نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 15-5-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 6101
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين”
الفصل الثانى
ويا ليتنى أستطيب العمى ! (1)
وأخْجَلُ أَنْ تستبينَ الأمورُ فُأُضْبَطُ فى حُضْنِها، الغانية .
فأزعم أنّى انتبهتٌ، استعدتُ، استبقتُ ، استبنتُ، ..
(إلى آخرِهْ!!)
ويرقُصُ رقّاصُها فى عنادٍ، فتنبشُ لحْدَ الفقيدِ العزيزِ ، تُسَرّب منه خيوطَ الكَفَنْ .
أخبِّئها فى قوافى المراثى لأُغْـمــِدَ سَيْفَ دنوّ الأجَلْ .
……
فياليته ظلَّ طى المحالِ ،
وياليتَها أخطأتْها النبالُ ،
وياليتنى أستطيب العمى.
الخميس 5/6/1986 (يوم الكتابة)
البين عملنى جمل واندار عمل جمّال
ولوى خزامى وشيـّلنى تقيل الاحمال
أنا قلت يا بين والّله الحمل ما ينشال
لم أفهم – من قبل – كيف أن الفراق (البين)، أو الهجر، يمكن أن يصبح هو القائد الآمر (الجمّال)، ولا أنا كنت أتصور كيف يمكن أن أسلم له قيادى (جملا) مخزوما محملا بما لا أطيق، ولكنى رأيت ذلك رأى العين،
أكتب هذا الفصل، وقد بعدت الرحلة عنى عامين بالتمام، فَقُربت منى عمرا كاملا. فى “هذا اليوم” تحركت ذكريات قديمة مريرة وغائرة، فهزت ذلك السكون الزاحف على السطح: همودا ويأسا.
ذلك أنه لما طال الأمد، وجثم الموت، بدا لى أن أعظم حكمة يمكن أن أكمل بها أيامى هى أن أكف عن الحركة تماما: عن الكتابة، عن الحماس، عن الأمل، وعن الإصرار، وعن الحوار. خيل إلىَّ أنى بذلك أعيش الموت، وفرق بين أن تعيش الموت، وأن تموت، وأن تقرر الموت، قلت أعيش الموت، كما فرضته على رؤىته “فى” صديقى الراحل… ثم “فى” صلاح جاهين، ليس حزنا عليهم كما يحب الناس أن يتصوروا اختزالا للمشاعر، ولكنى قررت أنى أحق الناس أن أمضى بقية حياتى متفرجا ساكنا، وكأنى انتقلتُ إلى هناك مع “وقف التنفيذ”، فبدلا من أن أفرض بنفسى قَدَرًا غير مضمون مثل فعلة صلاح جاهين الرصينة، قلت أجرب قدرا ساكنا أراقب به ـ متفرجا ـ عبث هذه الأيام المفاجئة، ثم أرى:
ذلك أننى ما كدت أودع صديقى فى الفصل السابق حتى فعلها صلاح بمنتهى الشجاعة (وربما منتهى النذالة!!) . أنا لا أْعرف صلاح “معرفة” تسمح لى بأن أتحدث عنه وكأنه صديق، وإن كنت قد قابلته بضع مرات فإن ذلك كان يبعدنى عنه أكثر فأكثر، (بقدر ما كان يقربنى منه بعدى الجسدى عنه)، لكنه حين رحل (ولا أقول مات) ـ عمّق فىّ معايشتى لخبرة الموت، وكأنهما ـ صديقى فصلاح ـ قد أطلقا من داخلى إلى أعماقى تلك الصرخة المكتومة، المُفيقة الخاذلة، المتحدية الخبيثة، فتحرك المارد المتربص زاحفا، ساحبا وجودى إلى بؤرة السكون.
تحضرنى بقية الموال فتصل بى إلى ذروة الإفاقة :
قال: رِق الخطى ياجمل وامشى على مهلك.
دا كل عقدة لها عند الكريم حلال.
ليكن: أتسحب معه ـ مخزوما ـ إلى بؤرة الدوائر، حاضر: أرقّق الخطى، وأمشى على مهل، لعلى أرى أكثر وأنا فى جوف السكون، فيخيل إلىّ أننى همدت بلا اتجاه، ولا تيه ولاحركة، حتى الرفض الذى كان دائما “فعلا”. وجدته أنه قد قبع فى عمق اللافعل، بدا لى أن بعض من حولى قد لاحظ ما طرأ علىّ فتركونى وشأنى مقدرين منتظرين، يذكر لى إبنى الأكبر أنه قد أجل مفاتحتى فى أمر ما “حتى أفيق من موت صلاح جاهين” فتعجبت كيف أبدو “هكذا” أمامهم كتابا مفتوحا. حاولت أن أخفى نفسى فى مزاح، أو نقاش، أو عمل، بلا جدوى، وتصوّر ابنى أنه إنما فقد “عمه” صلاح، وما هو بعمه، وما صلاح بأخى، بل الأرجح أنه إبن لى رغم حكمته ورائع أعماقه، ثم إنى لم أرعب أبدا من الموت، ولا أنا رافض له أبداً. هذا الموت ـ موت صلاح بعد صديقى ـ لم يهمد حركتى إلا ظاهريا، فقد تحركت فى داخلى يقظة ساكنة، منسحبة، لكنها مليئة بزخمٍ ما،
هذا الحزن الهادر فى الداخل هو ثروتى طول عمرى،
فما لهم لا يرون ما وراء مظهر السكون؟
خجلت من هذا التعرى الفاضح، وكأن حزنى لم يعد ملكى، مع أنهم لم يحيطوا به كما هو، فرُحت أتسحب أمامهم لأمارس شكلا آخر من الحياة، لعله أقرب إلى ما يفعلون، لكنه بالنسبة لى، أبعد ما يكون عمّا أعرفه من معانى “الحياة/ الحركة/ التحدى/ التجاوز” إلا أننى اكتشفت أن ذلك التسحب المشارك ساعدنى أن أعاود الاختباء لأتستر على ما استيقظ فى أعماقى من موتٍ حى، فأخذت أطيل الجلوس “معهم” (أولادى) أمام التليفزيون الذى لا أحب فيه إلا ألوانه وبعض قديمه، ثم بعض الجديد ذا الرائحة القديمة، كما رحت أحل الفوازير وأتابع مغامرات “ماندو” و”وردشان”، وكأس العالم: حتى استطعت أن أقارن بنجاح نسبى بين مارادونا (الأرجنتين) وعزيز بو درباله (المغرب) وأنا لا أعرف فى الكرة “الليبرو” من “القشاش”، ثم عدت أستجيب للإدلاء بأحاديث صحفية من النوع الفاتر المُعاد بعد أن كنت قد قررت أن أتجنب مثل هذا النوع من الأحاديث “تحصيل الحاصل” ـ وكأنى أعدت بكل هذا النشاط القهرى تحريك ظاهرى لمجرد أن أدارى به صمتى الزاحف، فراح كل ذلك يصب فى “مركز السكون” فأزداد انسحابا منتظرا أمرا ما.
رويدا رويدا أكتشف أن هذه النقطة المركز ليست إلا بؤرة دوامة بالغة النشاط. هى لا تبدو ساكنة إلا لأنها تدور بسرعة أكثر من أن تُلاحـَـظ، ثم هى تبتـلع ـ فى صمتها الدائرى ـ كل ما يصل إليها من أحداث، وآمال، وخطط، ـ فتحتوى المستقبل كله حتى لو بدا بلا حراك.
هل رحلتَ يا صلاح ياجاهين فى لحظة شُحذ فيها وعيك حتى أدركت استحالة السكون واستحالة الوعى بهذه الحركة معا، فاستسلمت للزحف السرى الجاذب إلى عمق بؤرة الدوامة، لتتركنا ـ ياصلاح – فاغرى الأفواه، لا نكاد نشعر بكثبان الرمال المتحركة تحت أقدامنا؟ أنا على يقين ـ دون دليل محدد ـ من أنك لم تكتف بالاستجابة لنداء ليس من صنعك أنت، فما بلغنى ـ هكذا ـ منك وعنك أنك لم تودعنا مستسلما، بل متحديا مصمما، مخرجا لنا لسانك، حيث أقدمت شجاعا تحسم مصيرك بعد أن عجزت عن تلقى زخم إبداعك كله بما هُوَ، أتقمصك يا صلاح فأزعم أنك رفضت أن تموت بفعل الملل ـ بعد طول الصبر (الصبر طيب ـ صبرأيوب شفاه، بس الأكادة مات بفعل الملل)، كما رفضتَ إلا أن تحاول بنفسك رغم كل محاولاتك الرائعة السابقة. قررتَ هذا الاختيار لمّا نسيناك ـ شخصا ـ فى زحمة انبهارنا بنتاجك. فلم تجد عشا يحتويك بعد كل تحليقة من تحليقاتك، فاختفيت فى طيات السماء مثل طائر النورس الجميل بلا عشوش، ولا رفيق (طيور جميلة بس من غير وشوش، قلوب بتخفق إنما وحدها) .
هل كنت يا صلاح تجيب ـ بما فعلت ـ عن سؤالك إن كانت الحياة “كده كلها فى الفاشوش”؟ لا أوافق.
“طيب”!! فأين ـ حلاوة الشقشقة، رائحة نسيم الصباح، رقة السماح، دغدغة الفجر، همس الورود: ألست أنت الذى كنت تصارع مصيرك هذا بضده، فاتحا دائما باب الغد الحامل لألف ألف احتمال، ثم لم ترجح ـ فى النهاية ـ يابو صلاح إلا “هذا” الإحتمال بالذات، فى هذه اللحظة بالذات، فأستقبله أنا، “هكذا”!!
فكتبت أعاتبك يا أخى فسامحنى.
هكذا ألقانى رحيل صلاح ـ بعد صديقى سعيد ـ إلى ما تصورته سكون الحكمة، فإذا به دوامة الإنسحاب، وإذا بدوامة الانسحاب هى هى مركز الانطلاق. لم أدرك هذا التضمين الخفى إلا حين اضطررت لكتابة هذا الفصل تحت قهرالوعد والقصور الذاتى فأتذكر كاريكاتير صلاح جاهين اليومى الملـزم، فربما هو الذى حافظ عليه لنا طول هذه الفترة ـ حافظ عليه ما طال عمره رغما عنه من يدرى؟،
أمسك القلم لأواصل كتابة الرحلة، أو لأستجيب إلى تسجيل هذه السيرة الذاتية الضاغطة، أو لأحاول المكاشفة من خلال تلك المواجهة المتحدية.
مع دورات الليل والنهار تتسرب الحقائق من وعينا فلا يبقى منها إلا ما نقدر على استيعاب بعض أطرافه مما يدفعنا إلى الاستمرار بشكل ما.
ومع دورات الليل والنهار يعود إلينا ما يمكن أن يقترب منا لنعيشه أقدر. هذا ما كان. بعد هذه الإجازة الإضطرارية بعيدا عن القلم، والأمل، والحوار، والحركة،
بعد هذا الرضا بالتصنم أمام حقيقة الموت راح يدب فى “وجودى” انبعاث آخر، فنشطت حركة ما فى إتجاه ما، حركة لم أشعر أنها تمت إلى الحياة بصلة مباشرة، فهى لا تعـِدُ بنقله، ولا تلوّح باختيار، وأتبين احتمال أنها تكرار لنص قديم،
لعلّ من أكبر نعم الله علينا أن سمح لعظة الموت التى نتذكرها بالكاد كلما فقدنا عزيزا، جعلها تتسرب بنعومة واثقة،
عثرت أثناء بحثى عن الفصل الرابع فى هذا الترحال (أنظربعد) على ما جعلنى أضبط نفسى متلبسا بهذا التسرب العظيم .
وأزعم أنَّ القناعَ القديمَ تساقطَ حتَّى استبان المدارُ، يبشّرُ بالمسْتحيلِ:
إِذَنْ؟
وتسرى المهارُبَ تْنحَتُ درباً خفيًّا بجوْف الأمل ْ،
فأخْشَى افْتضاحَ الكمائِنَِ نسف الجسور، وإغراقَ مَرْكبِ عَوْدَتَنا صَاغرينَ ، فَأُمْسكُها، تَتسَحّبُ بين الشُّقُوقَ، وحَوْلَ الأَصَابع، َتمْحُو التَّضَارِيسَ بين ثَنَاياَ الكلامِ، تُخَدّر موضعَ لدْغَ الحَقَائقْ ، تَسْحَقُ وَعْىََ الزُّهَور ِ، ولحَنَ السَّناِبلِ.
مَنْ؟
لماذا الدوائرُ رنُّ الطَِّنينِ ، حَِفيفُ المذنّبِ ، يجرى ، بنفسِ المسارِ لنفس المصير، بلاَ مُستِـَقرْ ؟
لماذا نبيُع الْهُنَا الآن بخساً بما قد يلوحُ ، وليس يلوحُ ، فنجَتُّر دَوْما ُفتَاتَ الزَّمَْن ؟
لماذا الوُلُوجُ ؟الخُروجُ ؟ الدُّوار؟ لماذا اللِّماذا؟ ؟
فَمَاذَا؟
وأخْجَلُ أَنْ تستبينَ الأمورُ فُأُضْبَطُ فى حُضْنِها
الغانية .
فأزعم أنّى انتبهتٌ، استعدتُ، استبقتُ ، استبنتُ، ..
(إلى آخره!!)
ويرقُصُ رقّاصُها فى عنادٍ، فتنبشُ لحْدَ الفقيدِ العزيزِ ، تُسَرّب منه خيوطَ الكَفَنْ .
أخبِّئها فى قوافى المراثى لأُغْمِدَ سَيْفَ دنوّ الأجَلْ .
فياليته ظلَّ طى المحالِ ،
وياليتَها أخطأتْها النبالُ ،
وياليتنى أستطيب العمى
فهمت من شعرى أن الرثاء ، حتى الرثاء ، هو محاولة أن نخبّئ عن أنفسنا حقيقة الموت (أخبِّئها فى قوافى المراثى لأُغْمِدَ سَيْفَ دنوّ الأجَلْ).
خبّأتُ حقيقة الموت عنى، طنبلت عنها، (كلمة عربى جميلة عثرت عليها مؤخرا) فلاحت لى إمكانية العودة.
عدت إلى القلم حاملا عشقى للحياة، ،
خجِلا من سبق إعلان مغازلتى للموت،
راضيا بأى درجة من الغفـلة تسمح لى بالاستمرار.
(وياليتنى أستطيب العمَى)
أى غفلة هذه، وأى عمى يمكن أن أستطيبه والنتيجة أمامى تتحدانى لتصادُف عودتى للكتابة فى نفس هذا اليوم الحزين، 5 يونيو، حزيران الكلب. كنت أحسب أننى تخلصت من مرارته بما تحرك بى مع نصر أكتوبر من استعادة توازنى حتى الفخر والزهو بما هو أنا، نعم، مع نصر أكتوبر: بما صاحبه وسبقه ولحقه من عودة احتمالات الكرامة، ونسائم الحرية. لكن يبدو أن المرارة كانت قد تجمدت فى نخاع وجودى، منتهزة فرصة أننى على ألفة جاهزة بكل ما هو مؤلم، ربما لأبرر به وخز الرؤية ونزف الوحدة، أبدا… ذلك شئ آخر لا يبرره تكوينى المستهدف للألم والمرارة، شئ يعاودنى مع كل عام بهذه المناسبة التعيسة: خمسة زفت، يعود ليلبسنى بلزوجته الحارقة، منذ أن اقتحم كيانى داهسا كرامتى، ساحقا وجودى.
فى ذلك اليوم تحديدا أو فى تلك الليلة (7 يونيو 67) استبنت ما كان، ـ نعم هو هو نفس الشعور ما زال يعاودنى: يجثم على أنفاسى، هو نفس الغول يحتوينى من كل جانب بملمسه الرخو الحارق، وتشوهات سطحه الغائرة المعقدة مثل جوف حبة عين جمل عطنة. أنا لا أعلم تحديدا ما هو طعم منقوع الحنظل، ولا مذاق ماء النار، ولا رائحة نتن الجيفة داخل القبر، ولا كثافة لسع الزنابير الهائجة معا بعد هدم عشها مباشرة، ولا بشاعة التهام أسراب الجراد للأخضر الممتد، ولكننى أكاد أعرف أنه لو اختلط كل هذا بكل ذاك لما عبـّر عن عشر معشار ما اقتحَم وعيى ذالك اليوم حتى طمس معالمى داخل الكتلة من الخِزى المرير، والمهانة المفضوحة.
فى ذاك اليوم تعرى أمامى “والدى” الذى لم أخترْه، تعرى غبيا مغرورا وهو يتشدق بزعم تحمل مسئولية لا يعرف أبعادها ولا آثارها على واحد مثلى ـ فما بالك بالأرقّ حسا والأصغر سنا، والأكثر ثقة فى عنفوانه وحمايته، أحسست يومها ـ ولا مؤاخذة ـ أنى طفل أدفن رأسى بين ساقى والدٍ ضخم يرتدى جلبابا بلون النيلة، أدفن رأسى بين ساقيه احتماء به من مجهول، فإذا به يضغط على رأسى الصغير حتى يفقأ عينى دون أن أتصور إلا أنه يحمينى حتى من الرؤية، فأزداد غوصا بين ساقيه، فرحا بمزيد من الحماية، لكنى أكتشف أنه إذ أمسكنى هكذا مكّن منى أسفل أوساخ المشردين من الصبية الأوباش، يعرون مؤخرتى، فيعبثون بها تحت سمعه وبصره، و أزداد تمسكا به ودفسا لرأسى بين فخديه، ومع زيادة عارى وخجلى وعجزى أكاد أسمعه وهو يعلن عزمه على أنه سوف يغادر الميدان، (ويتركنى هكذا)، محنىّ الظهر، عارى المؤخرة، وأن هذه “هى مسئوليته”، عما كان!! فأرعب: طفل أعمى، مجروح الكرامة، فاقد الوعى، مطموس البصيرة، مشلول الحركة،، يتركنى أبى ـ مهما كان ـ هكذا؟ ساحبا ساقيه المرتعشين دون أن يشعر بالتفاف ذراعى القصيرين حولهما، فأزداد التصاقا بمخبئى الوحيد، حتى لو أدى ذلك إلى أن يتمادى الصبية الأوباش فى العبث بمؤخرتى، بإذنه، أو بعجزه. ياساتر،
أى ذكريات وأى عار، وأى قلب للأمور، والناس والتاريخ يحاسبون القادة مثل حسابات التجار، كم خسر وكم كسب، وماذا خسر وماذا كسب، مع أن الحساب الحقيقى ينبغى أن يتضمن أخطاء تجـُب كل ماعداها من إنجازات، كما قد يتضمن إنجازات تجب كل ماعداها من أخطاء، فإن لم يوجد هذا أو ذاك، فدع الحساب يتم بالقطعة، واحدة واحدة، وأكتشف أنى لـن أسامحه أبدا على هذا الموقف، ولا أعفى نفسى بالاعتذار بطفولتى، أو باستسلامى لأبوته، فأنا الذى غرستُ رأسى بين طيات ثوبه بلون النيلة، وأنا الذى فقأت عينى بالاعتماد عليه، وأنا الذى أطلت فى أجَله بتشبثى بساقيه، ومن فرط حدة عودة هذه المشاعر فى كل مرة، هكذا هى، أشعر أحيانا أنه حتى لو ذاب كلى وتلاشى جسدى فلن يزول طعم الحنظل هذا مع زوالى.
زاد من مرارة طعن هذا العدوان ـ عدوان أبى المفروض علىّ المقتِحمِ لو جودى- أنى سافرت سفرتى الأولى إلى باريس عام 1968 لأفاجأ بصور موشى ديان “البطل” وهى ملصقة على جدران باريس تعلن عن فيلمٍ ما، بطولة القرصان الأعور، وكلما أطل على وجهه بضخامته امتدت يدى إلى مؤخرتى أحاول أن أخفيها عن الأعين، فيصيبنى الغثيان.
حين أعود إلى باريس، أتابع عيونى وهى تبحث أول ما تبحث عن صور القرصان الأعور قاهر الآباش، وكأنها ستظل تطل علىّ فى عيون الخواجات بقية عمرى، أمد يدى أتأكد من وضع سترتى تستر عريى. أتابع عيون أولادى فلا أجدها تفعل مثلى، وأتساءل عن موقف هذا الجيل الذى لم يتذوق أصلا أمل الحرية، كما لم يتجرع بعد ذلك كأس الهزيمة بعد الخدعة، ولا أعلن لهم عن طبيعة ما أبحث عنه، ولا عن عمق سخطى على والدى الكاذب أو المخدوع (= سواء)، فلا هم سوف يدركون، ولا هذا مجاله.
أملتُ أن تكون رحلتى إلى باريس ذلك العام بداية تصالح مع جانب آخر من موقف غير شخصى. يخيل إلى أنى أعتبر رحلتى إلى باريس بالذات فرصة متجددة لإعادة النظر، لأنها كانت كذلك فى تلك السنة المزدحمة بكل هذه التغيرات (68/69)
……………………….
………………………