(قال عقل بالى: “ياليتنى أنام الآن، أريد أن أجرب هذه اللعبه الجديدة، .)
وافق عقلى… فأعلنها بنفس الألفاظ لكنه توقف عند “أجرب”…
وافقنى الدكتور أيضا فأعجبت بديمقراطيته وصبره.
………………….
…………………
ونواصل الأسبوع القادم فى استكمال الفصل الخامس “عقل بالى”
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “الواقعة” الجزء الأول من “ثلاثية المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1977، الطبعة الثانية 2005، الطبعة الثالثة 2019) والرواية متاحة فى مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية – المقطم – القاهرة.