الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الثانى “ويا ليتنى أستطيب العمى !” (3)

ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الثانى “ويا ليتنى أستطيب العمى !” (3)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 29-5-2024

السنة السابعة عشر 

العدد: 6115 

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الثانى: “الموت والحنين”

 الفصل الثانى

ويا ليتنى أستطيب العمى! (3)

………………

………………

7 سبتمبر 1984 (عدنا لأيام السفر)

يلتف الجميع حول المائدة المستديرة، ويجئ ترتيبى بجوار عميد كلية طب جامعة فى ضواحى باريس، أذكر أن اسمه د. بورتوس (جان لوى)، ويبدو أن منظم الجلوس قد تعمد ذلك لأنى اكتشفت أن جارى هذا قد ولد وتربى فى ـ شبرا مصر ـ حتى ما يقارب الثانوية العامة، ثم لحقه أمر الله وأمر عبد الناصر ورجوع الأمور الى نصابها، أو الحق إلى أصحابه، أو الحذر من الغرباء، المهم أنه رجع إلى حيث ينبغى: إلى بلده، لكنه أبدا لم ينس، ولا يريد أن ينسى، وهو يعتبر نفسه مصريا بكل معنى الكلمة، وقد خفف ذلك عنى كثيرا، وإن كنت عجزت عن مشاركته انطلاقاته المرحة، على الرغم من كلامه بالإنجليزية معظم الوقت، وبالمصرية البلدية القح حين يميل علىّ يعلق على حديث لا يعجبه قائلا:”فوّت دى” أو يصدر حكما على مصير “مشروع طبى فرنسى مشترك”: بأنه سيتعثر فى الـ “معـلشّات”، ولا أشعر أنه ينتقدنا بقدر ما هو يصف نفسه كمصرى أصيل يحذق موقع “معلشى” فى وجودنا الإيجابى والسلبى على حد سواء، وهو مصرى إبن بلد يخلّق لغته الجديدة وهو يستعمل “معلش” بصيغة الجمع.(الـ “معلشات”).

حين حضر “البكوات” الذين يقومون بخدمتنا وإعداد المائدة أسقط فى يدى، فقررت ـ إيثارا للسلامة ـ أن آخذ نفس القدر من نفس النوع الذى يأخذه جارى بالضبط، حيث أنى رجحت أن هذا هو السبيل الأسلم تجنبا لأى مخاطر غير محسوبة، لكننى فشلت أن أضبط سرعة تناولى الطعام مع سرعة تناوله نفس الكمية، ثم إنه يكتفى بعينات فى حجم الريال القديم، فأفعل مثله مضطرا، ولكن ما أن توضع العينة فى طبقى حتى تختفى بقدرة قادر، بحكم العادة، فى حين تظل قابعة فى طبق جارى، تتناقص عن أطرافها بدلال متمنع، فأخجل من طبقى الفارغ وأمتلئ غيظا من عجزى عن تنفيذ قرارى السابق بالاقتداء بجارى حذوك القطمة بالقطعة، ولكن ما يملؤنى حرجا أن يتقدم “البك” النادل ليرفع طبقى الفارغ دونهم، ثم يفضحنى بأن يحضر طبقا فارغا آخر مع أن الأول كان نظيفا بلا شائبة وحياة النعمة، فأظل أنتظر انتهاءهم وهم لا ينتهون، إذ يبدو أن غداء العمل هذا هو أصلا للمناقشة وحل المشاكل المعلقة، وليس لما أفعل هكذا “كالمسروع” الذى يخشى أن يخطف منابه آخر إن لم يسارع هو بالتهامه، فأُرجع ذلك إلى عدم الأمان، الذى كنا نستشعره أطفالا من احتمال عدم كفاية الأكل لينال كل الحضور “مناباتهم”.

أذكر ـ ربما تفسيرا لما أنا فيه ـ أن توزيع منابات اللحم بواسطة أمى كان كثيرا ما يتم بطريقة عشوائية دون تخطيط يضمن عدالة التوزيع ووصول الدعم إلى أصحابه، فنحن سبعة أفراد، والفرخة  أربعة أرباع (لا خمسة ولا أكثر)، وأمى كانت دائما تغيب عنها هذه الحسبة حتى لو ذكّرها بها أحدنا، وبالتالى فلا ينال أرباع الفرخة إلا الأربعة الأوائل ـ ووالدى فوق الرؤوس. غير نصيبه المخفى وحده (بعد، أو قبل الأكل الجماعى، مما لا نعرف، ولكننا نستنتج)، وحين تدرك أمى أن ما تبقى من الفرخة لم يعد يكفى مَن تبقى من المتحلقين حول الطبلية، تبدأ فى توزيع الأجنحة، أو منطقة الوسط مما لا يجدى، فتعود إلى الأربعة الأوائل (باستثناء أبى طبعا) بنية أن تنتقص منهم، فالشاطر يكون قد التهم منابه قبل هذه المراجعة، ولا تتعلم أمى أبدا من تكرار هذه القسمة الضيزى، ولا ينفع التنافس على اختيار الجلوس جنبها لأننا لا نعلم من أى جهة ستبدأ.

جعلتُ أتذكر كل هذا وأنا أثنى نفسى عن العجلة فى تناول ما يلقى بطبقى، وكان أغْيَظُ ما يغيظنى أن يعتذر “قدوتى” عن طبقٍ ما، يبدو لى شهيا، فأحذو حذوه، وأعتذر مثله، رغم أننى لم أقل أننى سأقلّده فى الامتناع، وإنما فى الاختيار، لكن يبدو أننى رجحت أن “السلامة أولا”، وأجدنى أبلع ريقى كلما مرّ طبق نِفسى فيه، لكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه،

ويغيظنى أكثر ألا أتبين هذا الذى آكلـُه، أهو “كفتة” لحم مفروم، أم هو تشكيلة خضار معجون، أم هو “بهريز” سمك مطبوخ فى شرائح، فكلها مختلطة ببعضها بشكل فنى مُحكم،

ثم هذه الأشياء الصفراء والحمراء التى يمكن أن توضع أو لا توضع على الأطعمة، ناهيك عن يأسى أصلا من احتمال معرفة اسم أى مما ينتقل الى معدتى من “روائع الدسم” ـ (قياسا على برنامج: روائع النغم).

ينتقل الحديث من مشاكل بناء قصر العينى إلى زحمة القاهرة، إلى وحدة أشكال الجنون على الرغم من اختلاف الحضارات واللغات، المجانين كانوا أنجح فى التشابه العالمى، رائحةً، “وتناثراً، ووداً، ووداعة، مِـن هؤلاء العقلاء الذين يقتلون بعضهم البعض تحت زعم الدعاوى الإنسانية والحضارية،

ينتقل الحديث من فيلم وداعا بونابرت، إلى داليدا وشبرا والإسكندرية.

ويمضى الغداء على خير.

 فى طريق عودتنا يشكرنى الاستاذ الدكتور حلمى شاهين أنى “شرفت مصر خير تشريف، وأنى رفعتُ رأسه أمامهم”.

يا سبحان الله، أنا؟ كيف؟ ماذا قلت ؟ ماذافعلت؟ وأنظر فى وجهه فأنا أعرف كيف تنتقل عدوى المجاملة إلينا من هؤلاء  الخواجات “الكمّل”، فيخيّل إلىّ أنه جاد فى تعليقه، بل إن زوجته الفاضلة تضيف مثل ذلك، جبرَ الله خاطركُما، ” يا بركة العجز”.

فى طريق عودتى أضحك من دهشتى وانبهارى بما لا أعرف متذكرا انبهار الشيخ عبد الرحيم الكفيف، مقرئ ليالى رمضان فى بيتنا فى بلدنا. حين كان يسهّينا قبل السحور فيقوم يتمسح فى الحائط المصيصى الأملس، ويهمس لنفسه مُهَمْهِمًا أنه ” يا سيدى فهد الرجال، دا مدهوك بسمن صافى”. ثم يكاد يترنم بما يعلن بهجته باكتشافه، كان الشيخ عبد الرحيم، عكس الشيخ اسماعيل البرعى زميله السهران، فنانا يحذق العزف بالسلامية، ويستدرجه والدى ذات مرة إلى الحمام ليريه مفاجأة لا يستطيع مجرد تخيلها حين تهبط عليه مياه “الدش” من أعلى وكأنها معجزة المطر الصناعى، وكان الشيخ عبد الرحيم بعد أن تخلص من مخاوفه وحذره وقد خرج سالما المرة تلو المرة من تحت المطر دون أن يغرق، كان يعتبر أنه أصبح حقا مكتسبا أن يحظى بهذا الدش البارد الذى يخرج منه منتعشا فى ليالى الصيف، ويقسم أن قراءة “ربع” بعد هذا الدش يساوى ختم خاتمة بحالها.

وأرجح أنى،مثل الشيخ عبد الرحيم ، سوف أعتاد على ما يبهرنى من، مثل هذه الدعوة، لكنى أشك أنى يمكننى أن أحتفظ بالنشوة نفسها مثلما فعل الشيخ عبد الرحيم.

 ثبت لى صحة ذلك حين عدت إلى بلدى فدعانى أحد الزملاء من علية القوم (قومنا نحن هذه المرة) لأكون الضيف المتحدث فى غداء اللقاء الشهرى لأحد نوادى الليونز (الروتارى) ـ وكان ذلك فى مطعم بفندق هيلتون النيل، وكان المجتمعون ذكوراً دون الإناث فعلمت أن هذامن أول تقاليد هذه النوادى، ثم بدأت الطقوس بعزف السلام الوطنى، ثم أخبار النشاط، ثم الحديث على الطعام، وعرضت بعض آرائى مما حسبت أنها مناسبة، فاذا بى أكتشف من أسئلتهم ـ وعلى الرغم من احترامهم الضمنى لموقفى الفكرى (وهو سبب دعوتى) أكتشف أن أسئلتهم (فى الأغلب) ليست كذلك (ليست مناسبة)، وأقول فى نفسى: ها أنذا، نفس الشخص الذى خاف من الحائط المتحرك فى باريس، والذى حرص على تقليد جاره خوفا من السهو والخطأ، والذى تقمص الشيخ عبد الرحيم لاصقا خده بالجدار الأملس، هو أنا ضيف الشرف الذى يسألونى فأجيب، وعلى الرغم من حسن التقدير وسلاسة اللغة، ودفء الاستقبال، فقد شعرت أن الروتارى “هذا” ليس مكانى، وبدون الهجوم على ما يجرى فى هذه النوادى فإنى لم أفهم حقيقة جدواها، رغم أننى لم أشك فى طبيعة محركيها.

عدت إلى فندقنا وأنا محمل بالتساؤل: إذا لم يكن هذا، وذاك، هما مكانى، فأين مكانى؟، ألست أستاذا جامعيا، اجتماعيا!، طبيبا، كاتبا، عالما،… الخ، أليس هذا، وذاك، من مستلزمات ما هو ظاهر وجودى؟ فلماذا هذا الاستغراب، والحرج، والتجنب، والغرابة؟.. أفبعد كل هذه الممارسات الاجتماعية، وهذا النجاح المعلن، أجدنى فى نفس موقفى شديد العزوف عن كل ذلك، لم أحذقْه يوما، ولم أحبّه أبدا، ولا أعرف سبيلى إليه، ولم أفهم طبيعته، أو وظيفته، كل ذلك رغم اعترافى الأكيد أنه ضرورة اجتماعية فيها كثير من الخير والفرص، لكن أبدا، ويلح على تصورٌ أنه لابد أن ثمة مجتمعات أخرى، رقيقة أيضا، وعميقة أصلا، وبسيطة جدا، وأتصور أن ثم مجتمع اشتراكى،أو إيمانى، أو فطرى، أو تلقائى، يصلح لأمثالى دون أن يضغطوا على أنفسهم كل هذا الضغط.

 حاولت طوال خمس عشرة سنة مضت أن أحقق هذا “الفرض” تحقيقا عمليا على أرض الواقع، حتى  تصورت أنى نجحت، فاختلط مرضاى بتلاميذى بأسرتى بعمالى بشكل طيب ومباشر، ثم بدأت المضاعفات، لكننى أصررت على التحوير لا التراجع، وما زلت أمارس نشاطا “اجتماعيا” فى بعض هذه المجتمعات البديلة بعد تحويرها قليلا قليلا، لكنى أشعر أن هذا التحوير سوف ينتهى، خصوصا بعد رحيلى، حتى يعود الحوار إلى ما هو : “تجاذب أطراف الحديث” و”الأطعمة بغير اسم” و”الحوائط المتحركة” و “السائق السمهرى” ـ ويصبح كل ما فعلت مجرد ذكرى محاولة فاشلة، وأزداد اقتناعا أن أى إصلاح أو إبداع ثورى شامل معرّض لأن يسرق من داخله أو أن ينتكس. إلى ميوعة طفلية، أو كذبة نقيضية، مالم ينتشر ويتدرج ويتأصل ويواكب الفطرة معظم الوقت.

رجعت  إلى فندقى النظيف الجميل المتواضع، شاعرا بالخلاص، فعادت إلىّ رغبتى فى أن أنتهز فرصة غياب الأولاد لأعاود محاولة أن “أكـنّ” حتى أستتر فى أُنس نفسى، وقد كانت هدأة طيبة حدث فيها فض اشتباك بين أكثر من موقع، ثم عادوا، ثم انفصلنا بعد أن انضمت زوجتى لى، فصحبتها واعدا بمفاجأة، وقد أضمرت أن أعوضها بعض حرمان تلك الأيام، واكتشفت أنى مازلت جائعا، فأنا لم أتناول شيئا فى حقيقة الأمر من غداء ذلك اليوم العصيب.

 فى الشانزلزييه، مطعم بدورين، كم وقفنا أمامه ـ قديماسنة 1969 ـ نشاهد قائمة الطعام دون أن نجرؤ على الدخول، وها نحن قادرون على أن نفعلها من حُرِّ مالنا بعد خمسة عشر عاما، ولا أجد فى نفسى وأنا فى المطعم الفخم أية فرحة خاصة بقدرتى المالية، ولا أتذكر توجعا خاصا من زعم حرمان كنت فيه، إذ يبدو أن المسألة تتعلق بضبط جرعة الرغبة مع جرعة القُدرة، (واللى مامعاهوش ما يلزموش) مع تواصل إعادة التناسب كلما أمكن ذلك.

………………

………………

ونواصل الأسبوع القادم  استكمال الفصل الثانى من الترحال الثانى“ويا ليتنى أستطيب العمى” !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *